الأحد  22 كانون الأول 2024

الخروج عن السائد في رواية الوجوه لوليد أبو بكر

2014-02-03 00:00:00
الخروج عن السائد في رواية الوجوه لوليد أبو بكر
صورة ارشيفية

كتب: أمين دراوشة

 

اتجه الكتاب الفلسطينيون صوب كتابة الرواية، كوسيلة أفضل في تناول تجربة الشعب الفلسطيني القاسية والثرية. ورأى الكتاب أن الرواية هي الشكل الأنسب، لما لها من قدرة عظيمة على التعبير عن المعاناة التي تخلفها المصائب المختلفة، وعلى التوغل في النفس البشرية والبحث في أحلامها ورغباتها وكوابيسها وتصويرها.

استوعب الكتاب الفلسطينيون أهمية الرواية وتأثيرها الكبير على الإنسان، فتناولوا فيها موضوعات عدة كان أبرزها الصراع مع المحتل الصهيوني، وما رافقه من مذابح وتشريد وسجن وبطولات الشعب في مواجهة غطرسة الاحتلال، وبطشه الذي لا يرحم.

غير أن الكاتب وليد أبو بكر في روايته (الوجوه)، أخذ منحى مغايرا في روايته. صحيح أن صراع الشعب الفلسطيني مع الأنظمة العربية ونضاله ضدّ الاحتلال هو محور الرواية وعمودها الفقري، إلا أن بطله كان من نوع آخر، إنه البطل السلبيّ الذي يلتحق بسلك الشرطة في الحكومة قبل عام 1967م، ويمارس العمالة والخيانة مع قدوم الاحتلال الصهيوني.

شخصية شريف الزوري، بطل الرواية، تنمو وتكبر دون تدخل من الكاتب، فتكون له شخصيته التي تفكر وتحكم وتملك طموحا لا حدود له، وهو يسعى بكل السبل إلى الوصول إلى ما يرغب فيه، حتى وإن  داس في طريقه كلّ من أحب.

ولد شريف لأب يعشق الأرض، ولا يرى في حياته هدفا غير الاعتناء بها، وأمّ تحنو عليه وتعتني به لدرجة المرض، فقد كانت تخشى عليه كثيرا، فمنعته من مصاحبة والده إلى الحقول كالأطفال الآخرين، وعندما كان يشتهي بعض الخضرة البرية، كانت أمه تتكفل بإحضارها له، فتحضر “الصّيبعة والشحّيم، وتنظفه، وتضعه في فمه”. كانت تخاف عليه من ضربة شمس أو لدغة أفعى.

وبعد أن كبر، صار والده، يتمنى لو أن شمسا ضربته، أو أن أفعى لدغته ليرتاح منه، لأنه جلب له العار. 

أفسدته الأم بتدليعها، والأب اتهمها كما يقول شريف: “بأنها حوّلتني إلى أنثى مثل شقيقتي حورية، وكثيرا ما ناداني باسم شريفة” (ص 14). وكان يلجأ إلى حضن أمه كلما ضايقه والده.

نحن بصدد شخصية تعاني من أزمات نفسية متشعبة، تجعل صاحبها يمارس كلّ الأفعال القبيحة مع تبرير ذلك لنفسه من أجل الوصول إلى مبتغاه.

تزوّج شريف من فتاة أحلامه (ابنه المختار)، ولكنْ في صعوده المستمرّ في عمله، يحدث شرخ في علاقته مع زوجته، التي ترفض عمله، وإن كانت تقف إلى جانبه في مرضه، وعندما يشفى ويعاود الالتحاق بعمله كعميل لدى الاحتلال، تنفجر العلاقة وتتركه وترحل.

أنجب ابنته البكر (نبيلة)، التي تقف إلى جانب والدتها بمجرّد أن تبدأ بالوعي، وترفض عمل أبيها. وتتركه لكي تتزوج الفدائيّ نديم الكفراوي، وتلتحق بالثورة، وتتبرأ من والدها.

نبيلة هي الشيء الوحيد في العالم الذي يشعر شريف نحوه بالحبّ والعطف والأمان، بالإضافة إلى مدينة رام الله التي يعشقها بطريقته الخاصة.

كما أنجب ابنه (نبيل)، الذي لم يحظ باهتمام كبير من والده، فانحرف وأخذ يقضي وقته مع شلة من الشباب والفتيات، يشربون الخمر ويتعاطون المخدرات، وكما يتبين من الأحداث، فإن المخابرات الإسرائيلية كانت تسهل للشباب الفلسطيني الحصول على المخدرات من أجل تجهيله بقضيته وتحطيمه وتدميره.

يقبض على نبيل من قبل جيش الاحتلال لتواجده مصادفة بالقرب من مكان عملية فدائية، فيستدعى والده ويطلب منه تسفيره إلى أمريكا على أن لا يعود مقابل عدم محاكمته. ويستمرّ هناك حتى ينساه الجميع.

ومن شخصيات الرواية الرئيسية جميل الحيّاني، المدرس والمثقف الفلسطيني، الذي يقود العمل الثوري، ويعتقل ويعذّب، ويستمر في حلمه حتى ينجح في تحقيقه، بإطلاق الثورة الفلسطينية المسلحة.

ومن الشخصيات السلبية حامد أبو رسن، ضابط الحكومة الكبير الذي يفعل أي شيء للمحافظة على منصبه، ويستغل شريف الزوري للقيام بالأعمال القذرة، وينتهي به الحال بعد احتلال الضفة الغربية إلى الهرب عبر الجسر، ويقال إنه دبّر له حادث سيارة قتل فيه.

أما شخصية الآخر الإسرائيلي، فنجدها ممثلة بالحاكم العسكري لرام الله، الذي يبدأ عمله شديدا صارما، وواثقا من نفسه ومن جيشه. وينتهي به المطاف خائفا، ومرعوبا على المشروع الاستيطاني الاحتلاليّ، لأن الشعب الفلسطيني لا يغادر، بل يتوالد ويتوالد، ويقاوم ولا يموت.

مارس الاحتلال همجيته الشرسة على الشعب الفلسطيني، وكانوا يعتقلون أي شخص، فالشعب كله مشبوه، وهم يلفقون التهم كيفما اتفق. ولشريف الزوري رأي مثير للانتباه هنا، إذ يرى أن لهم دافعين متصلين أقواهما وأكثرهما وضوحا هو الخوف. ويتحدث عن عجز الاحتلال في مطاردة الوجوه التي تشكل خطرا، لأن هذه الوجوه أصبحت تولد بغتة، وتضرب فجأة، وتختفي دون أن يعرف أحد مكانها، فتسبب للاحتلال الغضب والحماقة والجنون. 

واختلفت طريقة حديث الحاكم العسكري مع شريف، فبعد أن كان يثق بنفسه وبجيشه وجهاز أمنه، ويتحدّث بصرامة وأوامر قاطعة، “صارت جمله متقطعة لا يربطها منطق. كان يقول: في البداية، كنا نعرف أنهم يتسللون عبر الحدود، حصّنا حدودنا، وضربناهم في حدودهم، واخترقنا الحدود ـ وكانوا خسروا في كلّ مواجهة ولم يعترفوا ـ لكن الذين يتحركون داخلنا أخطر، علينا أن نبقي أعيننا مفتوحة كل الوقت حتى تتعب، ومع ذلك فإن وجوههم تتسلل وتزداد من وراء عيوننا” (الرواية، ص126). كان الحاكم العسكري ينهي كلامه بحزن وأسى، ويخطب ودّ شريف ويحمله جزءاً من مسؤولية ما يجري، لكن شريف لم يجرب من قبل ما يجري وهو أعجز عن مواجهته.

في الرواية لم “يخضع الروائي لما ترسمه يد السياسيّ في الخريطة الجغرافية”، وكان تم التأسيس لهذا الفكر على يد الكاتب الفلسطيني “”أميل حبيبي” في (أخطية) و(سرايا بنت الغول) وتبعه “وليد أبو بكر” في (الوجوه). والهدف تثبيت المكان الفلسطيني وأسمائه للحفاظ على الذاكرة للأجيال القادمة”. 

وكان استخدام الكاتب أسلوب “التذكّر والربط بين الماضي والحاضر ناجعا، أمد النص بروحية الحركة والدفء، إلى جانب تصوير الواقع بصورة صادقة ومعبرة إلى حد بعيد، ما جعل بعض الحقائق تكون دافعة لا تحتاج إلى تفصيل أو اجتهاد”. 

والرواية من روايات البطل السلبي، الذي ينبذه مجتمعه، ويرغب في التخلص منه. وقد نجح الكاتب في رسم شخصية شريف الزوري دون تدخل مباشر منه، وشخصية شريف هدف الكاتب من ورائها إلى تسليط الضوء على ما هو مكروه وبغيض في المجتمع الفلسطيني؛ فالرواية تظهر قيما “موجودة إن أحببناها أو كرهناها مع الكارهين، لأنها تناقش موضوعا انخرط من خلاله جزء من المجتمع”، سواء بالضغط والتهديد والابتزاز، أو بطموح مجنح مريض في خدمة الاحتلال، فنحن نعيش في مجتمع يتضمن القيم والمبادئ الإيجابية كما يتضمن القيم السيئة والانحراف عن الصواب. وقد استطاع الكاتب، عبر استخدام المونولوج، والصراع النفسي، وتيار الوعي ضمن الشكل الفني للرواية، الوصول إلى الصراع الداخلي للبطل شريف الزوري، وإظهار ما يعتمل في عقله وقلبه من صراع بين الحقيقة والوهم، والطموح والواقع، والرغبات غير السوية