الإثنين  01 كانون الأول 2025

صناديق المساعدات إذ تصير لوحات… عن المعنى المزدوج للأشياء في القاموس الغزّي

أحمد مهنا: "غزة تقدم للعالم نموذجا في كيفية تحوّل الأزمة إلى مصدر للإبداع"

2025-12-01 03:13:05 AM
صناديق المساعدات إذ تصير لوحات… عن المعنى المزدوج للأشياء في القاموس الغزّي
أحمد مهنّا

تدوين-سوار عبد ربه

هل يمكن لصندوق مساعدات غذائية أن يتحول يوما إلى فضاء بصري حي، تنبض جوانبه باللون والخيال؟ في غزة، يبدو كل شيء قادرا على حمل معنى إضافي، ووظيفة أخرى تتجاوز المنتظر منه. فوسط شح المواد وغياب الأدوات الفنية التي التهمها العدوان المستمر منذ عامين، وجد الفنان الفلسطيني أحمد مهنا في صناديق المؤونة بديلا يرمم به جوعين متلازمين: جوع الجسد في ظل الحصار، وجوع الروح إلى الإبداع. هكذا تحولت تلك الصناديق من رمز للنجاة اليومية إلى حوامل لأعمال فنية تصر على الحياة، ومساحة يعاد فيها تدوير المعنى وتخليد الذكرى.

فيما يلي حوار تدوين مع الفنان أحمد مهنا:

تدوين: ما الذي دفعك إلى اختيار صناديق المساعدات تحديدا كحامل لأعمالك الفنية؟ وكيف تبلورت هذه الفكرة في ذهنك وسط واقع الحرب والنزوح وندرة المواد؟

مهنا: لم أبحث عن صندوق كي أرسم عليه، بل وجدته فوق رأسي. كل شيء كان ينهار في غزة، والبيوت لم تعد صالحة لحماية أي فكرة أو أي لوحة. المواد الفنية اختفت، ولم يبقَ في المكان سوى ما يهبط إلينا من السماء ضمن إسعافات الحياة: صناديق غذاء تحمل هوية المؤسسات التي تحاول إنقاذنا. عندها أدركت أن هذا الصندوق ليس ورقا فقط… بل وثيقة حرب، وشاهدا على زمن، وجسدا لواقع. هكذا صار في ذهني مادة فنية قادرة على قول ما تعجز عنه الأقمشة الفاخرة.

تدوين: ما الرسالة التي رغبت في إيصالها عبر تحويل صناديق الغذاء إلى فضاء بصري يروي حكايات الفلسطينيين؟ وما الرمزية الخاصة التي تمنحها لك هذه المادة البسيطة؟

مهنا: أردت أن أقول إن الفلسطيني لا يستقبل المساعدة بصمت، بل يعيد كتابة قصته عليها. هذا الكرتون الذي وُجِدَ ليحمل الطعام، حمل الحياة بمعناها الأوسع؛ لم يعد مجرد رزمة للمحتاج، بل ذاكرة شعب ينقذ نفسه بالثقافة كما ينقذ جسده بالغذاء. رمزية الصندوق بالنسبة لي أنه يختصر المعادلة كلها: البساطة التي تحاول الحفاظ على حياة كاملة.

تدوين: في ظل شح المساعدات وفترات الانقطاع الطويلة عنها، كيف تعيش التناقض القاسي بين انتظار هذه الصناديق بوصفها وسيلة للغذاء ووسيطا لخلق الفن في الوقت نفسه؟ وكيف أثر هذا الثقل النفسي على تجربتك الفنية؟

مهنا: كان التناقض موجعا. في اللحظة التي أنتظر فيها الصندوق كي أطعم عائلتي، كنت أفكر أيضا كيف سيصبح هذا الصندوق لوحة تحفظ جوعنا في ذاكرة العالم. شعرت أنني أستخدم الخوف والجوع كأدوات للرسم. هذا الثقل النفسي جعل كل ضربة خط وكل لطخة لون بمثابة شهادة حياة، لا كجزء من مهارة فنية.

تدوين: أشرت في أكثر من مناسبة إلى أن المشاهد القاسية التي عشتها شكلت بالنسبة لك "تغذية بصرية" ترجمتها إلى خطوط وألوان. كيف أعادت هذه التجربة تعريف معنى الفن بالنسبة لك؟ وماذا يعني أن يتغذى بصر الفنان على الألم بدلا من الجمال؟

مهنا: تعلمت أن الفن ليس امتيازا، بل غريزة بقاء. عندما يتغذى لبصر على الألم، يصبح الجمال فعل مقاومة وليس ترفا جماليا. اكتشفت أن الجروح قادرة على أن تتحول إلى لغة تشكيلية، وأن الفنان لا يرسم ما يراه فقط، بل يرسم ما يجرحه.

تدوين: في سياق أوسع؛ ظهرت في غزة خلال السنوات الأخيرة وسائل فنية بديلة ابتكرها الفنانون من استخدام القهوة والشاي بدل الألوان، إلى الرسم على الجدران والصناديق والأقمشة المتاحة. هل ترى أن هذه التجارب تشكل نواة لمدرسة فنية غزّية خاصة، قد تسهم في المشهد الفني العالمي؟

مهنا: نعم. نحن لا نبتكر الأسلوب من أجل الاختلاف، بل بدافع العوز، وهذا أهم أساس لمدرسة فنية أصيلة. المواد التي تنهض من تحت الركام، الألوان المستخرجة من القهوة والشاي، الرسم على أي سطح متاح… كلها تشكّل ملامح فن يولد من واقع قاس لكنه صادق. أعتقد أن غزة تقدم للعالم نموذجا في كيفية تحوّل الأزمة إلى مصدر للإبداع.

تدوين: كيف كان صدى هذا الأسلوب غير التقليدي على الجمهور حول العالم؟ وهل شعرت بأن الرسالة التي حاولت إيصالها عبر هذه الأعمال وصلت بالعمق الذي كنت تتمنى؟

مهنا: كانت المفاجأة أن الناس لم ترَ فقط رسومات على كرتون، بل سمعت قصة من خلال مادة بسيطة. كثيرون بكوا أمام اللوحات قبل أن يسألوا عن الفن. هذا ما كنت أتمناه: أن تصل الرسالة قبل التقنية، وأن يلامس الألم قبل إعجاب العين.

تدوين: كيف استقبلت الأمم المتحدة بوصفها جهة تُرسل هذه الصناديق استخدامك لها في الفن؟ وهل كانت هناك ردود رسمية أو تواصل مباشر بخصوص مبادرتك؟

مهنا: كان ردّ المؤسسات، خصوصا برنامج الأغذية العالمي، إيجابيا وذكيا. لم ينظروا إلى الأمر كتشويه لشعار المساعدة، بل كتحويله إلى شهادة فنية على الواقع. حدث تواصل رسمي، وكان واضحًا أن الفن هنا يضيف بعدا إنسانيا لعملهم، ويُبقي أثرا لا يمحوه الزمن.

تدوين: ماذا مثل لك أن تتحول أعمالك على صناديق المساعدات إلى معرض متكامل بدعم من برنامج الأغذية العالمي والاتحاد الأوروبي، خصوصا أن هذه الجهات معنية بإيصال الغذاء لا بتنظيم المعارض؟ وكيف غير ذلك من رؤيتك لأثر الفن؟

مهنا: شعرت أن الفن قادر على اختراق مساحات غير متوقعة، وأن المؤسسات التي تُرسل الطعام يمكن أيضا أن تشارك في إيصال صوت الإنسان الذي يتلقاه. هذا غيّر رؤيتي لدور الفن: لم يعد يزين الجدران فقط، بل يفتح أبوابا للحوار والوعي.

تدوين: تُظهر أعمالك مزيجا بين الوجوه، وسرد الحكايات، وفن الخط العربي. ما الذي دفعك إلى توظيف هذه التقنيات معا؟ وكيف تخدم كل تقنية جزءا من رسالتك؟

مهنا: الوجوه هي الهوية، الحكاية هي الذاكرة، والخط العربي هو لسان هذه الأرض. عندما تجمعها معا، تصنع صورة تتكلم، لا تُشاهد فقط. الخط بالنسبة لي ليس زخرفة، بل طريقة لكتابة الألم بصوت بصري.

تدوين: أرفقت عددا من لوحاتك بكلمات وأبيات شعرية واقتباسات. كيف تفهم العلاقة بين النص والصورة في تجربتك؟ وماذا يضيف المزج بينهما من حيث الإحساس والرسالة للفن الذي تقدمه؟

مهنا: النص يمنح اللوحة وضوحا شعوريا، ليس شرحا بل صدى. الكلمات هي شهود إضافية على المعنى. عندما تلتقي الصورة بالنص، يولد العمل من طبقتين: طبقة تُرى وطبقة تُقرأ… وبينهما تُحسّ الرسالة.

تدوين: كيف أثرت الحرب على علاقتك بذاتك كفنان؟ هل غيرت رؤيتك لدورك ووظيفتك؟

مهنا: الحرب نزعت عني فكرة الفنان الذي يبحث عن الجمال، وأعادتني إلى الفنان الذي يحاول إنقاذ ذاكرة الناس. لم أعد أرسم لأتقن، بل لأوثق، لأصرخ، لأحمي ما يمكن أن يتحول إلى نسيان.

تدوين: هل من لحظة محددة ولدت داخلك الإحساس بأن الفن تحول من هواية إلى واجب؟

مهنا: نعم، كانت عندما رأيت أطفالا يحملون صناديق المساعدة على أنها كنز، وأدركت أن أي صورة تحبس هذه اللحظة ليست ترفا بل مسؤولية. منذ تلك اللحظة، شعرت أن الفن ليس خيارا… بل التزام أخلاقي تجاه ما نعيشه.

تدوين: هل تخطط للاستمرار في استخدام الصناديق كخامة فنية، أم أنها مرحلة ستتطور إلى أشكال جديدة من التعبير؟

مهنا: الصناديق مرحلة مهمة في رحلتي، لكنها لن تكون النهاية. سأظل وفيا للمواد التي تعكس الواقع بصدق، سواء كانت كرتونا أو ركاما أو بقايا أشياء نجت من الحرب. المهم أن تبقى المادة ابنة المكان… وأن يظل الفن شاهدا لا صامتا.