الجمعة  27 كانون الأول 2024

رسائل الحب واللجوء...بقلم: حازم درويش

الرسالة الأولى: النمسا قريبة

2015-09-29 10:42:46 AM
رسائل الحب واللجوء...بقلم: حازم درويش
صورة ارشيفية




تحاول إحدى مشرفات مجمع اللاجئين في مدينة زفولة الهولندية أن تبدو لطيفة وأنا أطلب منها بإنكليزية رديئة قلماً وأوراق ﻷكتب، فترد علي بـ" كيفك".

أغمض عيني وأهز رأسي محاولاً أن أفهم ثم أتذكر أنها لطالما حملت قلماً وورقة وسجلت بعض الكلمات والجمل العربية واستخدمتها مع كثيرين على سبيل التودد.

تفعل أشياء كثيرة من هذا الباب. باﻷمس ومع أن غالبية اللاجئين في هولندا عامة وفي هذا المجمع تحديداً من الطبقة المتوسطة والفئة المتحررة في المجتمع السوري، قامت بلصق منشور يظهر أوقات الصلاة على امتداد شهر في كل غرفة.

تكرر "كيفك" مع ابتسامة وتسألني عن سبب حاجتي لأوراق وأقلام. أقول لها سأكتب عن رحلتي. سأملأ  وقت فراغي بالكتابة. تشجعني وتطلب مني أن أطلعها عليه متى فرغت منه.
أفرد اﻷوراق البيضاء أمامي، وأستعيد ببطء مشاهد الرحلة جميعها، أكررها من بدايتها البريئة في أزمير إلى نهايتها المرهقة والمكلفة في مدينة فينلو الهولندية. وفي كل مرة تضيع كل المشاهد ويبقى واحد،

مهما حاولت صرفه عني أو تصنيفه كمرحلة ما من مراحل تلك الرحلة الطويلة ليعود إلي وكأنه الرحلة كلها.أحصي الأوراق البيضاء أمامي. لا يبدو أنها تكفي لكتابة الكثير،لكنها ستكفي لرواية تلك الليلة.

لم أعرف كيف يكون القمر بدراً من قبل. كانت فسحة السماء على الحدود الصربية الهنغارية واسعة تكاد تلتصق باﻷرض التي تغرق بالظلمة والوحشة ولا يضيؤها سوى القمر. كنا نتدافع وراء المهرب،
ومن خشيتي أن أبقى وحيداً في نهاية درب أتقافز إلى اﻷمام كلما خانتني أقدامي وأنفاسي وضمتني إلى عجوزين يبقيان في النهاية دائماً، وبقيت طيلة الرحلة أستغرب سلوكهما سبيل هجرتنا هذه.

نتعمق داخل حقول عباد الشمس، وكلما طال بنا الوقت أروح ألهث وأخاف الرجوع. لا أريد لهذا الجري كله أن يضيع هباء. يجلسنا مهربنا الباكستاني على كتف نهر محاط بغابة كثيفة،أستلقي وأنظر إلى القمر.

أفكر بهولندا البعيدة. هل سأصل وأنجو؟ أصلي بهمهة خافتة كعادتي كلما شعرت بالضعف والخوف،لتمر يد لاجئ غريب على كتفي ويمرر لي دواء ويقول لي: هذا سيخفف من لهاثك. أنظر إليه وأتناول الدواء.

لا قلب لي لأقول كلمة شكراً! يستحثنا المهرب فجأة على متابعة الدرب. كنا نغرق في حقول طينية بالكامل ونهرول. ذات اللاجئ إياه يمرر يده، يدفعني وينتظرني كلما تأخرت.

حتى وصلنا تلك الشاحنة المشؤومة وبقينا بأسرها  ست ساعات وأكثر. حين لاح ضوء النهار علينا ورأيته أردت أن أعتذر منه وأن أشكره. لقد بدا ضعيفاً ومنهكاً للغاية.
كيف تمكن من مدي بالقوة ودعمي طيلة الطريق؟ لم تسعفني الأحداث التالية بالحديث إليه. لم أحدثه سوى بعد أن حاصرت الشرطة الهنغارية شاحنتنا إياها. أقول له: سأهرب. النمسا قريبة. لن أعود إلى الوراء.

يقول لي: لا تفعل. لن تستطيع الجري هذه المسافة كلها. أنت مريض. ألقي عيني في اﻷرض وأرمي نفسي في الغابة القريبة ولا أتوقف إلا بعد نصف ساعة من الركض وأنا في النمسا.يخطر لي كثيراً اﻵن.

لا أدري إن تمكن من النجاة لاحقاً هو اﻵخر.كيف السبيل ﻷلتقيه وأقول له "شكراً"؟ شكراً التي حبستها تلك الليلة تحت بدر آب.

أصلي في قلبي ليكون بسلام هو وسواه ممن يطاردون حلم أوروبا على حدود تلك البلدان اللئيمة، وأحصي ليالي الدافئة هنا وأستلطف "كيفك" باللكنة الهولندية.

أمضي إلى أيامي وكأني لم أقاسي ذلك كله. ذلك الذي حفر بي عميقا وأعاد خلقي على سيرته التي سأعود إلى تفاصيلها و سأرويها لكم لنعيد كتابة ما ينتظرنا من أيام.