تدوين-تغطيات
ذكرت صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية في تقرير مطول أن الأكاديميين الإسرائيليين باتوا يجدون أنفسهم في عزلة متزايدة على الساحة الدولية، رغم وقف إطلاق النار الأخير في غزة، في ظل اتساع المقاطعات الأكاديمية ضد الجامعات التابعة للاحتلال، ولا سيما في أوروبا، بسبب ما تعتبره مؤسسات أكاديمية وحقوقية تورطا في جرائم حرب وإبادة خلال العدوان الذي دمر القطاع.
وأوضح التقرير أن المقاطعات شملت تعليق اتفاقيات التعاون البحثي وبرامج التبادل الطلابي، ورفض تمويل الأبحاث المشتركة مع مؤسسات أكاديمية تابعة للاحتلال، معتبرا أن هذه الخطوات تعكس عزلة الاحتلال الدولية المتصاعدة نتيجة سلوكه العسكري الذي أدى، وفق وزارة الصحة في غزة، إلى استشهاد أكثر من 67 ألف فلسطيني.
وأشارت نيويورك تايمز إلى أن العدوان وما رافقه من دمار واسع في غزة أديا إلى تزايد الغضب الدولي من سياسات حكومة الاحتلال، إذ طالبت دول غربية حليفة للاحتلال بالاعتراف بقيام دولة فلسطينية، في حين أظهرت استطلاعات رأي أمريكية تراجعا كبيرا في تأييد الرأي العام الأمريكي للاحتلال.
قرارات أوروبية بعزل الأكاديميين الإسرائيليين
قبل أسبوع من مؤتمر الجمعية الأوروبية لعلماء الآثار، تلقى 23 أكاديميا إسرائيليا دعوات للمشاركة في الاجتماع الافتراضي، لكن بشرط إخفاء هويتهم المؤسسية. وجاء في رسالة المجلس العلمي للجمعية: "يجب تجنب أي إشارة إلى انتماء لمؤسسة أو جهة تمويل تابعة للاحتلال".
القرار أثار غضب الدكتور غاي دي. ستيبل، رئيس مجلس علم الآثار الإسرائيلي ومحاضر في جامعة تل أبيب، الذي كتب ردا غاضبا متسائلا: "هل سألتم أنفسكم ما التغيير الحقيقي الذي حققه قراركم؟". وبعد ضغوط من حكومة الاحتلال، تراجعت الجمعية عشية المؤتمر في أيلول، معتبرة قرارها السابق "متسرعا وغير مدروس".
ومع ذلك، تقول نيويورك تايمز إن هذه الواقعة تعكس مدى اتساع المقاطعات الأكاديمية ضد الاحتلال، خصوصا في القارة الأوروبية.
مبررات المقاطعة ودوافعها
يقول مسؤولون في جامعات أوروبية إن المقاطعات مبررة استنادا إلى تقارير صادرة عن لجنة تحقيق تابعة للأمم المتحدة ومنظمات دولية لحقوق الإنسان، تؤكد أن الاحتلال ارتكب إبادة جماعية وجرائم ضد الإنسانية في غزة.
وبرر راؤول راموس، نائب رئيس جامعة برشلونة، قرار جامعته بالقول: "التكنولوجيا القادمة من الجامعات الإسرائيلية كانت ستُستخدم لقتل الفلسطينيين".
وأضاف أن الجامعة ستواصل التعاون مع الباحثين والطلاب الإسرائيليين الأفراد، لكنها لن تتعامل مؤسسيا مع أي جامعة تابعة للاحتلال.
أما جامعة غينت البلجيكية، فقررت الاستمرار في حظر التعاون مع الجامعات التابعة للاحتلال حتى بعد وقف إطلاق النار في تشرين الأول الماضي، فيما أعلنت جامعة أمستردام تعليق جميع المشاريع الجديدة مع مؤسسات أكاديمية تابعة للاحتلال، مؤكدة أن: "السلام والعدالة لا يمكن تحقيقهما باتفاق واحد".
وقال المتحدث باسم الجامعة بوب مونتن إن: "الهيئات الدولية المستقلة قررت أن إبادة جماعية جارية بالفعل، والتقاعس لم يعد مقبولا".
حجم المقاطعات وآثارها
قال إيمانويل نحشون، رئيس فريق العمل الإسرائيلي لمكافحة المقاطعات، إن نحو 50 جامعة ومؤسسة أوروبية أنهت تعاونها كليا أو جزئيا مع نظيراتها التابعة للاحتلال خلال العامين الماضيين، وإن فريقه وثق أكثر من 700 حالة مقاطعة أكاديمية ارتفع عددها مؤخرا إلى أكثر من ألف حالة.
وتشمل هذه الحالات وقف برامج التبادل الطلابي، وقطع المشاريع البحثية المشتركة، ورفض منح تمويل للباحثين الإسرائيليين.
وأشار نحشون إلى أن المقاطعات تتركز خصوصا في بلجيكا وهولندا وإيطاليا وإسبانيا، وأن بعضها يمتد ليشمل الضغط لاستبعاد الاحتلال من برنامج "هورايزون أوروبا"، وهو أكبر برنامج تمويل أبحاث في الاتحاد الأوروبي، الذي قدم للاحتلال خلال العقد الماضي مليارات اليوروهات.
الموقف في الولايات المتحدة
تقول نيويورك تايمز إنه لا توجد مقاطعات جامعية شاملة ضد الاحتلال في الولايات المتحدة، رغم اندلاع احتجاجات طلابية واسعة عام 2024.
غير أن حملة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب على الجامعات لمكافحة ما وصفه بـ"معاداة السامية في الحرم الجامعي" كان لها، بحسب ميليت شامير نائبة رئيس جامعة تل أبيب، "تأثير مهدئ" على العلاقات الأكاديمية مع الاحتلال.
وأوضحت الصحيفة أن جامعة هارفارد أعلنت في تموز الماضي عن برنامج دراسة في الخارج بالتعاون مع جامعة بن غوريون في النقب، إضافة إلى زمالة بحثية لما بعد الدكتوراه في كلية الطب، بعد اتهامات وجهتها إدارة ترامب للجامعة بأنها "سمحت لمعاداة السامية بالانتشار".
لكن ناشطين في الجامعات الأمريكية يؤكدون أن انتقاد عدوان الاحتلال لا يعني معاداة السامية، بينما يرى معارضو ترامب أن إدارته تستخدم هذه التهمة لتقييد حرية التعبير في الأوساط الأكاديمية ذات التوجهات الليبرالية.
التعاون الألماني... الاستثناء الأوروبي
تقول نيويورك تايمز إن ألمانيا تمثل استثناء داخل أوروبا، إذ حافظت على علاقات أكاديمية وثيقة مع الاحتلال منذ خمسينيات القرن الماضي.
وبدأ هذا التعاون حين زار علماء من جمعية ماكس بلانك معهد وايزمان التابع للاحتلال عام 1959 في محاولة لاستخدام العلم كجسر للمصالحة بعد الهولوكوست. وتؤكد البروفيسورة ميليت شامير من جامعة تل أبيب، التي كانت في برلين للقاء شركاء ألمان، أن: "ألمانيا اليوم هي الشريك الأكاديمي الأكبر للاحتلال بعد الولايات المتحدة، لقد كانت الاستثناء الأوروبي الحقيقي".
وختمت الصحيفة تقريرها بالقول إن هذا التعاون الألماني–الإسرائيلي، الذي كان يوما رمزا للمصالحة بعد الحرب العالمية الثانية، أصبح اليوم أحد آخر الجسور الأكاديمية المتبقية للاحتلال في أوروبا، في وقت تتزايد فيه عزلته في الأوساط العلمية والثقافية حول العالم.