تدوين- إصدارات
صدر حديثاً في باريس كتاب بعنوان "صديق العائلة: ذكريات عن بيار بورديو" عن دار "جوليار"، للكاتب دنيس بوداليديس، والذي يقدم فيه سيرة جديدة للباحث السوسويولوجي الكبير، بيير بورديو، ويقدم مقاربة معرفية لنصوصه الفكرية.
ويروي الكاتب من خلال ذكريات صداقته مع إيمانويل بورديو، نجل عالم الاجتماع الشهير، تفاصيل توضح فكر بيير بورديو من خلال الأماكن والأشياء والقراءات والأعمال الجماعية التي رافقت نهاية مراهقته وبداية حياته البالغ، حيث كانت هذه الصداقة بمثابة ملجأ ومحور ونقطة انطلاق للمستقبل.
عام 1983، في ثانوية هنري الرابع في باريس، تعرف دنيس بوداليديس إلى إيمانويل بورديو، الابن الأصغر لعالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو (1930-2002)، أحد أبرز الفاعلين في الحياة الثقافية والفكرية في فرنسا، وأحد أبرز المراجع العالمية في علم الاجتماع المعاصر، فنشأت بين الشابين صداقة متينة سمحت لمن أصبح اليوم كاتباً ومخرجاً وممثلاً سينمائياً ومسرحياً بارزاً الدخول في المدار الإنساني لهذا المفكر الكبير.
لا يسرد بوداليديس في هذا الكتاب سيرة بورديو الذي كان لفكره بالغ الأثر في العلوم الإنسانية والاجتماعية منذ منتصف الستينيات من القرن الـ 20، ولا يستعيد كذلك ذكرياته ويومياته معه والفضاء الاجتماعي المحيط به، بقدر ما يمثل كتابه أيضاً مدخلاً حياً إلى أعمال عالِم الاجتماع، راوياً كيف أن رفقة مؤلف "بؤس العالم" و"الرمز والسلطة" و"التلفزيون وآليات التلاعب بالعقول" و"التمييز – التميز، النقد الاجتماعي لِحُكم الذوق" وسواها، ساعدته في تجاوز تصدعاته الداخلية، وعلى أن يجد لنفسه مكاناً في "مسرحه الداخلي الصغير"، ولو تحدث عن قضائه فترة العطلات المدرسية في منزل عائلة بورديو الريفي في منطقة البيارن بإقليم الباسك الواقع جنوب غربي فرنسا، وجعلِه هذه العائلة في الفترة ما بين الـ 20 والـ 30 من عمره عائلته الثانية.
وينصب تركيز بوداليديس في هذا الكتاب على بيير بورديو نفسه وعلى العلاقة المعقدة التي نشأت بينهما والتي جمعت بين الإعجاب والمهابة، راسماً في لعبة مرايا مزدوجة صورة لعالِم الاجتماع كأب ومفكر وعامل، ولنفسه كطالب مفتون بشخصية ومعارف والد صديقه ومكانته العلمية بعدما انغمس في كتاباته، كما يفعل الممثل مع شخصية يحاول فهمها أو فهم نفسه من خلالها، علماً أن إيمانويل، ابن بورديو، الشغوف بالموسيقى والأدب، لم يكن يتحدث عن والده ولم يتفاخر به أبداً أمام زملاء الدراسة، وأن الصداقة التي جمعت بينه وبين دنيس ظلت مستمرة حتى اليوم.
يلجأ بوداليديس في كتابه إلى خدعة من خلال استدعائه علم السوسيولوجيا، فهو لا يكتب عن شخصية عادية بل عن واضع مفهوم جوهري في العلوم الإنسانية، عنيت مفهوم الـ "هابيتوس" الذي شرح بورديو من خلاله كيف أن سلوكياتنا المختلفة وأذواقنا وممارساتنا وميولنا ولغتنا تعكس خلفياتنا الاجتماعية دون وعي منا، فبحسب موقعنا على خريطة رأس المال الاقتصادي (الثروة) والثقافي (المعرفة)، غالباً ما نتصرف بشكل يمكن التنبؤ به، لكن بورديو المدرك لهذه النماذج النظرية كان دائم الخشية أن يكون سلوكه هو نفسه متوقعاً، فهو واضع كتاب بعنوان "مسودة من أجل تحليل ذاتي" الذي "لا يُعد سيرة ذاتية"، غير أنه أفصح فيه عن شخصيته من خلال عبارة كان يرددها كثيراً "دون تكلف وتعقيد".
كان بورديو يحب المزاح والسخرية، ولم يكن يظهر بمظهر العالِم الوقور بل كان متواضعاً طيب المعشر، ومن هنا جاء تردده في أن يصبح شخصية أكاديمية نافذة وأستاذاً متسلطاً، ورفضه فرض آرائه وخياراته على أولاده، ولعب لعبة الإعلام في تغطية التظاهرات التي عمت فرنسا في ديسمبر (كانون الأول) عام 1995 إبان عهد الرئيس جاك شيراك، عندما خرج مئات آلاف المواطنين في تظاهرات وإضرابات عمت البلاد احتجاجاً على خطة كانت تقضي بإصلاح نظام التأمين الصحي والاجتماعي وإصلاح نظام التقاعد، أو حتى تحفظه عن الظهور في فيلم لجان-لوك غودار في مشهد عبثي يقرأ فيه رسالة من أب "الموجة الجديدة" في السينما الفرنسية، وهو يضحك قائلاً "لا أفهم شيئاً مما كُتب" وهو مشهد خلده بيير كارل في الفيلم الوثائقي "السوسيولوجيا رياضة قتالية".