الأربعاء  25 كانون الأول 2024

فصل من رواية "حضن الصبّار"

2015-07-29 11:44:52 AM
فصل من رواية
صورة ارشيفية
 
 
لـ الكاتب فايز سلطان
 
(2)                            
كفرعانة القريبة من يافا، قرية داهمتها العصابات الصهيونية بكل همجيتها المعروفة فأحدثت فيها الدمار والخراب. تبدو للعيان خاوية متهدمة منازلها والحيوانات النافقة منتشرة في جنباتها، لا يشق صمت موتها سوى نعيق الغربان. الثوار كانوا هنا قبل يومين، أصوات رصاصهم لم تعد تُسمع كما كانت في الليل والنهار، مُذ فرّوا إلى القرى والمدن التي لم تصلها بعد تلك العصابات، لإعادة ترتيب صفوفهم وبناء قوتهم لمعاودة المقاومة. مغادرة الثوار لتلك المناطق المنكوبة زادت توتر الناس وخوفهم بعد احتمائهم بأصوات طلقاتهم وتكبيرات المُغيرين من الكمائن بين بيارات البرتقال على عصابات العدو.
 
ارتحل الفلاحون مع الثوار إلى المدن والمناطق الأكثر أمناً، وتفرق الأقرباء والأنسباء، في رحلة البحث عن مأمن، عبد الرحمن الشاعر وأسرته: والداه وإخوته وأخواته لجأوا إلى قرية (الخيرية)، حمدة وبناتها وطفلها تمكنوا من الوصول إلى أطراف مدينة (الرّملة) حيث حطت حمدة رحالها على قارعة الطريق تحت شجرة تين لم ينضج ثمرها بعد، تبلّ ريق أطفالها بما حملته من ماء، ملوحة بيدها لكل شاحنة تمر، علّ سائقها يشفق علىيهم فتنقلهم إلى أيّ منطقة آمنة!
 
لم تتوقف لها أيّ وسيلة نقل، حتى هبت واقفة أمام إحداهنّ في منتصف الطريق، ملوّحة بكلتا يديها بعد أن بدأت الشمس تلوّح هي الأخرى مودعة جبين المنطقة المغطى بغبار الحرب.
 
مثل ثور بريّ أنهكه الركض أمام لبؤة شرسة، أطلّت تلك الكتلة المعدنية الحمراء، تدوس ظلال الأشجار المنبسطة على ذلك الشارع الترابي القادم من تعرجات الطبيعة، ومن بطن ذلك الوادي الهابط المليء بالغربان والمهجرين وطيور تفر بمجموعات مذعورة منطلقة فوق سهل من سنابل القمح التى دنا موعد حصادها قاصدة سفوح الجبال القريبة تنشد الأمان الذي مزقته المدافع والطلقات.      
 
ما زالت الشاحنة الحمراء تقترب رويداً رويدا، بينما تدور بين زجاجها الأمامي وأشعة الشمس المزمعة على الرحيل معاكسة لطيفة، فبين اللحظة والأخرى ينغرز سيف ذلك الشعاع في عيني حمدة، فيزيدها غضباً على غضبها.  
   
تماماً مثل ظمآن هدَّه العطش بعد رحلة طويلة تراءى أمام عينيه نبع ماء على بعد، انطلقت حمدة من عقال يأسها، تُثبت شالها اللؤلؤي المرصّع بأشكال وألوان من الأزهار فوق ثوبها الخمري المطرز الذي عكفت على إنجازه لأكثر من عام، ومثل رمح سافر من  قبضة فارس محترف حَطت حمدة قدميها في منتصف ذلك الشارع ، ملوّحة بيديها غير آبهة حتى لو داستها الشاحنة العجوز التي تنوء تحت حملها الثقيل.
 
 اقتربت الشاحنة بصوت محركها الذي يشبه جاروشة الرّحى، يلمح سائقها تلكما اليدين الملوّحتين، يبطىء من مشيته البطيئة أصلاً ويوقف شاحنته أمام تلك المرأة المصممة على مغادرة تلك المنطقة بأي ثمن، تتقدم حمدة من الشاحنة غير مصدّقة بأنها توقّفت فعلاً، تقف على نافذة السائق: "خذنا يا خوي معك، أنا وهالبنات ما إلنا الاّ الله وأنت" تقول حمدة دون أن تنظر إلى وجه السائق، ثم مالبثت أن انتبهت؛ إنه هو أبو حامد! بائع الحليب!
-أبو حامد أنا حمدة زوجة ... !
 
-أعرفك أعرفك..(حمدة البيك) أليس هكذا ينادونك؟ قال أبو حامد.      
 
-كانوا!
 
ردت بحسرة من أحس بخسارة كل شيء:"ماظل لا بيك ولا باشا، هينا زي مانت شايف، مرميين على حفِّة هالطريق زي النَّوَر الرّحل أو أقل قيمة".
 
-أنت الخير والبركة يا أم محمّد، لكني لا أعرف ماذا أقول لك!
 
- قول لاإله الا الله.
 
-لكن السيارة مستأجرة من قبل هذا الرجل قريبكم على ما أعتقد؟ 
 
-قريبنا؟
 
سألت حمدة ثم التفت إلى النافذة المقابلة حيث يجلس الرجل مستأجر السيارة، يلف رأسه بكوفيته التي غطت وجهه حتى منتصف أنفه، عندما اقتربت منه حمدة أشاح بوجهه إلى ناحية السائق وكأنه سقط في ورطة، إذ لم يشأ أن تعرفه، لكن حمدة وبجرأتها المعروفة مدت يدها إلى كوفيته تنزع طرفها فانكشف وجهه، مما أغاظه فجعله يلوي عنقه ناحيتها بدهشة وشيء من الغضب ما لبث أن انكمش خجلاً، ثم طأطأ رأسه متحرجاً، عندها تَحَرّك لسان حمدة ببطء وحيرة وذهول: "هلال الرّبدي؟! مخبي وجهك عني يا ابن العم؟ ألا تريد أن تعرفني؟! يا حيف عليك، وين القرابة؟ وين الرجولة؟! فعلاً الرجال بمواقفها".
 
هلال الرّبدي، هذا ليس اسمه، بل لقب رافقه منذ طفولته، أطلقه عليه شيخ البلد أثناء جلسة مرح مع والده في مقهى القرية وظل يعرف به، حاله حال العديد من أهل تلك القرية، حيث كانوا يطلقون ألقاباً على الصبية أو حتى البنات أثناء الطفولة، وتظل هذه الألقاب عالقة بأصحابها إلى ما لانهاية، صاحب تلك الشخصية الغريبة فارع الطول ممتلىء الجسم ذو عينين واسعتين وحاجبين كثيفين وأنف معقوف، كان معروفاً لدى أهل القرية بقوته وصلابته وصوته القويّ الأجش، كما هو معروف بتسرعه وإقدامه على فعل أي شيء يقتنع به دون أن يعنيه التفكير بالنتيجة، إلاّ أنه كان مستهتراً بحياته ومستقبله فلم يقم لهما وزناً، ما أدّى إلى فقره، لكنه كان يتمتع بشخصيّة قويّة مهابة، غير أنه في هذه اللحظة ولخصوصيّة الموقف، يبدي تنازلاً ملحوظاً وهو يخاطب حمدة قائلاً: "ياحمدة الموضوع ليس كما تظنين، وأرجو ألا تسيئي فهم الأمر: الشاحنة كما ترين ممتلئة عن بكرتها، وباستطاعة أبو حامد أن يوصلنا ثم يعود ليحملك أنت وأولادك حيث تشائين، ثم لاتنسي -وهذا الأهم- أن أجرة الشاحنة مرتفعة كما تعلمين، أبو حامد يتقاضى خمسة جنيهات مقابل النقلة الواحدة، وأنا لا أملك سوى مبلغاً بالكاد يكفي رحلتي أنا وزجتي وابني وبنتي". تنهدت حمدة ونفثت تعب اللحظة ثم نادت محمداً، تقدم الصغير على خجل واضعاً إصبعه في فمه، ويده اليسرى تجول بأناملها بين خصلات شعره، نهرته حمدة لكي يقف كالرجال، فأسبل محمد يديه ثم توجهت حمدة إلى هلال قائلة: هذا ابني محمد رجل العائلة بعد أبيه، وهو من سيدفع الجنيهات الخمسة لأبو حامد، عندها انكمش هلال حرجاً، ثم علق ببطء وبشكل متقطع قائلاً: ياحمدة أنا والله لو أملك الكثير من المال لما جعلتك تدفعين قرشاً واحداً، ردت حمدة بنبرة المنتصر في نهاية المبارزة: لا تنسَ يا هلال بأنك مدين لي بستة عشر جنيهاً، لا أعتقد بأنك نسيت ذلك عندما عزمت على شراء العربة والبغل منذ عامين.
 
كان سند حمدة الوحيد في تلك الحالة وذلك الظرف الصعب مبلغ من المال تكوّر في صرّة سكنت أسفل نهديها، بكل ثقة مدّت يدها داخل صدرها وأخرجت تلك الصرّة بعد أن أدارت ظهرها للرجلين، ثم أخرجت منها خمسة جنيهات فلسطينية وضعتها في يد محمد، ثم رفعت رأسها كما رفعت محمد بين يديها ووضعته على النافذة، وأمرته بأن يدفع بتلك الدنانير لأبو حامد الذي لم يبقَ له أية حجة بعد ذلك، سوى أن يدعو لها بيسر الحال وزيادة البركة. أبو حامد لا فرق عنده بين شخص وآخر إلا بقدر ما يدفع، جاءته الفرصة تطرق بابه نتيجة ظروف النكبة التي أحاطت بالجميع فاستغلها.
 
قبل عام تقريباً باع بقرتيه، واشترى تلك الشاحنة القديمة متوسطة الحجم، بنصيحة من أحد تجار مدينة يافا، ولأن أبو حامد لم يكن يملك ثمن السيارة كاملاً، اقترح عليه التاجر بأن يدفع هو باقي ثمن الشاحنة على أن يكون شريكاً له، وعندما وقعت الحرب وسقطت يافا بيد القوات الصهيونية واختلط الحابل بالنابل، فُقد التاجر شريكُ أبو حامد، وقيل أنه قتل أثناء الهجوم على المدينة، فكانت كما يقال: مصائب قوم عند قوم فوائد.   
 
هبط أبو حامد من شاحنته وبدأ في مساعدة حمدة على رفع أغراضها وصُرَرِها، كما صعدت هي وأولادها إلى الصندوق الخلفي وجلست إلى جانب زوجة هلال، بعد أن سلّمتا وتعانقتا على عجل، ثم تابعت الشاحنة العجوز زحفها تحت حملها الثقيل، مثل سلحفاة أرهقتها الرمضاء تبحث عن رطوبة أو مستنقع ترمي به تعب رحلتها، وكأن زعيقها يقول: أنا جزء من هذه المنطقة، أصابني ما أصاب أهلها وما عليّ إلا الصبر، ثم تطلق صوت منبّهها المبحوح، في شارع خال من الأطفال.
 

*كلمة "أبو" أبقيت كما هي بغض النظر عن حالتها الإعرابية انحيازاً للهجة.