الجمعة  27 كانون الأول 2024

"رحلة إلى شمال إفريقيا" / محمد الأمين سعيدي/شاعر وأكاديمي جزائريّ

ضوء في الدَّغْل

2015-11-17 09:54:09 AM
صورة ارشيفية

 

 في رحلته إلى شمال إفريقيا أرّخ أندري جيد لزياراته المتكرّرة إلى تونس والجزائر والمغرب في حقبة الاستعمار الفرنسي منذ نهايات 1800 إلى بداية 1900م. وذلك في نصٍّ أدبيٍّ ماتعٍ يعبّر عن نظرة ثاقبة تلتقط كل ما هو يوميّ واستثنائي في آن واحد. فلقد اهتمّ أندري جيد وهو رجل إبداعٍ وفنٍّ بعالم المغاربة وبثقافتهم وطرائق حياتهم لأنّهم يمثلون بالنسبة إليه الغرابة، غرابة الذات الغربية أمام مرايا المغاربيّ، كما يعبّرون عن اغتراب هذا الأخير  داخل منظومة استعمارية تمثِّل تهديدا لخصوصياته الحضارية لأنَّه وجد نفسه في صراع هوية أمام هيمنة هوية أخرى بالقوّة والسيطرة.

 

 منذ الصفحات الأولى من كتابه"رحلة إلى شمال إفريقيا" تشعر بأنّك تدخل مع الكاتب إلى عالمٍ بديع، وبيئة رغم قسوة بعض تجلياتها إلا أنّها تكتنز بالكثير من الأسرار البكر. كان هذا ما عبّر عنه أندري حين دخوله إلى القنطرة قائلا:

"إنه الليل. نمشي في الظل. ظهر اكتمال النهار الذي انتهى. جمال البلد المرغوب. من أجل أي افتتان وسكون ستصدر عنك الآه! امتدادك تحت الضوء الذهبي الدافئ.

توقفنا. انتظرنا. نظرنا.

ظهر عالم مختلف، غريب، ثابت، هادئ وبلا لون. أ سعيد هو؟ لا. أ حزين؟ لا؟ إنه هادئ."(رحلة إلى شمال إفريقيا، ترجمة: محمود عبد الغني، ص:5.".

 كان جيد يستكشف مكانا لا يستقر أثره في نفسه على تحديد دقيق، بل يتعدد مع كل نظرة ويختلف في كل معانقة حقيقية تصدر عن قلبٍ مخلصٍ لجلال اللحظة التي يعيشها. لهذا لم يكتفِ من شمال إفريقيا بمكانٍ واحدٍ أو اثنين، بل ظلّ يترحّل بين شمالٍ وجنوب، شرق وغرب، من مكانٍ غريب إلى آخر أغرب. لقد كتب جيد نصا عن زياراته إلى شمال إفريقيا، لكنه، وفي الآن نفسه، كشف عن عمق العلاقة التي يبنيها الإنسان مع الأمكنة خاصة تلك التي تجعلنا نستمع إليها رغما عنّا، ومن خلال ذلك تعرّفنا على أنفسنا، على الخفيي واللامرئي من طبيعتنا الإنسانية. كأنّ النص يقول لك إن المكان هو الإنسان، المكان أيضا هو ثقافة أهل المكان ورؤيتهم المغايرة الناشئة من تكيّفهم مع آلهة الطبيعة التي تغني للبهجة والسكينة.

ما أثار انتباهي وأدهشني هو طبيعة الحياة التي عاشها الجزائريون في تلك الفترة. فلقد كانت رحلة أندري جيد إلى الجزائر رحلة في الإنسان، إذ أعلن من البداية أنه كان يجلس في مقاهي الجزائريين، ويستحمّ في حماماتهم، ويصاحب بعضهم، مستغربا أنْ يأتي بعض السياح من فرنسا ليدفنوا أنفسهم في مجتمعٍ فرنسي آخر خالٍ من الغرابة، ممتلئ بما يعرفون أصلا من ثقافة الحياة اليومية الغربية. لكنّ الجزائيين الذين كان يصفهم لم يعودوا اليوم بتلك الخصوصيات التي حازها الأجداد فأبهرتْه، فمن خلال وصفه للمقاهي الجزائرية العامرة بالموسيقى والرقص، وأحيانا بطقوس تحظرها النساء للتطهّر من النحس والمس على يد امرأة عجوز يطمع الناس بما في يدها من البركة والحكمة، والعروض المتعددة التي تكشف عن ذوق وحب للحياة. من خلال كل هذا اكتشفتُ كجزائري كثيرا من البهجة التي عاشها بلدي في فترة من زمنه الحديث وغابت عنه اليوم بسبب الأصوليات المتطرفة التي بدأتْ تغزوا العقليات منذ ثمانينيات القرن الماضي.

عاش الجزائريون كثيرا من الانفتاح والإيمان بالاختلاف رغم سيطرة الاستعمار، لكنّ الغريب اليوم، هو أننا رغم تحررنا عدنا أدراجنا إلى الأحادية والصوت الواحد. إنّ غياب التعدد عن الحياة يكشف عن مشكلة خطيرة جدا، ويجعل الإنسان المتنوّر يتوق إلى ذلك الزمن الجزائري الجميل الذي يحكي عنه أندري جيد، يوم كان الإنسان يعرف الحياة، ويعرف كيف يعيشها كما يليق بها.