تدوين-مثنى النجار
في قلب الخيمة، وبين أصوات القصف ووهج الركام، وُلد ديوان "خنجر في النشيد" للشاعر الغزي محمود الجبري، ليكون شهادة شعرية على سقوط العالم وصمود اللغة في وجه الموت.
كتاب كُتب من رحم الحرب، لا يصف الألم فحسب، بل يحفر في دلالاته العميقة وأسئلته الوجودية.
من خانيونس، حيث يعيش الشاعر واقعه اليومي بين المعلبات وسخونة الرمل، خرج هذا الصوت الشعري المختلف ليحول الكابوس إلى تأمل، والنجاة إلى قصيدة.
من هنا نبدأ هذا الحوار مع الشاعر محمود الجبري حول تجربته الفريدة وكتابه الذي وُلد من رماد الحرب.
تدوين: بداية متى ولدت فكرة كتابة "خنجر في النشيد"؟ وهل كان قرار الكتابة فعلًا مقصودًا أم صرخة عفوية وسط الرماد؟
الجبري: لقد كتبت أكثر نصوص "خنجر في النشيد" خلال هذه الحرب وكذلك صدر الكتاب عن مكتبة كل شيء في حيفا خلالها أيضًا، وجاء الأمر عفويًا أكثر من كونهِ ضرورةً للمجابهة، ولا أعتقد بشكل من الأشكال أن ولادة هذا الكتاب كانت بشكل ما مقصود كما لا أعتقد أنها كانت مجرد صرخة، لقد حاولت جاهدًا وسط هذا المناخ الكابوس أن أنقب جليًا عن ذاتي، عن الأرض، عن الوجود، عن الحلم، عن سقوط الأشياء، عن القاتل وأدواته، عن أصل الشر وأرضه، أي أنني كنت أسأل بصوتٍ عالٍ عن المعنى وسط هذا العبث.
تدوين: ما اللحظة أو الحدث الذي دفعك لفتح الدفتر والبدء بالكتابة داخل الخيمة؟
الجبري: لا أستطيع تذكر لحظةً محددة أو حدثًا بعينهِ كان قد دفعني مباشرةً إلى فعل الكتابة، أما وقد حاصرتني بالسؤال عن الكتابة داخل الخيمة، فيمكن أن أقول أن للخيمة دائمًا رمزيتها الخاصة في قلب كل من سكنها، إنها تجسد الواقع ولأجل هذا كان لا بد من تصديق وكان لا بد من رفض، إن الكتابة تروح وتجيء داخل هذه المسافة القيد، لطالما منحني الواقع/ الخيمة، شعورًا بالقهر والاختناق، وكنت أكتب في المقابل بشراهةٍ كما لم أفعل في أي وقتٍٍ مضى.
تدوين: هل كنت ترى في الشعر وسيلة للبقاء أم مقاومة أم مجرد متنفس؟
الجبري: كل ذلك معًا، لقد كان الشعر السكين التي قطعتني عن الفناء، وكان أيضًا صرخةَ مَن يريد أن يبقى إنسانًا وسط آلةٍ تمحو كل ما هو إنساني.
تدوين: صف لنا المشهد لحظة ولادة إحدى القصائد — كيف تكتب وسط أصوات الطائرات والدمار؟
الجبري: لقد كنت أكتب على ضوء تلك الأجساد التي تقاوم الريح، الأجساد الطفلة في سماء البرد ، وكان ذلك يمنحني قشعريرة اللقاء ، أحيانًا كنت أشعر بأنني أكتب على ضوء القصف نفسه.
كانت اللغة نفسها تتلوى تحت الركام لتلد شيئًا يشبه النجاة
الغريب أن الضجيج أصبح إيقاعًا داخليًا تتنفسه القصيدة كما يتنفس الجسد الخوف. لقد صار كل صوت دخيل على الخارج استعارةً فجّة في الداخل، لقد كانت اللغة نفسها تتلوى تحت الركام لتلد شيئًا يشبه النجاة.
تدوين: هل كنت تشعر أن القصيدة تحميك نفسيًا من الانهيار؟
الجبري: كانت القصيدة خوذتي الوحيدة. كنت أكتب كي أظل قادرًا على الشعور، كانت غريزة بقاءٍ يتيمةٍ في مواجهة الفقد، ترفعني قليلًا فوق الأرض كي لا أتعفن فيها، لقد كتبتُ كي لا يتحوّل صوتي إلى حجرٍ يُقذف في الطرقات.
تدوين: كيف أثّرت الحرب في تجربتك الإبداعية، وفي علاقتك بالنص واللغة؟
الجبري: لقد غُرِست الحرب في أعماقي كما المسامير في الخشب الميت حتى غدا العالم خارجَ مُتناولي، بلا وطنٍ يُؤنس وحشة الخراب، بلا بيتٍ يَضُمُّ السقوط، أو جسدٍ يستقيم خارج اللغة. ولا أقول بأني أنعمُ بسكينةٍ بين جدران النص .. فالنصُّ لا يُشبه السكينة، إنه أَمنٌ يسيل في ذاته بعيدًا عن يدي . ولأنّ الهدوء لم يهوي يومًا في دمي، وقد تربَّت حياتي على الوثوب من حربٍ إلى حرب ولجتُ النصَّ محمولًا على حدِّ الخنجر، مثقَّلًا بغضبٍ يتآخى مع القهر، القهرُ السيّد المتوج من معدن الأشياء جميعها، هو وحده الذي يُنصِّب اللغة عرشًا من جمر.
تدوين: لماذا اخترت عنوان "خنجر في النشيد"؟ هل الخنجر هنا رمز للألم أم للمقاومة؟ ولطالما أوحى النشيد بالحياة والجماعة، بينما الخنجر يحمل القسوة — هل قصدت الجمع بين النقيضين؟
الجبري: أستطيع القول إن هذا العنوان بالذات لم أرد منه أن ينطوي على تركيب مجازي بقدر ما أردته أن يعبّر عن بنيةٍ صدامية بين مفهومين متعارضين. إن الخنجر بنية للقطع، والنشيد بنية للتماسك الجمع بينهما هو إعلان كامل عن استحالة الانسجام في زمنٍ مُفكك. الخنجر في النشيد يشير إلى إدخال العنف في بنية الجمال أي الاعتراف بأن الوجود المعاصر لا يمكن إدراكه عبر نغمةٍ واحدة. الألم والمقاومة ليسا معنيين منفصلين، إنهما مستويين من مستويات الوعي بالكارثة.
الخنجر في النشيد يشير إلى إدخال العنف في بنية الجمال أي الاعتراف بأن الوجود المعاصر لا يمكن إدراكه عبر نغمةٍ واحدة
تدوين: هل يمكن القول إن الكتاب يمثل سيرة جماعية لأهل غزة أكثر مما هو سيرة ذاتية لك؟
الجبري: هو سيرة الجماعة في جسدي، وسيرة جسدي في الجماعة. لا يمكن لأيّ شاعر أن يدّعي الفردية داخل المذبحة. لقد حمل كل نصّ في الكتاب أنفاسَ من فُقدوا، وضوءَ من ظلّوا يحرسون الحياة في عيونهم.
تدوين: كيف تعكس قصائدك العلاقة بين الفقد والحياة، بين الخيمة والسماء؟
الجبري: الخيمة جسدٌ مكسورٌ على الأرض، والسماء جرحٌ مفتوح فوقه. بينهما كتبتُ: لا أملك أرضًا لأمشي عليها ولا سماءً أرفع رأسي نحوها، فاكتفيت بالعيش بينهما، أو لنقل كتبتُ.
تدوين: هل فقدت أشخاصًا خلال الحرب جعلوا الكتاب أكثر وجعًا وشخصية؟
الجبري: أعتقد أن الفقدان في هذا السياق لا يُختزل أبدًا بالأسماء، لقد تغذى الفقد على أبعد من ذلك بكثير، نعم لقد فقدت الكثير من الأصدقاء خلال الحرب، لكنني أيضًا فقدت شكل العلاقة بين الحياة والموت كما عرفتها سابقًا. لقد أعاد الألم تعريف مفهوم الإنسان في داخلي ، وقد صرخت بهذا شعرًا.
تدوين: هل تشعر أنك كتبت الشعر أم أن الشعر هو من كتبك؟
الجبري: هذا سؤال يجعلني أرتبك دائمًا وعليَّ أن أعترف بأنني لا أملك جوابًا، لكن أعتقد أن هذا السؤال " مَن يكتب مَن ؟" ضد الفهم.
تدوين: برأيك، ما دور الشاعر في زمن الإبادة؟
الجبري: ما دامت الهزيمة جزءًا من المصير الإنساني فدور الشاعر أن يلتقطها في معناها الأكثر عريًا، لا أن يربطها بمصائر الأمم الأسطورية وحدها.
تدوين: في زمن تهيمن فيه الصورة على الوجدان العالمي، كيف يمكن للشعر أن يستعيد مكانته كفعل مقاوم؟
الجبري: أعتقد أن الصورة تعمل على تسطيح المعنى، بينما يعمل الشعر على تعميقه. متى ما هيمن البصري، انهار المفهومي. الشعر يعيد بناء البعد الثالث في التجربة الإنسانية، أي القدرة على التفكير داخل الحدث. وإن استعادة مكانته تكون بإعادة تعريف الإدراك. الشعر هو البنية الأصدق، البنية القادرة على تحويل الرؤية إلى معرفة والمعرفة إلى مقاومة.
تدوين: هل ترى أن الشعر الفلسطيني اليوم يعيش مرحلة جديدة من الوعي والمواجهة؟
الجبري: لقد أفرغت الحرب الأخيرة القول من إيقاعه القديم ودفعت الوعي الفلسطيني إلى مدار ما بعد خطابي وجاءت بالقصيدة من انكسار الوجود لا من تمثيله. إن اللغة تسيل لتعيد تركيب ذاتها في أنقاضها والشاعر بدوره يحتمل ذاته عبر احتراقها. فصار النص واعيًا أكثر مما سبق، نص يُفكّك علّة الحدث ويخلق منطقه الخاص خارج الزمن الجمعي.
أفرغت الحرب الأخيرة القول من إيقاعه القديم ودفعت الوعي الفلسطيني إلى مدار ما بعد خطابي وجاءت بالقصيدة من انكسار الوجود لا من تمثيله
لقد تخلى الشعر الفلسطيني الراهن عن البلاغة كوسيط ويستعيض عنها بالتماهي مع الفراغ. القصيدة تنبثق من الهاوية لتلد الوعي المقاوم في صورته القصوى، وعيٌ يهاجم المفهوم قبل أن يهاجم العدو وينسف الدلالة ليبني منها أرضيةًّ للغياب، إنها كتابة تتجاوز الشعر إلى اختباره وتحوّل الفعل الجمالي إلى اشتغالٍ خلّاق يعرّي الخطاب ويُجرّده من مرجعيته، صارت المقاومة حالةً تفكيرية خالصة تحيا في عمق الانهيار لأن اللغة آخر ما ينجو وأول ما يُعاد اختراعه.
تدوين: ما الرسالة التي تريد أن تصل من خلال "خنجر في النشيد" إلى القارئ العربي والعالمي؟
الجبري: ما رغبتُ أن يصل هو أن الانسان الفلسطيني ليس موضوعًا للخبر فقط، القارئ الذي يفهم هذا الكتاب ينبغي أن يخرج منه أكثر إدراكًا لهشاشته ولقدرته في آن واحد.
تدوين: هل تفكر في تحويل هذه التجربة إلى مشروع أكبر — ربما فيلم وثائقي أو عرض مسرحي؟
الجبري: أعتقد إنّ نقل أي تجربة كتابية إلى وسيط بصري يجب أن يكون إعادة تفكير في ماهية التمثيل ذاته، لا مجرد استعادةٍ للحدث. ما أريده هو أن تظل الفكرة تنبض بما هو أبعد من الوثيقة وأن تتحوّل إلى سؤال دائم عن الإنسان في مواجهة أدوات فنائه.