الإثنين  01 كانون الأول 2025

نوافذ عفيف قاووق الانطباعية على السرد الفلسطيني المعاصر

2025-12-01 03:04:57 AM
نوافذ عفيف قاووق الانطباعية على السرد الفلسطيني المعاصر

تدوين - فراس حج محمد

في خضم المشهد الأدبي العربي، يحتل السرد الفلسطيني مكانة لافتة؛ إذ يصبح سجلاً لذاكرة شعبٍ يتعرض منذ أكثر من مائة عام إلى ظلم ساهمت فيه منظومة دولية كاملة، فكان وثيقة نضال، وصرخة هوية في وجه محاولات الطمس والمحو التي لم تتوقف. ومن رحم هذا المشهد، وُلد "الأدب المقاوم" ومنه تفرّع "أدب الأسرى" الذي هو أكثر تفرداً وألماً، هذا الأدب الذي يقص حكاية ولدت خلف القضبان، أو يُكتب خلف القضبان ويتجاوز الأسوار العالية؛ ليصل إلى العالم حاملاً معه تجارب إنسانية فيها الكثير من صور المعاناة.

في هذا السياق، يأتي كتاب عفيف قاووق، "نافذة على الرواية الفلسطينية وأدب الأسرى" الصادر مؤخراً عن دار ناريمان للنشر في بيروت، لصاحبتها الشاعرة والإعلامية اللبنانية ناريمان علوش، ويقع الكتاب في (220) صفحة تقريباً، ليقدم للقارئ العربي إطلالة بانورامية على تنوع العوالم السردية المتجاورة والمتداخلة، وقدّم له المحامي الحيفاوي حسن عبادي.

وبما أن الكتاب يضم قراءات لأعمال سردية غير روائية، فتناول مجموعة قصصية، وكتباً ذات ملامح سيرة ذاتية، فقد اقتضى أن يكون عنوانه عاماً سرديا وليس خاصا بالرواية، فقد تناول ثلاثة من مجالات السرد الفلسطينية: الرواية، والسيرة بنوعيها الذاتية والغيرية، والقصص القصيرة، فجاء العنوان مربكاً نوعا ما، وقاصراً؛ فلا يمثّل مادة الكتاب، وما اشتمل عليه من قراءات.

لا يطرح الكتاب نفسه دراسة أكاديمية صارمة، إنما- كما يسميه مؤلفه- مجموعة "قراءات". وهذه التسمية مفتاح لفهم منهجية الكاتب ورؤيته، إذ يضع نفسه في موقع القارئ الذي يسعى إلى أن يشاركه انطباعاته الصادقة عما قرأ وتأثر به. إنها رحلة قارئ شغوف، يتنقل بين نصوص الرواية الفلسطينية، سواء تلك التي كُتبت في فضاء الحرية النسبية أو تلك التي وُلدت في عتمة الزنازين، ليقدم للمتلقي خلاصة تأثره وتفاعله معها.

عدا أن مصطلح "القراءة النقدية" يشير إلى الانحياز الشخصي، والتحليل الذاتي غير الملتزم بالموضوعية المطلقة والاستناد إلى "المنهجية العلمية المنضبطة بالقواعد والأصول النقدية"، فلن يكون الكاتب فيها معنياً إلا بما تراه الذات، وربما مرّر أفكارا شخصية بدافع الاستطراد غير المنضبط، فأسقط كثيرا من القناعات الشخصية على ما يقرأه من كتب وما يحلله من أعمال أدبية. لكن هذه "القراءات" بطبيعة الحال غير حرّة تماماً ومنفلتة من أي معايير، إنما معاييرها شخصية بحتة وإن كانت نابعة من ذوق أدبي خبير ومدرّب.

يهدف الكتاب، كما توحي مفردة عنوانه الرئيسية، إلى فتح "نافذة" تتيح للمهتمين والمتابعين، وحتى لغير المتخصصين، أن يطلوا على صورة موجزة وثرية للمشهد السردي الفلسطيني المعاصر بتنوعاته الثلاثة المشار إليها أعلاه، وقد جاءت القراءات تؤكد هذا المعنى المقصود من "النافذة" التي تحيل إلى شيء من المعرفة، وليس المعرفة التفصيلية المعمّقة التحليلية، وهذا يتساوق مع المنهج المتبع في كون الكاتب يقدّم "قراءات انطباعية ذاتية"، ولذا فإن لها هذا الطابع الشخصي في تفسير تلك الأعمال والإضاءة عليها.

لذا، فإن أول ما يلفت النظر في كتاب عفيف قاووق إعلانه الصريح عن طبيعة منهجه في التمهيد. فهو يتجنب بوعي كامل عباءة الناقد الأكاديمي الذي يصدر الأحكام ويضع المعايير، ويختار بدلاً من ذلك هوية "القارئ". يقول بوضوح: "لا أقدم نفسي ناقدا يضع الأحكام والمعايير، بل قارئا يسعى إلى أن يشاركك انطباعاته الصادقة عما قرأ وتأثر به. إنه رحلة قارئ يبحث في النصوص عن ومضات الحقيقة والجمال، ويحاول أن يدون أثرها في وجدانه، هذا الاختيار النقدي الذي يحاول أن يجعل من طريقته "منهجاً" ملزما للذات في التعامل مع الكتب المقروءة، يمنح الكتاب طابعاً خاصاً، ويمكن تفصيله في النقاط التالية:

التشاركية في فعل القراءة: بتقديم الكاتب نفسه كقارئ، يكسر الحاجز النفسي الذي قد يشعر به القارئ العادي أمام النصوص النقدية الأكاديمية، فهو لا يخاطب نخبة من الأكاديميين، بل يتوجه إلى "القارئ العزيز" ، داعياً إياه إلى رحلة مشتركة لاستكشاف عوالم العمل الأدبي. هذا الأسلوب يجعل الأدب الفلسطيني، بكل تعقيداته ورمزيته، أكثر قرباً وإنسانية، وربما أبعد من ذلك، بحيث يعيد الاعتبار للنقد، فيجسر الهوة ما بين القارئ وبين هذا النوع من الكتابة، فالقارئ عادة لا يقبل على قراءة الكتب النقدية أو الاحتفال بها، فهو يريد المتعة الروحية في عمل أدبي يرى فيه نفسه وأفكاره ومشاعره، لا أعمالا تشرح له كأنه تلميذ مدرسة تلك الأعمال الأدبية، ولذلك لا يحبّذ القارئ العام تلك الكتب التي تتوسط بينه وبين ما يريد أن يقرأ، فجعل الكاتب نفسه قارئاً، فقد جعل من نفسه شخصاً مساويا وصديقا للقارئ المفترض.  

منهج "القراءة الانطباعية": يركز الكتاب بشكل أساسي على الأثر الذي يتركه العمل السردي في وجدان المتلقي، فلا ينشغل المؤلف كثيراً بتفكيك البنى السردية أو تحليل تقنيات الكتابة بشكل تقني صارم، بقدر ما ينشغل بتتبع الأفكار والمشاعر والقضايا الإنسانية الكبرى التي تثيرها النصوص. هو يبحث عن "ومضات الحقيقة والجمال" ، وعن قدرة الكلمة على لمس الروح وتشكيل الوعي، وينبع هذا من الالتزام الأول بمبدأ التشارك مع القراء الأصدقاء.

القراءة كشهادة: يصبح هذا المنهج في سياق الأدب الفلسطيني، وخاصة أدب الأسرى، شكلاً من أشكال الشهادة. عندما يقرأ قاووق رواية لأسير فلسطيني، فإن "تأثره" يتجاوز حدود الانفعال الجمالي ليصبح تفاعلاً مع تجربة إنسانية قصوى. قراءته هنا تغدو صدى لصوت الكاتب الأسير، ووسيلة لنقل معاناته وصموده إلى خارج جدران السجن.

الانتقائية الذاتية: يقرّ قاووق بأنه لا يزعم "الإحاطة الكاملة بالمشهد الروائي الفلسطيني"، بل يقدم ما تيسر له من قراءات. هذا الاعتراف بالذاتية يحرره من عبء المسح الشامل الذي لا يستطيع أن يلمّ به كاتب واحد مهما اتسعت قراءاته ودوائره البحثية، ويسمح له بالتركيز على أعمال معينة تمثل له دلالة معينة. هذه الانتقائية، المبنية على ذائقة القارئ المدرّب الخبير، تقدم "تشكيلة" غنية ومختارة، ربما تصلح كمدخل لمن يريد استكشاف هذا العالم الأدبي، أو على الأقل تضع له بعض الإشارات لتدله على عوالم أكثر تنوعا واستفاضة لإكمال التعرف على المشهد السردي الفلسطيني.

من خلال هذه المنهجية، استطاع عفيف قاووق تحقيق هدفه، وتقديم شهادة شخصية على قوة الأدب في مواجهة أقسى الظروف، ونافذة تطل على روح فلسطين التي تتجسد في روايات بعض كتّابها وكاتباتها.

يتألف الكتاب من جزأين؛ يخصّص المؤلف الجزء الأول لاستعراض وتحليل نماذج من الرواية الفلسطينية المعاصرة، مقدماً مشهداً متنوعاً يعكس تطور هذا الأدب وقدرته على معالجة قضايا متعددة تتجاوز السردية الكلاسيكية للصراع. يمكن رصد عدة محاور أساسية في قراءاته، واشتمل هذا الجزء على (14) رواية لكتاب وكاتبات، وجاءت متنوعة بين كتاب يعيشون في فلسطين وكتبوا رواياتهم من داخل الجغرافيا الفلسطينية، وآخرين كتبوا رواياتهم في الشتات، وموزعة بعدالة أيضا بين الكتاب والكاتبات، فكان من بين هذه القراءات (6) قراءات لروائيات.

يبرز قاووق كيف أن الذاكرة والمكان بتنوعاته شخصيتان محوريتان تدفعان السرد وتُشكلان وعي الأبطال. يتجلى هذا بوضوح في تحليله لروايات تتناول النكبة وما تلاها، حيث يصبح استدعاء الماضي وتفاصيل المكان المفقود فعلاً من أفعال المقاومة ضد النسيان. الرواية هنا، كما يقدمها قاووق، هي محاولة "لإعادة بناء وطن متخيل" عبر الكلمات، وطن حي في الذاكرة الجمعية لا تستطيع الجغرافيا السياسية محوه.

تتتبع قراءات قاووق تحولات صورة البطل الفلسطيني في السرد. فمن صورة الفدائي المثالي الذي لا يعرف التردد والخوف والضعف، إلى الشخصيات المركبة التي تعيش صراعات داخلية وتمزقات نفسية واجتماعية، وربما السقوط كونه إنساناً من لحم ودم ومشاعر ورغبات وأمنيات وتشوّقات، فيسلط الضوء على روايات تتجرأ على نقد الذات، وتطرح أسئلة حول الانقسامات الداخلية، والفساد، والتغيرات الاجتماعية التي طرأت على المجتمع الفلسطيني تحت الاحتلال وفي الشتات. هذا النضج في تصوير الشخصيات يعكس، بحسب رؤية قاووق، نضج الرواية نفسها وقدرتها على تقديم رؤية نقدية شاملة لا تكتفي بتصوير الصراع مع الآخر الخارجي، وبهذه الطريقة يصبح القارئ قادرا على أن يرى الصورة بجوانبها كافّة.

يولي قاووق اهتماماً خاصاً للكتابات النسوية في فلسطين، وكيف استطاعت الروائيات الفلسطينيات أن ينتقلن بصورة المرأة من مجرد رمز للأرض والخصوبة والصمود، إلى شخصية إنسانية معقدة لها صوتها الخاص وصراعاتها المتعددة. يناقش كيف أن هذه الروايات لا تتناول فقط نضال المرأة ضد الاحتلال، بل أيضاً نضالها الاجتماعي داخل مجتمعها من أجل المساواة والتحرر. إنها تكشف عن طبقات متعددة من القمع، وتُظهر المرأة كذات فاعلة تصنع مصيرها وتقاوم على أكثر من جبهة.

يحلل قاووق كذلك تلك الروايات التي تعود إلى فترات تاريخية مفصلية في التاريخ الفلسطيني، مثل نهايات العهد العثماني أو فترة الانتداب البريطاني. يوضح كيف أن هؤلاء الروائيين لا يقومون بعمل تأريخ للأحداث فقط، بل "يعيدون كتابة التاريخ من وجهة نظر إنسانية"، مستخدمين الخيال الروائي لملء الفراغات في السجل التاريخي الرسمي، وإعطاء صوت لمن تم تهميشهم، فتشكل الرواية التاريخية الفلسطينية، من خلال نوافذ قاووق النقدية، معركة سردية لاستعادة التاريخ وتقديمه للأجيال الجديدة برؤية وطنية وقومية ذات طابع إنساني، بلا أي تهوين أو تضخيم، وبعيدا عن المقولات الشعاراتية الكبرى.

من خلال هذه المحاور، يقدم قاووق للقارئ لوحة متنوعة للمشهد السردي، تظهر أنه أدب حي، متطور، وشجاع، لا يخشى طرح الأسئلة الصعبة، وقادر على تجديد أدواته الفنية باستمرار ليظل مرآة صادقة لواقع وتطلعات الشعب الفلسطيني.

يمثل الجزء الثاني الذي خصصه المؤلف لـ "أدب الأسرى" ذروة الكتاب وأكثر جوانبه تفرداً وأهمية. فهو لا يتعامل مع هذه الكتابات كإنتاج أدبي عادي، بل كظاهرة إنسانية ونضالية، حيث تصبح الكتابة نفسها فعلاً يتجاوز حدود الإبداع ليصبح شكلاً من أشكال البقاء والحرية، وتصور الأسرى خلف القضبان وهم يقرأون أو يكتبون ، والأسلاك الشائكة التي تفصل بين الفصول ، تؤكد جميعها السياق القاسي الذي ولدت فيه هذه النصوص، وفي هذه القراءات يسبر قاووق أغوار هذه التجربة الفريدة، ويرصد مجموعة من السمات والموضوعات الأساسية، ومنها

1. التمرد على السجن:

يُظهر قاووق كيف أن الرواية هي محاولة دؤوبة لتحدي واقع الجدران والأسوار. من خلال الخيال، والسفر في الذاكرة، وإعادة بناء عوالم تاريخية أو متخيلة، يقوم الكاتب الأسير بـ "تهريب روحه" خارج حدود الزنزانة. السجن لم يعد مكاناً ضيقاً مخصصاً فقط "للمراقبة والمعاقبة" كما يريده المحتلّ، بل يصبح مسرحاً لأحداث تمتد عبر الزمان والمكان، وتتعدى الجدران لتفرّ بالروح والفكر لتحلق خارج الأسوار اللعينة والقضبان القاسية والجدران الرطبة المعتمة.

2. معالم الزمن النفسي:

من أبرز ما يلتقطه قاووق في هذه الأعمال هو العلاقة الجدلية مع الزمن. زمن السجن هو زمن ميت، رتيب، لا نهائي. لكن الكتابة تحوله إلى مادة خصبة. يستعرض قاووق كيف يلجأ الأسرى إلى استحضار الماضي بكل تفاصيله، أو تخيل المستقبل، كوسيلة للتغلب على وطأة الحاضر القاتل. الزمن في هذه الروايات ليس خطياً، بل هو زمن نفسي، يتمدد وينكمش حسب حالات الشخصيات الوجدانية، ويصبح أداة للمقاومة النفسية.

3. أنسنة المقاوم الفلسطيني:

بعيداً عن الصورة النمطية للأسير كبطل أسطوري صلب، تفتح هذه القراءات نافذة على الجانب الإنساني العميق لهذه الشخصيات، فيبرز صراعاتهم الداخلية، ولحظات ضعفهم، وحنينهم، وأشواقهم، وتساؤلاتهم الوجودية، ولذا فإن أدب الأسرى- كما ظهر في هذه التجليات الذاتية- أدب إنساني، يؤكد أن الأسير ليس رقماً، بل كان كائناً بشرياً معقداً، وأن صموده الحقيقي يكمن في قدرته على الحفاظ على إنسانيته في وجه آلة قمع تسعى إلى سحقها.

وفي غياب الوطن الجغرافي، تصبح اللغة هي الوطن، فيحلل قاووق كيف أن الأسرى يعتنون باللغة بشكل لافت، ويصقلونها، ويستخدمونها كأداة للمقاومة الجمالية، لتبدو اللغة في رواياتهم غالباً شعرية، مكثفة، ومليئة بالرموز والاستعارات، لأنها الوسيلة الوحيدة المتاحة لهم لإعادة خلق العالم والتعبير عن تجربة لا يمكن وصفها باللغة العادية. تصبح المفردات والجمل هي فضاء الحرية الوحيد الممكن.

لا يغفل الناقد عن الإشارة إلى الظروف المادية التي تُكتب بها هذه الروايات. هو يلمح إلى "تهريب" هذه النصوص ورقة ورقة، وكيف أن عملية الكتابة ذاتها هي عمل بطولي ومعجزة، فكل رواية تخرج من السجن هي انتصار للإرادة الإنسانية على القمع، وللإبداع على المحو، قراءته لهذه الأعمال هي أيضاً احتفاء بهذه الإرادة التي تحول القلم إلى سلاح، والورقة إلى راية.

إن تركيز قاووق على أدب الأسرى لا يقدم فقط تحليلاً لنصوص مهمة، بل يضع هذا التيار الأدبي في مكانه الصحيح كجزء حيوي وأصيل من الأدب الفلسطيني المقاوم والأدب الفلسطيني في سياقه العام والمتنوع، والأدب العربي، والعالمي كذلك، وكشهادة تاريخية وإنسانية لا تقدر بثمن على قدرة الروح البشرية على تجاوز أقسى الظروف. إن الكتاب بحق "نافذة على السرد الفلسطينيي وأدب الأسرى"، حيث يمثل مشروعا ثقافيا متكاملا يهدف إلى التعريف، والتأصيل، والتكريم، وتكمن أهميته فيما يأتي:

القيمة التوثيقية: يقدم الكتاب سجلاً مهماً لمجموعة من الأعمال السردية الفلسطينية في السنوات الأخيرة بأسماء جديدة تتجاوز الأسماء التقليدية المعروفة في الدراسات النقدية الكلاسيكية، ويقوم بدور الأرشفة والتوثيق، خاصة لأدب الأسرى الذي قد يكون عرضة للتشتت أو النسيان، ويقدّم خطوطاً عريضة وعامة لمدونة سردية متنوعة، تضيء على هذا الإنتاج السردي الجديد، وأهم ملامحه.

القيمة التعريفية: من خلال أسلوبه البسيط غير المعقد، والبعيد عن اللغة المصطلحية الأكاديمية الهندسية الجامدة، وبفضل منهجيته الذاتية الوجدانية الانطباعية القائمة على "القراءة التشاركية"، يجعل الكتاب هذا الأدب في متناول شريحة واسعة من القراء، ويسد فجوة بين الإنتاج السردي الفلسطيني وبين الجمهور العربي العام، لا سيما وأن أغلب مادة الكتاب كانت استجابة الكاتب في المشاركة بالندوات التي عقدت لمناقشة تلك الأعمال، وخاصة من خلال ندوة اليوم السابع المقدسية، وتركز هذه الندوة على التعريف بالإصدارات الجديدة وتهتم بالتعريف بالجيل الجديد من الكتاب الفلسطينيين.

القيمة التحليلية: على الرغم من تقديم المؤلف لنفسه "قارئاً وليس ناقداً"، إلا أن قراءاته تحمل بعداً تحليلياً ورؤية نقدية- وإن ظلت ذاتية الطابع غير مشبعة بالبعد النقدي المنهجي- فكان قادراً على أن يربط بين النصوص، ويستخلص منها سمات مشتركة، ويرصد التحولات في المشهد الروائي، مقدماً بذلك خريطة واضحة لفهم هذا المشهد

القيمة الإنسانية: الأهم من كل ذلك، أن الكتاب هو احتفاء بالإرادة الإنسانية. بسرد الحكايات التي وُلدت في ظروف مستحيلة، وتبدو هنا كتابات الأسرى نماذج ذات أهمية خاصة، فيحيّي الكاتب صمود المبدعين الفلسطينيين، ويؤكد أن فعل الخلق والإبداع هو أقوى أشكال المقاومة وأكثرها خلوداً، وليس فقط كتابات الأسرى بل إن الكاتب الفلسطيني الرازح تحت الاحتلال وإجراءاته التعسفية، تصبح الكتابة لديه فعل مقاومة، والكاتب الذي يحيا في الشتات ويكتب عن فلسطين وقضيته يؤكد انتماءه لهذه القضية، ويحارب عوامل النسيان والاندماج النفسي في بلاد المنافي، وأيضا تصبح الكتابة لدى هؤلاء مظهرا من مظاهر المقاومة الحيّة.

إن "نوافذ" عفيف قاووق النقدية دعوة عميقة للنظر والتأمل، ومساعدة على فهم التجربة الفلسطينية السردية من خلال عدسة أدبها. إنه عمل ضروري لكل مهتم بالأدب العربي، وبقضايا العدالة الإنسانية، وبقوة الكلمة في مواجهة الظلم، ليتركنا الكتاب مع قناعة راسخة بأن الرواية الفلسطينية بتجلياتها السردية المختلفة، وسواء أجاءت من حرية الشتات أم من عتمة الأسر، ستظل شعلة متقدة تحفظ الذاكرة وترسم ملامح المستقبل.

ومن الجدير بالذكر أن عفيف قاووق كاتب لبناني، ولد في أحضان الجنوب، وينتمي إلى جيل من المثقفين العرب الذين عاشوا تجربة المقاومة الثقافية،ونشر مقالاته ومراجعاته في منابر صحفية متعددة، واهتمّ في السنوات الأخيرة بالأدب الفلسطيني، ورأى فيه وسيلة لتوثيق المأساة الوطنية، ولم يكن قاووق ناقداً وحسب، بل كان مشاركاً في الفعل الثقافي، فبالإضافة لمشاركاته في أعمال ندوة اليوم السابع المقدسية التي كانت المحفز الأكبر في إنتاج هذه القراءات، فقد شارك كذلك في "مؤتمر أدب الحرية" الذي عُقد في عمّان في يومي 17 و18 من شهر نيسان، العام الحالي (2025)، تزامناً مع يوم الأسير الفلسطيني، وهذا الكتاب هو العمل النقدي الأول له، وسبق أن نشر أغلب مقالاته في الصحف والمواقع الإلكترونية ضمن استراتيجية الكاتب في المشاركة الفعلية الراهنة في المشهد الثقافي العربي والفلسطيني على وجه الخصوص.