تدوين- راما الحموري
لم يكد إعلان الجامعة الأميركية في القاهرة (AUC) يخرج إلى النور، كاشفًا عن أسماء لجنة تحكيم "جائزة نجيب محفوظ للأدب" لدورة عام 2026، حتى اشتعلت عاصفة من الجدل والانقسام في الأوساط الثقافية المصرية والعربية. محور هذه العاصفة هو اسم المترجم البريطاني المقيم في مصر، رفائيل كوهين.
فبمجرد تداول خبر اختيار كوهين، البالغ من العمر 60 عامًا، تباينت المواقف بشكل حاد: فريق يتهمه بأنه صهيوني أو عميل، وآخر يدافع عنه باعتباره ناشطًا سياسيًا مؤيدًا للحق الفلسطيني ومناهضًا للاحتلال.
شبح عام 1996 يعود: اتهامات بالتجسس والترحيل
هذا الجدل ليس الأول الذي يحيط برفائيل كوهين. ففي عام 1996، واجه اتهامات مماثلة عندما كان يعمل على ترجمة ديوان الشاعر المصري رفعت سلام "إنها تومئ لي" إلى الإنجليزية. حينها، اتهمه عدد من المثقفين المصريين في مقالات صحفية بأنه "مارس أنشطة مشبوهة دفعت السلطات المصرية إلى ترحيله".
لكن كوهين لم يقف مكتوف الأيدي؛ فقد أقام دعوى قضائية ضد إحدى الصحف أمام القضاء البريطاني. وتمكن من إثبات كذب الاتهامات، مقدمًا ما يثبت أن مغادرته القاهرة إلى لندن كانت بسبب ظرف صحي طارئ ألمّ بوالده، الذي توفي لاحقًا. التقارير حينها أشارت إلى أن كوهين كان يعيش بين شيكاغو والقاهرة وإسرائيل ويتردد على لندن، وذكرت أن والده من أصل بولندي وأمه سويسرية. هذه الخلفية المعقدة ساهمت في تعميق الشكوك حوله حينها، وها هي تطفو على السطح مجددًا بعد نحو ثلاثة عقود.
الجامعة الأميركية تدافع: كوهين "ناشط سلام" يدعم فلسطين
مع تصاعد حدة الانتقادات، اضطرت الجامعة الأميركية في القاهرة لإصدار بيان رسمي لتوضيح موقفها والدفاع عن اختيارها. أكد البيان أن رفائيل كوهين "مواطن بريطاني ولا يحمل أي جنسية أخرى". والأهم من ذلك، شدد البيان على أنه "ناشط في مجال السلام العالمي وكان عضوًا في حركة التضامن العالمية (International Solidarity Movement)، وهي منظمة سلمية تدعم القضية الفلسطينية".
هذا الدفاع الرسمي، الذي ربط كوهين مباشرة بدعم القضية الفلسطينية، لم يكن كافيًا لإسكات المعترضين، بل إنه ذكّر البعض بسجالات سابقة. فالمفارقة التاريخية، التي يذكرها البيان ضمناً، هي أن الكاتب الكبير نجيب محفوظ نفسه، الذي تحمل الجائزة اسمه، اُتهم ولا يزال بأنه لم يحصل على جائزة نوبل للآداب عام 1988 إلا لأنه "يؤيد التطبيع مع إسرائيل". الاتهام لكوهين يعيد إنتاج الجدل القديم حول الفصل بين الأدب والموقف السياسي من القضية الفلسطينية والاحتلال الإسرائيلي.
الأصوات المعارضة: "ليس فوق مستوى الشبهات" ودعوات للمقاطعة
لم يفلح بيان الجامعة الأميركية في تهدئة الأجواء. بل استمرت الأسئلة والشكوك في الانتشار. الشاعر عبدالوهاب داوود تساءل عبر صفحته على "فيسبوك": "ماذا قدّم السيد كوهين للثقافة العربية؟ ما مصادر دخله غير الترجمة في مجلة 'بانيبال'؟". وأضاف صراحة: "أما مسألة عضويته في منظمة سلمية تدعم القضية الفلسطينية، فهي لا تشفع له ليكون عضواً في لجنة تحكيم 'جائزة الجامعة الأميركية'... وعموماً أنا لا أراه فوق مستوى الشبهات".
تصاعدت حدة الاعتراضات إلى حد الدعوة إلى مقاطعة "جائزة نجيب محفوظ" التي من المقرر إعلان الفائز بها لهذا العام في 11 ديسمبر (كانون الأول)، تزامنًا مع الاحتفال بعيد ميلاد محفوظ.
رد لجنة التحكيم: دعم مطلق للحق الفلسطيني ورفض للصهيونية
في محاولة لحسم الجدل، أصدرت لجنة تحكيم الجائزة نفسها، الأحد (بالتاريخ المشار إليه في المصدر)، بيانًا مشتركًا. هذا البيان، الذي وقعه كوهين نفسه مع بقية الأعضاء، جاء ليرسم خطًا فاصلاً وواضحًا.
البيان أقر بأن الاعتراضات تأتي "ضمن سياق حرب الإبادة الإسرائيلية ضد الشعب الفلسطيني". ثم أكد الأعضاء استمرارهم في عملهم التطوعي، مستندين إلى أربعة مبادئ قاطعة:
دعمهم بلا استثناء للحق الفلسطيني في الحياة وفي مقاومة الاحتلال الإسرائيلي.
دعمهم لحركة المقاطعة الفلسطينية ورفض التعاون مع جهات أو أفراد من دولة الاحتلال يؤيدون سياسات الإبادة والفصل العنصري.
تثمينهم لموقف المصريين والعرب الرافض للتطبيع، وأيضًا الحركات العالمية الداعمة للحق الفلسطيني.
تأكيدهم على ضرورة التفرقة الواعية بين الديانة اليهودية والأيديولوجية الصهيونية العنصرية، ورفضهم لخطاب الاحتلال الذي يتعمد الخلط بينهما.
الكاتب العراقي المقيم في مصر، صلاح النصراوي، علق على البيان معتبرًا أنه "في الأحوال الاعتيادية من المفترض أن يحسم البيان الذي وقعه رفائيل كوهين... الجدل الذي أثير حوله"، مشيراً إلى أن كوهين "وقّع على بيان يقول أشياء لا يقول بها كثير من العرب". لكنه أشار إلى مفارقة أخرى: أن "واحداً قضى نحو 30 عاماً يعمل في الوسط الثقافي العربي... ظهر أنه غير معروف من هذا الوسط، في حين سيجلس هو لكي يحكم لمن سيفوز بجائزة تحمل اسم كبير روائي العرب".
الدفاع عن كوهين: مخاطرته في غزة وقضايا التشهير المربوحة
على الجانب الآخر، ظهرت أصوات تدافع بقوة عن كوهين، مشيرة إلى سجل نشاطه المؤيد للقضية الفلسطينية. دينا سمك في موقع "المنصة" وصفت ما حدث بأنه "حملة صحافة صفراء"، مشيرة إلى المفارقة العبثية: "رجل خاطر بحياته في غزة والضفة من أجل الفلسطينيين يُتهم بأنه عدوهم". كما ذكرت أنه واجه اتهامات بدعم "فدائيين فلسطينيين" من صهاينة قبل سنوات.
وكان كوهين حاضرًا في رفح مع الناشط البريطاني توم هورندال عندما أطلق عليه قناص إسرائيلي النار في أبريل 2003.
في عام 2009، ربح كوهين قضية تشهير ضد صحيفة "غويش كرونيكل" التي اتهمته زورًا بإيواء "انتحاريين بريطانيين"، وتبرع بجزء من التعويض المالي لـ حركة التضامن الدولية.
وفي السياق ذاته، نقل الكاتب مصطفى الطيب عن معلومة "هامشية" لم يتسن التأكد منها بشكل مستقل تفيد بأن "أبوه يهودي فلسطيني من الذين رفضوا التعاون مع الكيان... ورحّلوه"، وأن كوهين نفسه "مكروه في تل أبيب وممنوع من دخولها" لدعمه الفلسطينيين. بل ذهب الطيب أبعد من ذلك، زاعمًا أن كوهين "أسلم وزوجته مسلمة ويعيشان هما وأولادهما في مصر منذ زمن طويل".
أعضاء اللجنة يؤكدون: التفرقة بين "اليهودي" و"الصهيوني" واجب
سيد محمود، الكاتب وعضو لجنة التحكيم، سارع لنفي صفة "الصهيوني" عن كوهين ورحب ببيان الجامعة الأميركية. وفي منشور له، وجه الشكر لمن "خاف على اسم نجيب محفوظ من التشويه"، ومؤكداً أن موقفه وموقف زملائه واضح: "دعم الحق الفلسطيني ومناهضة إسرائيل ككيان عنصري، والعمل مع كل المناهضين لها بغض النظر عن الجنسية والديانة".
محمود شدد على أن "وجود داعمين لفلسطين وقضيتها من جنسيات مختلفة يتطلب منا التفرقة الواعية بين من هو يهودي ومن هو صهيوني". وطالب بمواقف تضامنية "تنفر من العنصرية وتندد بها"، مشيرًا إلى أن وجود شركاء أمر ضروري لانتصار "عدالة القضية الفلسطينية".
سيرة كوهين في تعريف الجامعة: مترجم، محرر، وناشط سلام
لجنة تحكيم "جائزة نجيب محفوظ" لدورة 2026 تضم أسماءً مرموقة، برئاسة الباحثة النسوية والأكاديمية هدى الصدّة، التي ذكر سيد محمود أنها "ناشطة في مقاطعة إسرائيل أكاديمياً". وتشمل اللجنة أيضًا الروائية مي التلمساني، والكاتب والروائي السوداني الفائز بالجائزة سابقًا حمور زيادة، إضافة إلى سيد محمود ورفائيل كوهين.
تعريف قسم النشر بالجامعة الأميركية لكوهين قدمه بصفته "مترجم أدبي ومحرر بريطاني" حاصل على بكالوريوس من أوكسفورد وماجستير من شيكاغو، و"كان ناشطاً في مجال السلام العالمي وعضواً في حركة التضامن العالمية، وسافر مرتين إلى الأراضي الفلسطينية المحتلة". كما أبرز البيان قائمة من ترجماته لأدباء عرب، منها "حارس الموتى" لجورج يرق، و"زهور تأكلها النار" لأمير تاج السر.
تجدر الإشارة إلى أن الجائزة سبق أن مُنحت لثلاثة كتاب فلسطينيين منذ انطلاقها عام 1996، وهم: مريد البرغوثي (1997)، وسحر خليفة (2006)، وحزامة حبايب (2017)، مما يؤكد على مكانة القضية الفلسطينية في سجل الجائزة. لكن الجدل الحالي يسلط الضوء على الهشاشة المستمرة في العلاقة بين الموقف الثقافي العام، والخطوط الحمراء المتعلقة بالاحتلال والصهيونية في المشهد العربي.