الأربعاء  25 كانون الأول 2024

الوصيّة

2015-07-29 11:24:10 AM
الوصيّة
صورة ارشيفية
 
الموتُ حرْفةٌ من حرَفي العديدة... وليس حادثا أتعرّض له مرة واحدة وحيدة مثل بقية الناس.
لكن:ما العمل ..والنقدُ أعمى؟!
نص "الوصية".. نموذجا

لـ الشاعر: أولاد أحمد - الدار البيضاء – تونس
 
-1-
شبه مُتيقّنِ كنتُ.
أمّا الآن : فعلى يقِينٍ مالحِ من أنَّني سأموتُ
ميتةَ غامضَةً
في الصَّيْف
وتحديدًا :
أثناءَ النّصفِ الثالثِ من شهرِ غُشْتْ
أحبّذهُ زوجيًّا، باسِمًا، ذلك اليوم.
حليقَ الذّقنِ – مُهذّب الأظافر – أنيقًا بربطةِ عنق
خضراء. وحذاء أسودَ لَمَّاع
وأشرعُ – للتوّ – في استقبالِ ملك الملوكِ، وفي
توديع ما علِق بالذّاكِرةِ من ملابسِ النّصفِ
الأسفل للدّنيا :
- زيتونةَ القوائِلِ... مثلاً
- ذبابَ المجاعاتِ... على سبيل المثال
- حبيبتي التي تحبُّ حبيبَها.. وهذا يحدثُ أيضَا !
- سورةَ البقرة، وقد أصبحت عجلاً.. في التأويل !
وأنتِ. أنتِ. نعمْ : أنتِ أيّتها الأكاذيب المعروضة للبيع مثل كتيبةٍ
من البرقوقِ اليابس، فوق ثريد بربريّ !
 
1- 2
أعلى من الملائكة... بلا شكّ
أعلى من بولِ الأطفال وهم يرسمون أقواسا قُزحيّة تحتَ سماءٍ خرساء.
عاليةَ كما يجبُ : ستكونُ الحرارةُ
ومن سوءِ حظِّ الذين ستترك لهم الشّماتةُ فرصةً لتشييعي أنّني من بادية حافية في الجنوب. في أقصى الجنوب. يستوجبُ الوصولُ إلى كلابها قطع ثلاثة أرباع يوم، في بطنِ حافلةٍ أميّةٍ
رقطاء ...
تدبُّ دائما،
ولا تصل أبدا.
لا أنا هُو
ولا هُم رسُلي
حتّى أصيح بالحرارة :
- كوني بردًا – من فضلك – وسلامًا !
من هذه النّاحية أعترفُ بمحدوديّةِ خوارقي
وبندرةِ كراماتي.
أمّا من ناحيةٍ أخرى،
(والحقُّ يقالُ أحيانًا) :
فليس هناك ناحيةٌ أخرى.
 
1- 3
مجرَّدًا من ملابسي الشّتويةِ،
من وسْواسِ جواهِري،
ومن حرسي الشخصيّ... أيضا :
يمكنني الاعتقاد أنَّ خمسين درجة، تحت الظلّ، عذابٌ يُسهلُ تحمُّلهُ طيلة صلاةِ الجنازةِ ومراسم الدّفن.
بالنّسبة لأناسٍ أدركوا الأربعين بحاكم واحد. بالشّرطِ ذاتِها. والنّشيدِ إيّاهُ. خمسون درجة تحت الظلّ مجرّدُ نسمةٍ من نسائم الرّبيع. بل هَوَاء صفْعَةٍ أخطأتْ طنِينَ ذبابة.
ومهما يكن:
فالشَّمسيّاتُ سيكونُ مسموحا بها... داخلَ الحافلة وخارجَها.
على أن تكون بيضاء.
- "القُبورُ لا تميلُ إلى حزنٍ ملوّنٍ وبهجة ورديّة"
وردَ ذلك في كتابٍ نادرٍ،
عادَ بِه النهرُ إلى النّبع
والنّبعُ إلى جوف الأرض.
ثم إنّه ليس كتابًا،
إنه مخطوط...
.. وشخصيّ.
 
-2-
أفضّلُ، في البدء، أن يُحملَ جسدي – جسدي هذا – جسدي الآخر تبخّرَ مع عَرق الطّفولة. أن يُحملَ – وسط قفّة فينيقية جوعانة – إلى أمْهرِ قصّاب في البلد.. ويُطلَبَ منه تجزِئتُهُ بساطورٍ ضخمٍٍ إلى أكبر عددٍ من الأعضاءِ
والمفاصل
والأشلاء
والقِطع
والمِزقِ
واللُّقطِ
والشّظايا
هو يفعل ذلك كلّ صباح، مع الخرفان الغضّة
والأفراس المغدورة، مع خطاب الخرائب وعصافير نيسان.
فلماذا لا يفعلها معي ؟
لكن :
دون شفقةٍ.. هذه المرّة
القصّابون أدقّ معرفةً بأسرار اللّحم البشريّ، وأقلّ إيلامًا للدّم المنْساب عبر المواسير البلديّة المنتَخبة.
أ. بَ. دَ. نْ:
لمَ يَحْدُث أنْ نَسيَ قصّابٌ ساطوره في عُنْق بطَّة
أو بين فخذَيْ أرنب برّي
وما نسيَ شيئا في شيء
وما كان له أن ينسى.
ولكنّ الذي حصل، مع الأطبَّاء، في دهاليز التّجريب العلمي، يعرفه جنود التّورية، وضبّاطُ المجاز وجنرالات الاستعارة.
رجاء :
ليتطاير شررُ عظامي ...
حتّى يبلُغُ أجنحةَ الملائكة.
 
2- 1
إنّ وطنيَّتي...
ما أثقل "إنَّ" في بداية هذه الجملة الرومانية !
محكومٌ عليك أن تنصبَ اسمها، وترفع خَبرها، حتّى وأنتَ تأكل ! حتّى وأنت تقلع ضرسًا. حتّى وأنتَ تصيح في الصحراء :
- ما أنا بقارئ !
قال لها إنّني.
فتركتهُ
وحين تذكَّرَ أنَّه لم يكملْ :
- أحبّكِ
كانت في قلب رجل آخر.
في الطّابق الخامس.
قرب الطريق السّريعة
الممنوعة على الشّاحنات.
بجانب بائع القماش
- القماش الأبيض-
قماش الموعودين بالموت !
وَطنيَّتي إذًا.. لا تُبيحُ لي إفراد قريتِي بجثمَانِي
وحِرمان بقيّة تراب البلاَد من أثار موتِي ومعالِم اندثَارِي.
هذا الموت :
الذي استنْبحَه لي أنصافُ الوسخين في حاناتِ التَّقوى، فلَم يرَ الله مِنْ موجبٍ للاستجابةِ لدعائهم.
ربّما لأنَّه يُحبّني.
أو على الأقلّ.. لأنَّهُ لا يكرهُني...
وهذا أمر غير مستغرب من كائن لم أسمع عنه سوى ما يشجّع على الألفة.
باركَ الله فيهِ من ربٍّ
كريم..
ما ظللْنا نذبحُ لهُ أولادَنا
شديدُ العقاب..
إذا نحنُ مُتْنَا وتركناهُ وحيدًا.. في هذا الملكوت.
 
2- 2
كالآتي أوزع جثّتِي فِي بطُون بيزنطة معتذِرا، سلفا، للمُدن التي لَمْ تُبْنَ بعد وللفيافِي الكافرة التي سيتمّ فتحها بالجزية والرّماح حال هبوب وحي نوويّ :
أصابعي..
إلى جبال الجنوب المسلوخة حيث يتناوم الشّهداء المقتلون برصاص الاستقلال
أعمِدة للهَاتف والقِطارات السَّريعَة
سلاَلم ومَغازِل
أقلاما وأعواد ثقاب
سوف تستقيم تحت مطارق الحدّادين الأشدّاء
إلاّ السبّابة والإبهام فلجذع النّخلة الحزينة
عساها تلوّح بشارة نصر إلى غرابة شموخها وسط محيطات الرّمل.
شفتاي : إليها
قوسان على حاجبيها
هلالان في ليالي الخسوف.
كبدِي :
يا حارس القصر :
هيّأتهُ لك على طبق هلالي من عاج الفِيَلَة، إذا أردتَه مشويًا شويتُه، وإذا أردته نصف – نصف ربحتَ دقيقتين ولعابي
بقليل من البقدنوس واللّبن سوف يكون لذيذا.. وتأكل أصابعك معه.
دماغي :
إلى أسري البحث العلميّ قليلا، والعلميّ كثيرا، والعلميّ جدّا.
ليس لي دماغ ثان..
يرجى التوصّل إلى حلّ قبل مائة ألف صفحة من البحث على لأقلّ
البشريّة جمعاء في انتظار زبدة المنهجية
وعلى البرابرة أن يصلوا.. هذه المرّة
عيناي :
إلى فقراء السّباسب والأحراش النّائمين، مع القطط، على أرصفة التّمنّي.
لقبي : إليهِ
لأنّي فيهِ
يحاول قَتلِي فلا أشتكِيهِ !
بلا نقط أَسْمعُ الشّينَ منهُ
فأفهَمُ ما لَمْ يقُلْهُ بمَا لم يقُلْهُ
وتحت سماء بعيدة
يسائلُنِي :
- أن ربّي !
فأخجلُ
أشغلُ نفسِي بتقبيلِ بعضِي وهذي القصيدة
صباح الأحد
أردّ إلى القرشيّ فضائل اسمي وتاج النبوّة
والمعجزاتْ
وأصبح : بابا
بقطعة حلوى
وبعض حكايا
وبعض نكاتْ
أذناي :
إلى السكرتير الأوّل لفرقة التّفتيش الوطنيّة عن لذّة النصّ :
ما دمنا في لذّة النَّص :
استشرتُ محاميةً، متوسّطة القامة، القاضي يعرف لقبها، وأنا أعرف اسمها، فأكّدت لي أن القانون لا يجبر الشّعراء على وزن نصوصهم،
وأضافت :
إذا كانت "صباح الخير" على وزن مفاعيلن
و "سيّداتي آنساتي سادتي" على وزن :
لعنة الله عليكم كلّكم !
فذلك من باب الصّدفة
انتهى كلام المحامية، فاستنتجت أنه بالإمكان أن يكون للصدفة شبابيك.
- 3 -
- ميتة بكذا كذا ألف دينار !
- ميتة بنصف ميزانيّة الدّولة !
- ميتة باذخة.. ستستغربُ وزارة المال
- باذخة.
- لم يحدث أن حدث هذا: سيعلّق كبير حامي المعادات
- لم يحدث.
مجنون هذا السيّد : سيؤكّد الطّبيب.
- مجنون.
- لعنة الله على أمّة : سيقول إمام الجنازة
- وعلى أمّك : سيهمس المصلّون!
- وماذا لو لم نحترم الوصيّة.؟
سَيَتسَاءَل
أرجِعهم عقْلا
قبر في كل بلدة !
وما المانع؟
أوَ أُحرمُ حتّى من هذَا !
إذَا لم يفكِّر أحد، من قَبل، في أمر كهذَا فتلك ليست مشكلتي.
مذ سقط رأسي على هذا الرّماد وأنا مشغول بالتّخطيط الفذّ لبشاعة موتي
أبدا..
لم أنجُ من الجمل الهائج صدفة كما يشاع في التَّراتيل
لم أحرم الذِّئاب العثمانيَّة من لحمي دفاعا عن يقظة السّراح.
لم أترك الثَّوْر الاسبانيُّ يبقر بطني مخافة أن يقالَ :
- انظر ذلك الصبيّ لا بطن له !
لم تكن تربطني عداوة وراثيّة بالعقارب لأنّها عقارب في حدّ ذاتها
والحنشُ
والضَّبْعُ
والوَرلُ
وبنات آوَى
والكِلابُ
والنَحلُ
والضَّفادِعُ المسمومةُ
ما رميتها قطّ بحجر وهي تخلع أحلامي وتوزّع فناجين السمّ على ضيوف كوابيسي.
كلّ ما في الأمر أنّ هذه وتلك، السّوام منها وذوات القرون، كانت ستعاقبني بميتة محليّة، لا تتجاوز مضارب القبيلة
وأنا أريده موتا مشاعا
موتا عموميّا.. كما يقال
موتا منتجا.. بلغة اقتصاد السّوق
موتا يدعّم أواصر الأخوّة، والتّعاون المتبادل، في كنف الانسِجَام التَّام والثّقة المطلقة، بيني وبين التّراب الذي جئت منه لأعود إليه.
وحده المَوت يضْمَن حق السَّكن الدَّائم في التُّراب.
وحدها العظام تصلح أسمدة للسّنبل والنّخل
وما بينهمَا.
وحْدَها الوَصَايا تديم المعاني وتحيي الأمْوَات
- 4 -
شبه متيقن كنتُ..
أمّا الآن :
فعلى يقين من أنَّهم احترموا الوصيَّة
وزرعوني
في كلّ شبر من هذه البِلاد
هذه البلاد...
التي أضيف لَهَا ياءا من موتي
وأسمّيها :
- بلادي