الخميس  26 كانون الأول 2024

هبني لغة جديدة يا إلهي.. بقلم: أنور الخطيب

2015-09-15 03:37:06 PM
هبني لغة جديدة يا إلهي.. بقلم: أنور الخطيب
صورة ارشيفية

يا إلهي، كم كتبت ومزقت.. لم أكن هكذا في البدايات، كانت الكلمة رصاصة تنطلق من سبطانة البندقية ساخنة في وضح النهار، وتعرف الدرب الذي تسلكه، والهدف الذي ستصيبه، وكانت موقنة من إصابته في مقتل.

كانت الكتابة أشبه بنهر شق ذاته بذاته، وكوّن ضفتيه وأطلق ماءه، وتدفق، ويعرف تماما المسافات التي سيقطعها للوصول إلى مصبّه.

كانت الكتابة ترتدي ثياباً مموهةً، وتنشد نشيداً واحداً غير مرتبك وغير متردد، بصوت لا يهتز.

والآن، الكتابة مثقلة بالحكمة الزائفة، وبالتردد المخيف، وبعقلانية مقيتة، أصبحت تجيد التلوّن كي تحافظ على التوازن، وتحرص ألا تُغضب هذا أو تستفز ذاك، ولا تعرف هدفها. هي تحافظ على وجودها ككائن هجائي مضطرب الحروف، لا يعرف الفتحة من الكسرة، ولا يعرف الضمة من التنوين، ولا الجزم من
النصب، ولا تعرف الفاعل من المفعول، هي تريد أن تكون فقط، مجرد خطوط سوداء تلوث بياض الصفحات.

الكتابة كانت واضحة لأن أصحابها كانوا يكتبون بدمائهم وأحلامهم وعواطفهم وشياطينهم البريئة الحرة، وأصبحت الكتابة خبيثة لعوبة ماكرة ترتدي ألف لون ولون، تمنح معناها للضباب كي تؤسس للسراب، وتقتحم الأماكن الشائكة بحروف ناعمة كالحرير، كي لا يفهمها الآخر على أنها محرضة، فيقطع عنها النور، ويحجب الغذاء والدواء والهواء، ويقتحم أماكن التهجئة والتدقيق والتحرير بحثاً عن فاصلة مختبئة خلف علامة تعجب، أو نقطة متخفية تحت علامة استفهام، فالتساؤل ممنوع، والتداول محظور، والتعجب منهور.

الكتابة كانت متحررة من صياغة اللجان، كان يخطها أفراد بعفوية العاصفة، ثم يفضّون تجمعهم نحو كتابة أخرى. وأصبحت الكتابة الآن حبيسة اللجان المرعوبة المصلوبة المرتعشة الخائفة الحريصة على ألا تُفسر حروفها على أنها انتفاضة أو عصيان أو ثورة، وكل عضو لجنة (أنجس) من الآخر في استخدام
الكلمات التي تشبه العاهرات، فلا تعرف لها رائحة ولا عطرا ولا معنى، عيونها زجاجية وملامحها كصحراء شديدة النعومة، بلا شجر ولا كثيّب، ولا بدوي يغني ولا امرأة تتشمس في عز الظهيرة.

الكتابة كانت بلا نسخ مكررة، كانت نسخة أصلية عليها توقيع واحد فقط، ممهور بالدم وخاتم الوعد والالتزام بالموعد، ولا خوف من أن يتناقلها الناس، فلا ملاحق سرية لها، ولا تخشى التأويلات، كأنها مكتوبة بأشعة النهار. وأصبحت الكتابة مكونة من اصل ونسخ مكررة وملاحق سرية، وهذه الملاحق تتضمن عكس ما يحتويه الاصل، فيتحول الأصل إلى مهرج يتلوّن وفاقد الذاكرة، يؤكد اليوم ما نفاه في الأمس، ويصرح غدا بما أكده ونفاه حتى تتحول التصريحات إلى منفى غامض. أما الحقيقة فتكمن في الملحق السري، كأنه الشارح الاصلي للحقيقة، وفي كل الملاحق السرية، تكون الحقيقة أمر من العلقم، ويكفي أن تكون
سرية حتى تحمل رائحة الدنس والمؤامرة والخيانة.

كانت الكتابة لجميلة واحدة معروف بيتها وحدود حديقتها وأفراد اسرتها وأبوها وأمها وأخواتها، واصبحت الكتابة لجميلات قبيحات، فحين تتعدد الحبيبات يصبح القلب منتجاً للتشوهات، وتصبح الكتابة أشبه بالقوادة.

يا إلهي كم كتبت للحبيبة الجميلة ومزّقت ما كتبت، مخافة أن يمر ملمح تتبارز فيه اللجان في مقاربته بحبيبات وجميلات أخريات.

يا إلهي كم كتبت للجميلة ومزقت خوفاً من استخدام مفردة وردت في ملحق سري فأُتهم بصياغة المحضر الاصلي.

يا إلهي، اللغة واحدة والحروف واحدة، أخشى أن استمر في الكتابة والتمزيق ولا يصل حرفي الأصلي للجميلة، فالمقلدون كثيرون، والسارقون وقحون.

يا إلهي، إن ما يؤلم مفاصل روحي أن لغة البدايات ذاتها تُستخدم الآن بروح مخاتلة، والناس يعجزون عن التفريق، بسبب الحرائق في جيوبهم وبيوتهم، وتكرار أناشيد السارب في عيونهم.

يا إلهي، هبني كتابةً جديدة عصية على التمزيق ..