الأحد  22 كانون الأول 2024

" سنديانةٌ...وطيورٌ مهاجرة ". بقلم: رائد دحبور.

2014-08-27 11:27:32 PM
صورة ارشيفية

الحدث: نظرَ الى السَّماء وقد تلوَّنت بألوانٍ قزحيَّة؛ أرخى راحتَهُ عن مِقبَضِ الفأس، وتَوسَّد التراب في ظلِّ السِّنديانَةِ المُعَمِّرة العريقة، وسط الحقول؛ وغرِقَ بأطيافٍ من التأمُّل تترادفُ وتتداعى في رأسه؛ تسرحُ عيناهُ وتستريحُ عبر التلال التي خطَّ الزَّمن العميق تفاصيلها إذْ ترتاح على سفوح الجبال الشَّاهقة بصَمْتٍ وقور. وإذْ أغْرَقَ وامتَزجَت روحه مع صمتِ الأرض الخرساء؛ حَثَّهُ صوتُ طقطقةٍ هبطتْ على حين غفلَةٍ من السَّماء.

كانَ سِرْبُ طائر " الَّلقلق " المهاجر يَمْخُرُ السَّماءَ مُتَّجِهاً من الشَّمالِ الى الجنوب؛ يميلُ السِّربُ بِحَرَكَةٍ تبدو تلقائية نحو الغرب؛ لكِنَّهُ يُحافِظُ على وتيرةٍ منتَظَمَةٍ متسلسلة؛ وكأنَّما هو سلسالٌ أو عِقْدٌ من الأحجار القرمزيَّة وقد انفلتَ من كلا جانبيْه؛ وطار في الهواء تحمله الرِّيح رُخاءً حيثُ تشاءْ...دالَّةُ هذا الطَّائر زُرْقة البحرِ وقيعانُ الماء والجداول والأنهار؛ وسكون وثبات لولبية الجبال وتحَلُّقها حول عهودِ نشأتها الأولى... بين الحين والحين يترددُ صوتُ لّقْلَقَتهِ في عمق السَّماء؛ بإيقاعاتٍ متتالية؛ وكأنَّهُ يتبادلُ نقل الرَّسائل من طليعة السِّربِ الى نهايتهِ؛ بعد كلِّ لقلقةٍ يميلُ مُجَنِّحاً يميناً باتِّجاهِ الغرب أكثر؛ تلقاءَ زُرْقَةِ البحر...تَنَهّدَ واسترخى فيه التأمَّلُ أكثر...آهٍ ... كم تبدوا هذه الطيور حرَّة !! كم تبدوا إنسيابيَّة في حركتها !! كم هي سامقة في الفضاء؛ تُرخي أبصارها حيثُ تشاءُ؛ بين حوافِّ اليابسةِ الجاثية لدى البحرِ على أطرافِ السَّواحل؛ وبينَ أكفِّ التلال والجبال التي لا تزاول مكانها وتُلامِسُ أطراف الشَّاطيءِ الرَّطب المُمَلَّح بكعبها الذي يكتسي بالرِّمال النَّاعمة؛ كلٌّ منها قد عَلِمَ حدوده ومستقرَّهُ ومبتغاه !!... آهٍ؛ كم تتسِعُ دائرة رؤيتها؛ لتُحيط بما لا نُحيطُ به !! هكذا إذن تعرفُ هدفها؛ وهكذا تتجلَّى بصيرتها؛ وهكذا تعرف وجهتها في جوِّ السَّماء !! لكن هل ترى الأشياء بحجمها الحقيقي ؟! أم تختزلها أبصارُها بالمقدارِ الذي تعلوا وترتفع فيه بالسَّماء ؟! أغرَقَ في هذه الفكرة؛ حاوَلَ أنْ يستنتج... هَمْهَمَ: غيرَ ذو أهميَّة؛ أنْ ترى الأحجام القياسية للأشياء !! المهم أنَّها ترى شمول المشهَد واكتماله وكماله؛ وتجمع عناصره بعينٍ ثاقبة بغير تداخل؛ والأهمُّ أنَّها لديها القدرة على استشرافِ ما تحت الماءِ مُستفيدةَ من شفافيته؛ وإنْ تعكَّرَ قليلاً أو علته الأمواج !!.

رَحَلَتْ عيونه مع سربِ طائر " الَّقلق " الى أنْ توارى؛ تطويه المسافات البعيدة...لَوَّحتْ الرِّيحُ أغصانَ السنديانة؛ أيقظ خاطره حفيفُ أوراقها...وكأنَّها تقول له إنتبه !! ها أنا ذا ألهِمُكَ لغة الأرض وأعانق السماء !! ها أنا ذا؛ كم استظلَّ في ظلِّي جسَدٌ مُتْعَبْ !! وكم اتَّكأَ على جذعي من قبلك من بشَرٍ مرُّوا كأطيافِ طيورِ الَّلقلق !! وكم حَثَّت ظلالُ أغصاني مُهَجاً وأرواحاً تأمَّلت وحَلِمَت !! وكم دار عليَّ الَّليلُ والنَّهار !! وكم مرَّ من فوقي من طيورٍ مهاجرة !! ها أنا ذا باقِيَة على عهدي للتُّراب الذي حنا على جذوري واحتضنها على مرِّ الزَّمان؛ ونبَتَتْ منه كل الأجساد التي جثت عندَ راحتي !!...يكفيك قسطاً يسيراً من راحتك... إحمل فأسَكَ ولا تُرخي عنْهُ قبضتك مسترخياً مسترسلاً؛ فهو دالَّة عشقك للتراب؛ وهو رسالة الشَّوق التي تفهمها الجبال والتلال وتغبطك عليها الطيور المهاجرة !!.