تدوين-ترجمة: سعيد بوخليط
تقديم: توفِّيت فدوى طوقان سنة 2003، قبل ذلك وتحديدا عام 1990 صدرت باللغة الفرنسية، ضمن مجلَّد واحد سيرتها الذاتية من طرف دار النشر "الآسيوي"، وأعيد مؤخَّرا طبعها مرَّة ثانية.
مذكِّرات كتبتها طوقان من خلال جزأين بحيث صدر الجزء الأول تحت عنوان "رحلة جبلية رحلة صعبة" (1985)، ثم "الرحلة الأصعب" (1993) كجزء ثانٍ وتتمَّة لليوميات التي تضمَّنها عملها الأول.
وثيقة أدبية رسمت مرَّة أخرى حياة الشاعرة الفلسطينية المشهورة على امتداد العالم العربي، منذ إعلان وعد بلفور سنة 1917 (وهي أيضا سنة ولادتها)، غاية الانتفاضة الأولى.
جملة ذكريات، أتاحت عبر نافذتي السيرة الذاتية والتاريخ، إمكانية قراءة حياة الشاعرة الفلسطينية ضمن سياق سوسيو-تاريخي أفضى نحو المأساة الفلسطينية منذ مائة سنة، بين 1917 حين الإعلان عن وعد بلفور، غاية بداية سنة 2000 لحظة اندلاع الانتفاضة الثانية.
مع ذلك، حتى مع اختيار صيغة الكتابة وفق النموذج المسمَّى بـ"السيرة الذاتية"، فقد استبعدت نظريا الكتابة فقط عن الذات، بل استحضرت فدوى طوقان بالموازاة مع تاريخ معركتها الشخصية كي تحقِّق وجودها كامرأة للآداب خلال حقبة ومحيط غير ملائمين كثيرا، تاريخ نضال الفلسطينيين قصد الاعتراف بحقوقهم. مما أضفى طابعا حسيا على التَّداخل بين تحرير امرأة شابّة وكذا التاريخ الفلسطيني على امتداد القرن العشرين.
روت طوقان في "رحلة جبلية" عن سعيها إلى التحرُّر من: "القالب الفولاذي الذي يضعنا فيه الأهل، ولا يسمحون لنا بالخروج عليه. القواعد المألوفة التي يصعب كسرها، التقاليد الخالية من العقل، والتي تضع البنت في قمقم التفاهة"، كي تغدو إحدى الأصوات النسائية النادرة للقصيدة الفلسطينية.
كيف بوسع فتاة ولدت سنة 1917 ونشأت بين أحضان أسرة ميسورة في نابلس تغلق على الفتيات تحت رعاية سيِّدة وَرِعة (الشيخة) وباردة داخل بيت عائلي كبير وجميل قاعدة مع استثناء قليل، ثم مع ذلك تصير هذه الفتاة شاعرة؟
لقد كابدت فدوى طوقان كطفلة غير مرغوب فيها وسط أسرة تقليدية، صحبة عشر إخوة تحت كنف أبٍ مستبدٍّ وأمٍّ خاضعة. ولدت في نابلس سنة 1917، التي تقع شمال الضفَّة الغربية. ترعرعت داخل فلسطين الانتداب، وعاينت إنشاء إسرائيل، ثم ظروف بلد في غمرة الحرب.
أيضا تختبر أسرتها حربا داخلية نتيجة سلطة أبيها ويوسف أحد إخوانها. هكذا حُظِرَ على فدوى طوقان الذهاب إلى المدرسة حين بلوغها سن الثالثة عشرة. السَّبب؟ أهدى لها شابٌّ وردة. تروي هذه المرحلة الأساسية من حياتها وكذا عنف عقوبتها ووضعها: "أصدر حكمه القاضي بالإقامة الجبرية في البيت حتى يوم مماتي".
منذئذ، تحوّل تاريخها إلى: "بذرة لا ترى النور قبل أن تشق في الأرض طريقا صعبا. وقصتي هنا هي قصة كفاح البذرة مع الأرض الصخرية الصلبة؛ إنها قصة الكفاح مع العطش والصخر"، و"إقطاعيي العائلة"، مثلما وصفتهم، الذين يرتدون لباسهم وفق الطِّراز الأوروبي، يتحدَّثون بالتركية والفرنسية والانجليزية، يتناولون الطَّعام بالشوكة والسِّكِّين، يقعون في الغرام، لكنهم يتأهَّبون استعدادا قصد التدخُّل إن حاولت إحدى فتيات الأسرة تأكيد شخصيتها.
رصدت فدوى طوقان سمات شخصيات "منشطرة إلى نصفين": نصف تقدُّمي بينما الثاني محافظ وذكوريّ، مما بعث عمق غضبها وبالتالي ردَّة فعل تمرّدها.
تتجلَّى إحدى مناحي الجزء الأول الأكثر أهميَّة من سيرتها في تصوير الجماعة البورجوازية لمدينة نابلس بين سنوات 1930-1940، جماعة تصفها بكونها "صاحبة ثقافة بسيطة"، وترى بأنَّها أضحت "كائنا غير طبيعي يعادي المجتمع".
إبراهيم طوقان (1905-1941)، أحد إخوانها، ومن بين مؤسِّسي التيَّار الوطني والثوري للشعر الفلسطيني سنوات الثلاثينات. اشتهرت عربيا قصيدته "موطني"، بعد أن اشتغل عليها موسيقيا الملحِّن محمد فليفل، ويعتبرها اليوم العديد من الفلسطينيين نشيدهم الوطني.
اعتبرت إبراهيم أستاذ الأدب العربي في المدرسة الوطنية ثم جامعة النجاح وكذا الجامعة الأمريكية في بيروت، منقذها من "الانهيار الداخلي"، حسب كلماتها الخاصة. أوَّلا بفضل طبيعة مشاعره نحوها وكذا تشجيعاته، ثم تدريسه لها بكيفية جدِّية للغاية القصيدة العربية الكلاسيكية طيلة سنوات.
أولى أشعار فدوى طوقان عبارة عن مرثيات. دون مفاجأة، انطلقت الفتاة الشابة تبوح بأسرار نفسها وفق نمط رئيسي للشكوى، من خلال بحثها الكليِّ عن "ما يسمى بمهابة الأسلوب والبلاغة" قبل اكتشافها ثم تبنِّيها المقطع الشعري الحرّ متأثِّرة بشعراء الحداثة كإبراهيم ناجي، أبو القاسم الشابي، علي محمود طه، التيجاني، وكذا نازك الملائكة الشاعرة الطليعية: "تخلَّيت عن الشكل المطوَّل والإيقاع المنتظم للبيت الشعري الكلاسيكي، وتحوَّل اهتمامي نحو الشعر الجديد".
صارت هذه القصيدة الجديدة أدبا مقاوِما، تكشف عن مضمونها بشعر حرٍّ، تخلَّص من قيود إيقاع العروض الكلاسيكي، والتبلور مثل مجاز تطلُّع ثوريٍّ.
شهر أبريل 1936، إضراب عام وبداية تمرُّد على البريطانيين دام ثلاث سنوات. جَسَّدَ هذا الإضراب، في نظر فدوى طوقان، إشارة بداية صراع سياسي ومسلَّحٍ ساهمت فيه الجماهير الشعبية.
كتابة يومياتها خلال فترة الاستبداد الاستعماري البريطاني بمثابة عنوان تؤكِّد فيه فدوى طوقان إحباطها وعجزها، ولن تعرف "زخم وعذوبة" الالتزام سوى بعد حرب يونيو 1967، ثم الاحتلال الإسرائيلي الذي جعلها تدرك بوعي هويّتها "المجتمعية": "قط تحت نير هذا الاحتلال، وحينما شرعت في قراءة قصائدي أمام الجمهور، أدركت قيمة وكذا حقيقة دلالة قصيدة تختمر وتغدو يانعة من باطن جِرَارِ الشعب".
بعد هزيمة 1967 واحتلال الضفَّة الغربية وقطاع غزة من طرف إسرائيل، صارت قصيدتها سياسية. حينها وصفت فدوى طوقان شعبها وكذا حياتها السعيدة في نابلس التي استُهلكت عبثا، ثم تواصل دعمها قصد تعضيد لَبِناتِ ذراع "أطفال الحجارة".
بعد نهاية الجزء الأول من السيرة، يبدأ الجزء الثاني تحديدا يوم 5 يونيو، اليوم الأول للحرب الإسرائيلية-العربية سنة 1967. تقارب فدوى طوقان حيثيات تلك اليوميات "المشؤومة" في نابلس: المقاوَمة، الهزيمة وكذا الانهيار التام للضفة الغربية وغزة والجولان وسيناء. ثم تحقَّقَ انبثاق زمن مفارق نتيجة حياة ثقافية ثرية ومستفيضة داخل بلد محتَلٍّ، في خضمِّ عدَّة نقاشات ولقاءات مع شعراء وكُتَّاب وفنَّانين: "مثَّلت لهم السياسة والانتماء إلى وطن، إشكالية لبقائهم، بقاء البلد والكائن الإنساني"، رغم المساعي المتواصلة للسلطات الإسرائيلية قصد الحيلولة دون حدوث أيِّ تقارب فكري بين الفلسطينيين.
كم هي المرَّات، تكتب فدوى طوقان: "تلقيّتُ إبَّانها دعوات للمشاركة في بعض التَّظاهرات الأدبية الوطنية، في الناصرة أو القدس، لكني اصطدمت ثم اصطدمت مع القوانين العسكرية التي تمنعني من مغادرة نابلس خلال ذلك اليوم تحديدا".
تستحضر الشاعرة أصدقاءها الفلسطينيين والإسرائيليين، وما أبانوا عنه دائما من تعاطف ومساندة. تحدثت بتفصيل – لم يخلُ من نبرة السخرية – عن لقاءين مع موشي دايان الذي تمنى أن "تحدِّثه عن الشعر"، قبل وبعد لقاء مع جمال عبد الناصر الذي توخى اكتشاف موضوع لقاء طوقان مع وزير الدِّفاع الإسرائيلي، مثلما حاول موشي ديان معرفة طبيعة السرّ الذي يمكن أن يأتمنها عليه الزَّعيم المصري.
أيضا، سردت تفاصيل لقاءاتها مع أنور السادات وكذا ياسر عرفات الذي أعربت له عن تطلُّعها كي يعمّ السلام منطقة الشرق الأوسط.
رغم تطرُّق الصَّفحات الثلاث الأخيرة إلى مؤتمر مدريد سنة 1991 وكذا أماني السلام التي خابت بسرعة، فقد انتهى السَّرد التِّذكاري لهذا العمل بمقاطع شعرية حول انتفاضة الحجارة تحت عنوان: "شهداء الانتفاضة"، التي تكتسي حاليا نبرة جديدة:
"وماتوا واقفين
متوهِّجين على الطريق
متألقين كما النجوم، مقبِّلين فم الحياة
أنظر إليهم في البعيد يعانقون الموت من أجل البقاء
يتصاعدون إلى الأعالي، في عيون الكون هم يتصاعدون
وعلى حبال من رعاف دمائهم
هم يصعدون ويصعدون ويصعدون
لن يمسك الموت الخؤون قلوبهم
فالبعث والفجر الجديد
رؤيا ترافقهم على درب الفداء
أنظر إليهم في انتفاضتهم صقورا
يربطون الأرض والوطن المقدس بالسماء!"
توفِّيت فدوى طوقان في نابلس يوم 12 دجنبر 2003. حصلت على عدَّة جوائز أدبية مثل جائزة الشعر الدولية في باليرمو (إيطاليا)، جائزة القدس للثقافة، وكذا جائزة الآداب سنة 1990 من طرف منظمة التحرير الفلسطينية، وجائزة الإمارات العربية المتحدة خلال نفس السنة، وكذا جائزة التشريف الفلسطينية للشعر سنة 1996، وللأسف لم تترجم نصوصها الشعرية إلى اللغة الفرنسية.
هامش:
مرجع المقالة:
Francoise Feugas: Orient XXI. 13 SEPTEMBRE 2024.