الأحد  22 كانون الأول 2024

عودة لإدوارد سعيد وحواراته في “الثقافة والمقاومة”

2014-02-03 00:00:00
عودة لإدوارد سعيد وحواراته في “الثقافة والمقاومة”
صورة ارشيفية

د. مليحة مسلماني 

 

إدوراد سعيد ـ رغم المنفى ـ إلا أنه يبقى إرثًا فكريًا فلسطينيًا متجددًا يحتاج العودةَ المستمرةَ عليه والنبش فيه، لاستنباط مكنوناته في الهوية والثقافة وعلاقتهما بالمقاومةـ كمشروع فكري بشكل أساسي. وذلك ما يحتاج إليه الفلسطينيون، أن يبقوا على استمرار في تشكيل وصياغة وإعادة مفهوم المقاومة وفق الواقع المعاصر وتحدياته، ليَخرج المصطلح من جمود الشّعار ويدخل في عقول الناس وقلوبهم قابلًا للاتساع ورافضًا بذات الوقت للمساومة. هكذا نجدنا في تلك الزاوية حول “الهوية والإبداع” مجذوبين للتطرق إلى كتاب مهم لإدوارد سعيد عنوانه “حوارات الثقافة والمقاومة”، وهو عبارة عن حوارات أجراها دايفيد بارساميان مع سعيد ونُشرت في كتاب صدر عن دار الآداب في بيروت عام 2006، نقدم لها عرضًا سريعًا لأهميتها المتجددة بالنسبة للفلسطينيين والعرب.

تشكّل تلك الحوارات، امتدادًا لخطاب إدوارد سعيد الذي صاغه في مؤلفات، من أبرزها “الاستشراق” و”الثقافة والامبريالية”، وفي محاضرات ألقاها في أمكنة وأزمنة مختلفة، وتُعد إضافة هامة إلى مساهماته البارزة في مجال الثقافة وعلاقتها بالسياسة والمقاومة. من ناحية ثانية تقدم تلك الحوارات فهمًا عميقًا للقضية الفلسطينية وتحيط بمختلف أبعادها الثقافية والسياسية، فلسطينيًا وعربيًا ودوليًا، والتي ظل إدوارد سعيد لسنوات عديدة المتحدث باسمها في الغرب، وتحديدًا في أمريكا، مشكلًا بذلك خطابًا يتجه عكس التيار والخطاب الغربي السائديْن وتصوراتهما عن الفلسطينيين وقضيتهم وعن العرب والثقافة العربية عامة. 

بأسلوب ممتع، وغزير بالمعلومات ومتنوع بالموضوعات، يجيب سعيد على أسئلة بارساميان حول مواضيع هامة مترابطة بشكل مباشر وغير مباشر: عملية السلام، وحل الدولة الواحدة، والأنظمة العربية وديكتاتوريتها، والكيفية التي يتم بها صياغة التصور الغربي عن الفلسطينيين والعرب، والإرهاب، والثقافة والمثقف ودورهما في الصراعات.

في المحور الأول من الكتاب، والمعنون بـ “حل الدولة الواحدة”،  يرى سعيد في عملية السلام “إعادةَ تغليف للاحتلال الإسرائيلي”، فهي قد ورطت القيادة الفلسطينية بقبول الشروط الإسرائيلية، من أجل ضمان أكبر سيطرة ممكنة للإسرائيليين على الأراضي والموارد الفلسطينية. لذا فهو يرى أن الحل يكمن في إقامة “دولة واحدة ثنائية القومية يتعايش فيها اليهود والفلسطينيين بسلام”، ويقدم أسبابه لهذا الحل، وأهمها كما يرى صِغَرُ المكان والتداخل الكبير بين السكان الفلسطينيين والإسرائيليين على أرض فلسطين، وتواجدهم الفيزيائي معًا في مختلف مناطق الضفة الغربية والقدس، مما يجعل من الصعب سحب الناس إلى حدود أو دول منفصلة، وهناك أيضًا الفلسطينيون في إسرائيل الذي هم مواطنون إسرائيليون بالجنسية، فلسطينيون عرب قوميًا وثقافيًا، وتشكل نسبتهم اليوم أكثر من 20% من مجموع سكان إسرائيل، إذ أن وجود هؤلاء يفرض ضرورة إيجاد صيغة للحل نهائية وعادلة. وفي  أكثر من سياق يتعرض سعيد إلى تطور الحراك السياسي لفلسطينيي 48 بين الانتفاضتيْن الأولى والثانية، ونضالهم ضد التمييز العنصري في إسرائيل. وسواء اتفقنا أو اختلفنا مع الحل الذي يطرحه سعيد ـ حل الدولة الواحدة ـ إلا أن الأسس التي يقيم عليها هذا المفكر طرحه جديرة بالتأمل والنقاش الضروريْن لفهم أعمق للواقع السياسي على أرض فلسطين.

في معرض نقده لعملية السلام يتعرض سعيد لنقطتين رئيسيتين، أولهما خاصة بالحوار الداخلي الإسرائيلي بخصوص الفلسطينيين، والذين نظر إليهم الفكر الصهيوني منذ ما قبل إقامة إسرائيل كـ “سكان عابرين ومؤقتين”، مما ساهم في خلق صدام بين الطرفين تأزّم مع مرور الوقت، كما يرى سعيد، وهو ما تنبأ به  بعض المفكرين الصهيونيين أمثال مارتن بوبر، ويوداه ماجنيس، وحنّا أردنت، الذين كانوا أول من دعا الى التفكير بالفلسطينيين على أساس وجودهم وليس على أساس غيابهم، تفاديًا لأزمة قد تنشب بسبب استمرار سياسة الاستيطان العدائية والمضي قدمًا في تجاهل وجود الفلسطينيين على أرض فلسطين. ويشدد إدوارد سعيد على أن الإسرائيليين اليوم بأمس الحاجة الى معرفة ما اقترفوه فعلًا بحق الشعب الفلسطيني من خلال نقد الرواية الصهيونية ومن أجل تحقيق حل نهائي للصراع. النقطة الثانية تتعرض إلى الموقف الأمريكي، بحيث يرى سعيد أن وصف أمريكا كوسيط نزيه وغير منحاز في الصراع العربي الإسرائيلي لهو “وصف رديء وغير منطقي”، بناء على معطيات المساعدات الأمريكية العسكرية والاقتصادية لإسرائيل وعلى معطيات السياسية الأمريكية الداخلية وتأييدها الكامل لإسرائيل. 

في المحور الثاني والخاص بانتفاضة عام 2000، يرى سعيد ان اندلاع الانتفاضة جاء ليؤكد عقم وفشل عملية السلام، ويسلط الضوء على الخطاب الإسرائيلي المتمثل في الإصرار على تصوير الحرب العسكرية الشرسة ضد الفلسطينيين على أنها دفاع دولة ضد مجموعة من الإرهابيين، بحيث تظهر إسرائيل بصورة الضحية التي تستحق التأييد والدعم من العالم الغربي. وهو يبين عناصر افتقاد هذا الخطاب لمعايير الصحة وأنه جزء من الحرب على الفلسطينيين، تهدف إلى التشكيك في عدالة قضيتهم وسحب الشرعية عنها أمام الرأي العام العالمي.  

في المقابل يبين سعيد، وفي المحور الثالث من تلك المحاورات والمعنونة بمقولته: “ما يريدونه هو صمتي”، عدم وجود جهود فلسطينية في الغرب قادرة على صياغة خطاب مغاير يواجه الخطاب الإسرائيلي والغربي وتشويههما للحقائق. لقد واجه إدوارد سعيد بسبب سعيه الدائم الغناء خارج السرب الرسمي الأمريكي، من خلال تبنيه الدائم للقضية الفلسطينية ودفاعه عنها، الكثير من الانتقاد والإقصاء بل وتهديدات بالقتل وُجّهت له ولعائلته. في هذا السياق يبين إدوارد سعيد الكيفية التي يتم بها صياغة الخطاب الإعلامي والسياسي الأمريكي والتي تعمل على تعزيز عدائية الأمريكيين للعرب. 

يتعرض المحور التالي، “أصول الإرهاب”، بشكل مفصل إلى مصطلح الإرهاب في الغرب والكيفية التي يتم بها صناعة هذا المصطلح ليصب في خدمة المصالح السياسية للولايات المتحدة، وبذلك أصبحت كلمة “إرهاب” مرادفة لمعاداة “الأمريكانية”، ويتعرض إلى أحداث الحادي عشر من سبتمبر والتي تم استغلالها بشكل كبير في إشاعة الخوف بين الأمريكيين وتسويق ذريعة “مكافحة الإرهاب” لاكتساب شرعية التدخل في الدول الأخرى. على صعيد آخر يتم خلق مشابَهة بين العمليات الإرهابية وبين المقاومة الفلسطينية، من خلال الاستمرار في تقديم صورة مشوّهة عن الإسلام والعرب بمن فيهم الفلسطينيين. وبرأينا فإن مصطلح “الإرهاب”، خاصة بعد بعد عودته بشكل كبير مع اندلاع ثورات الربيع، فإنه يحتاج إلى الكثير من التفنيد وإشغال أقلام المفكرين بهدف خلق مجال أكبر لفهم الواقع الذي تفرضه تلك التغيرات في الوطن العربي، وبهدف النقد أيضًا وتصحيح مسار الثورات وإنصاف المقاومة وحمايتها ـ بغض النظر عن المسبّبات ـ من التلوث بمصطلح “الإرهاب”. 

يختتم دايفيد بارساميان حواراته مع إدوارد سعيد عن الثقافة والدور الرئيسي الذي تلعبه في الصراعات السياسية، إن الثقافة في الحالة الفلسطينية، بكل أدواتها من مسرح وسينما وأدب وشعر، كانت شكلًا من أشكال المقاومة ضد محاولات طمس الهوية وإقصاءها. على الصعيد الآخر تلعب الثقافة دورًا رئيسيًا في خلق التصورات وصياغة الأحكام عن الآخر، وهو ما يتم بشكل جليّ من خلال استخدام مصطلحات بعينها في وصف العرب  في الإعلام الأمريكي. 

أخيرًا، يربط إدوارد سعيد بين مختلف الموضوعات السابقة ببراعة مفكر طالما اتسم خطابه بالكونية، فهو، وكما يقول محمد شاهين في تقديمه لهذا الكتاب:”خطاب جامع يرتبط فيه الأدب مع السياسية وتتداخل فيه الفلسفة مع الدين لتكوّن جميع هذه العناصر منظورًا يفوق حدود الزمان والمكان”