الخميس  26 كانون الأول 2024

قراءة في قصة "ليلة القهر"

من المجموعة القصصية "ليلة القهر"---منشورات الاختلاف-الجزائر والدار العربية للعلوم-بيروت للروائية الكويتية ليلى العثمان

2015-08-11 10:34:36 PM
 قراءة في قصة
صورة ارشيفية
بقلم: أمين دراوشة
"ذات يوم سأمتلك زجاجة عطر"
 
اختارت المؤلفة ليلى العثمان قصة "ليلة القهر" لتكون عنوانا لمجموعتها القصصية، ولا شك أنها كانت موفقة في ذلك. فالقصة جميلة وعميقة كبئر، وأسلوبها رشيق ومفرداتها تضج بالحركة والحيوية وصورها عذبة منسابة رغم الألم والوجع التي تزخر فيه حياة شخوصها.
 
تتناول ليلى العثمان في قصتها عاملة آسيوية، تعمل كمنظفة لحمامات النساء في المطار، وأحلامها البسيطة، فغاية حلمها أن تمتلك زجاجة عطر، لذلك ما أن رأت زجاجة عطر قرب المغسلة لإحدى السيدات التي دلفت إلى المرحاض، حتى تملكتها رغبة جامحة في أن تندفع نحوها تفتحها، ترشّ قليلا على كفّها الخشن الذي يصكّ على –ربع دينار- ألقمتها إياه صاحبة الزجاجة قبل أن تغادر.
 
فكرت: "ماذا لو أخذت الزجاجة كلّها؟ أرشّها على جسدي فتوح رائحتي شهيّة ككل النساء؟". (ص72) فالعاملة الآسيوية المسكينة والمحرومة من كل شيء، عليها أن ترى النساء الجميلات والأنيقات بملابسهن الملونة، يخرجن من المراحيض ليتراكضن نحو المغسلة، يغسلن أيديهن المليئة بالذهب، ويضعن الأصباغ ويورّدن الخدود. وآخر لمساتهن زخات متتالية من عطور الزجاجات المبهرة، ثم يخرجن على عجل من أجل اللحاق بالطائرة.
 
تجلس العاملة على كرسيها تحلم بإكرامية، ولكن الكثيرات يدخلن ويخرجن غير شاعرات بوجودها، ولا "بحلمها الذي لا يهدأ ولا يبور، فتهمس لنفسها كلّ مرة: "ذات يوم سأمتلك زجاجة عطر"". (ص73)
 
تعود منكسرة إلى غرفتها المتواضعة تطاردها رائحة الحمام الكريهة الملتصقة بملابسها وجسدها. وفي ليلها الطويل والمضجر، تشرع تفكر بالنساء وزينتهن وعطرهن، وتحاول عبثا أن تصطاد ولو رشة، رشة واحدة من عطورهن، ولكنها ترجع إلى واقعها المزري بعد أن تصطدم برائحة زوجها الشاخر، الذي تنبعث منه رائحة "السّمبوسك وكبّة البطاطا" التي يتشبّع بها في المطعم الهندي حيث يعمل. وتقول لنفسها بحسرة وألم: أكيد يشمّ هو الآخر رائحتي المنتنة.
 
ويعود خيالها ليحلق من جديد، ويلاحق زجاجة عطر، ترش على جسدها وتتخلص من الروائح العالقة بها، وتلتصق بزوجها "تنام وفي دهاليز الأحلام تجد نفسها تطارد عشرات من الزجاجات ذات الأجنحة". (ص74)
 
تبدع الكاتبة بإدخال الشخصية الأنثى الثانية في القصة، والتي وأن ظهر الاختلاف بينها وبين العاملة إلا أنهما يشتركان في أن الحياة لم تنصفهما، وتعرضتا إلى النبذ والهجران.
 
تدخل المرأة إلى الحمام، تقدم للعاملة دينارا كاملا، وفي تصورها أنها تهبها ثروة، وتكون المفاجأة برفض العاملة له وتطلب عوضا عنه زجاجة عطرها، فتقول لها والحيرة ترتسم على وجهها، وماذا سيفيدك العطر وأنت هنا؟! فترد بتوسّل "أرشّه في الليل ليجذب زوجي". (ص75)
 
وقعت كلماتها كالصخرة على رأسها وأصيبت بالدهشة والحزن، وعادت لها ذكرى أليمه، وتعبر عنها بصورة بلاغية "دفعتك امرأة الحمام غير قاصدة أن تفكي أحزمة ذاكرتك في اللحظة التي أنهيت ربط حزام الأمان". (ص75)
 
تتذكر ليال القهر وهي منزوية في فراشها "مغموسة بسوائل غضبه اليومّية. يعوفك وأنت أشهى من تفاحة، وأنظر من زهرة، أنت التي تشهّاها وتمنّاها". (ص75) ولكنه الآن يبعد وليس إلا زير نساء ومدمن للشراب وأناني، وخائب أملك أنك ستقدرين بذكاء وجمالك أن تملكيه وتغيريه، فمع الأيام بدأت تشمين عطورهن في ثناياه. وفي ليلة من الليالي يدخل إلى البيت منتشيا بخمرته، يحمل رزمة، وكاد قلبك يرفرف من الفرح، فها هو أخيرا تذكر وجودك بهدية، وعندما نام ركضت إلى الرزمة الملونة وفتحتيها لتذهلي أنها لصديقتك الأثيرة، فتحت الرسالة وقرأت "عطرك المفضّل الذي يدوّخني ويجعلني أسيرك دائما". (ص76)
 
تنهار وتلهبها الغيرة، تدلف إلى الحمام وتدعك جسدها البضّ المهجور، وترتدي قميصا شفافا سماويا، وتسكب نصف الزجاجة على أنحاء جسمها، وتندس تحت اللحاف ورغباتها تنطلق وتحلق، ينهض كالملدوغ، وهي تحتفل بقلبها الطائر "سيرويني بعد القحط ويقطف ثماري الناضجة إنه لعطر ساحر حقا". (ص77) ولكنها سقطت من أحلامها ورغباتها المشتعلة لتتلقى ردّة فعله الوحشية، وينهال عليها ضربا ويمزق الثوب السماوي، ويصرخ فيها "كيف تجرّأت على عطرها؟" رمها عن الفراش وبصق وشتم وألقى بها في قلب البانيو وغطها بمساحيق الغسيل وأخذ يفركها بالماء ليزيل أي أثر للعطر. قضت ليلتها في البانيو غارقة بالألم والعذاب، غير أنها تنتفض بعد ذلك، وتتركه شاقة طريقها نحو الغد، وتتسأل: "كم مضى الآن منذ أن انتزعت روحك من بحيرته الآسنة هادلة ستائر النسيان السميكة على روائح قهرك القديم؟". (ص 77)
 
تخرج عاملة الحمام إلى الشارع، تمني النفس بنهار جميل وليلة منتظرة، ولم تشعر بالندم لأنها رفضت الدينار رغم حاجتها له، فهي تقبض بقوة الآن على حاجتها الأشهى والأغلى، تشد على حقيبتها المهترئة حيث تنام الزجاجة، وكأنها قلبها التي تحافظ عليه.
 
وصلت ملحقها وقلبها يزقزق من الفرح، الذي لم تعرفه يوما، وأخذت تغازل الزجاجة "أخيرا يا حبيبتي امتلكتك وسيعرف جسدي رائحة غير رائحته . آه..". (ص79)
 
ولكن أنّى لها، أن تعرف سّر العطر وطريقة التعامل معه، لذلك لم يخطر في بالها أن تستحم، وتزيل روائح جسدها العطنة المتراكمة، ولا أن تغير ثوبها الملطخ، ففرحها وحلمها الملهوف استلباها. أفرغت كل الزجاجة على جسدها، وقررت عدم القيام بأي عمل، وارتاحت مؤملة النفس بليلة سينسى فيها زوجها تعبه ويجرفه "تيار العطر إلى جسدها الجائع، ستداويه من ألم الصبر والانتظار، وبهذا العطر الساحر ستجعله يفرغ مطره المكتوم ويرشّ بذاره المخزون". (ص79)
 
جاء الزوج ليلا، وضع رأسه على الوسادة وطفق يشخر من التعب ككل يوم، ولكنه استبد به القلق، وسمعته يستنشق وكأنه يبحث عن رائحة ما، سعدت وظنت أنها استثارته ودنت منه بغرور، والتصقت به، زفر بقوة، أحست بجسدها يرتعش من جوع الرغبة، وحلمها يصل إلى منتهاه حتى جاءت صرخته لتنزل عليها كالوباء: "رائحتك الليلة كريهة لا أطيقها، قومي واغتسلي". (ص80)
 
شعرت أنها سقطت في بئر عميق تفوح منه الروائح، وأن الروائح اخترقت جسدها ومحت كل أثر للعطر، وأخذت مكانه الفارغ.
 
تعالج ليلى العثمان في مجموعتها قضايا المرأة، وتتناول أوضاعها المختلفة والمتردية، من كبت لحريتها، وفرض قيود على حركتها، ومحاصرة أحلامها، وشخصياتها على الأغلب في المجموعة هن من النساء الواقعات تحت وطأة القسوة والخيانة والظلم والقهر، ولكن ليس كل شخوصها يتغلغل فيها الضعف والهشاشة، فهناك نماذج استطاعت الانطلاق وكسر الطوق، والتحليق في فضاء الحرية الرحب