الخميس  26 كانون الأول 2024

فضاءُ المرسمِ المهجور / قصة قصيرة

2015-08-27 09:18:43 AM
فضاءُ المرسمِ المهجور / قصة قصيرة
صورة ارشيفية

القاص: ناصر الريماوي

فضاء المرسم المهجور أورام مجوّفة تمضغ الفراغ، أطياف منقوصة تمتطي عربات الوقت في غيابٍ تدريجيّ، مملة لعبة الفراغ في استنطاق الصور حين نعتاد على نبرة الصوت المكهربة...
 
-        اعتاد غيابكِ إلا عن هذا المكان، فكيف انتزعتِ -في استخفافٍ- حضوركِ منه؟!
الخادمة الآسيوية حين تمنحني مفتاح المرسم، تروق لي للمرة الأولى، اعذريني فلم أكن أطيق حضورها البليد، ملصقات صغيرة وحديثة، إرشادية وأخرى تحذيرية، دعابات لاتنتهي، «اتبع السهم يا عزيزي»... أقفز على سكون المرسم ورائحة الهواء الثقيلة، للمرة الأولى أجول فيه بمفردي، موضّب حدّ الفزع، لوحاتك الأخيرة مسلوبة الألوان... «الستاند» فارغ و«باليتة» الألوان على الرف الملحق ببقع جفّت منذ زمن، «مراييل» الرسم والقمصان الفضفاضة نظيفة معلّقة في خزانة الجدار، الحمقاء تلك الخادمة لم تدرك بأنها تخلّصت من عطر الرائحة العضوية للبدن الأنثويّ حين غسلتها... بلهاء. الغصة تنمو كأشجار الصبّار في حلق المكان تعلوها اللافتات وهي تشير «اتبع السهم يا عزيزي...»، إلى مغّلف أصمّ، أستخرج منه رسالة خطية تحضني على البقاء لأطول فترة ممكنة، تحكي عن تبادل مؤقت لأدوار ساذجة لكنها عميقة...
- عليكَ أن تكمل لوحتي الأخيرة... لوحتنا معاً.
- لكني لا أتقن الرسم...
- أنا الأخرى لا أتقن نظم الشعر أو الكتابة... لكني سأكتب لك، ربماكانالأهمهوأنأؤمن ببعضالفراغعلىهيئةغيابك... فلربماأعتادُعليه.
 «اتبع السهم يا عزيزي»،لقّم محرك الأقراص المدمجة، أقراص عديدة مصفّفة بعناية، «ياني»، «طارق الناصر»، «عمر خيرت»... أختار «حلم رمّ» لطارق الناصر في هذا الاستحضار الغامض والحزين، المنفضة الصغيرة ذات القاع الضحل، لا تتسع لأكثر من عقب سيجارة، «أشعل سيجارة يا عزيزي...»، على هذه الطاولة المجروحة بأسلاك التغذية الكهربائية كُنتِ تظهرين نصوصك على «الفيسبوك» بلا شك، ولأشهر خلت، بقي المكان، بينما رحلت أصابع التدوين بعطر الذكريات الإلكترونية، على الرف الآخر كتب عديدة لم ألمحها بهذا الترتيب من قبل، ترتيبها مملّ ومفزع في آن واحد، «آلام فارتر» و«عشاق فينيسيا»... «عمال البحر»، وتحت ظلال الزيزفون... «ألبوم» الصور المشاع، حين أرتدّللأريكة المطعّمة بالصدَف، يطالعني على جدارية حزينة، للمرة الأولى لا تهاجمني آلاف الأسئلة، ولا تغسلني ثرثراتكِ الجميلة من درن الصمت، لكنها تخنقني هذهالمرة...
- عليكَ أن تعيلمَ قد تطيل الانتظار، وأنتَ تتوقع في انتظاركَ العبثيّ قدوم شخصٍ لن يأتي.
- سأمقتُ الأدوار عندئذ في تبادلٍ مجحفٍ لكل شيء، للانتظار وللنبرة المكهربة لأصواتنا عبر أسلاك الهاتف، وأجواء الأثير... تكتفي بردّ غامض: لن تحظى بدفء رؤاك حين يغدو اللقاء مستحيلاً، فقط لنحيا هذا التبادل في كل صحواتنا!
هداياي لها، مركونة على أرفف التسريحة الجدارية، لم تزل على حالها!
قالت لي يوماً إنها أغلى من أن تُستهلكْ في تجميل وجه يقبع في العزلة، هي ليستْ لكَ الآن، لا تمسّها، فقط اتبع السهم ياعزيزي...
ليومين لم أفلح في إتمام اللوحة، وكان المكان يضيق بنا وأنا أقرأ لها حين تكتب من بعيد، كانت ترسم بالكلمات كي أراها من هنا، بينما كنتُ أزجّ بمفردات لونية نحو لوحة بيضاء لتقطير الكلام كي تسمعني هناك، كلانا كان يحدّث الفراغ على عجز اختزال المسافة.
غبتُ سنة، على وقع صحوات باردة غافلتني لمرّات، وأنا أحاول استعادة مفرداتي اللونية من هناك ولا أفلح... كنتُ أعود إلى المكان ذاته، لم أشكّ للحظة بأنها لم ترجع إليه...
كان فضاء المرسم فراغاً عادياً تسبح فيه أورام مجوّفة، اعتادت على مضغ رسائل كثيرة لونية وصوتية، مموّجة، لها نبرةالأسلاكالمكهربة، لم تنقطع يوماً!
على اللوحة التي لم يكملها أحد، وبينما كنتُ أغادر، قرأتُ إحدى تلك الرسائل، على عجلٍ، وقبل أن يكنسها الأثير:
«كحلمدافئ، وحنون... ستبدوكلالرؤىالمستحيلةلديكَ، في النوم، وفي الصحواتالباردة أيضاً، خلالها، أو بعدهابقليل... فقط اتبع السهم يا عزيزي».