السبت  28 كانون الأول 2024

عوالم الرواية الساحرة:الفعل وما يترتّب عنه

2015-12-29 03:09:57 PM
عوالم الرواية الساحرة:الفعل وما يترتّب عنه
الكاتب محمد الأمين السعدي

محمد الأمين سعيدي

يقوم الروائي اليوم تقريبا بما كانتْ تقوم به الآلهة قديما؛ إنه ينسج سيناريو الحياة، ويخطّ مسارات الشخصيات محرّكا الصراع داخل الأحداث لتتبيّن المصائر وتقاطعاتها. يقوم الروائي بما تقوم به الأقدار حين تفصّل حياة الشخص لتنتج من خلالها المعنى، لتضع يدها على القيمة المطلقة. يحتاج هذا إلى عقلٍ قادر على البناء، بناء كل هذه الأحداث وإخراجها عملا سرديا متكاملا. إنه العقل الروائي النظير الأزلي للعقل الشعري، العقل الذي يختلق العوالم مؤسسا بالحكاية للمسارات الأكثر يومية، الأكثر إنسانية.

نجد مثالا لهذا في الأعمال السردية الكبرى قديما، يوم كان السرد ضيفا على بيت الشعر، يوم كان هوميروس يعرف كيف يشحن الأحداث، كيف يجعل غضب آخيل مثلا يحرّك ملحمة كبيرة مثل الإلياذة. في ملحمة جلجامش حيثُ البحث عن عشبة الحياة يمثّل خيط التوتّرات، ويعكس بعمقٍ كثيرا من الأسئلة العميقة التي تضيء عمق الكائن الفاني.

هذه المقدرة الرهيبة على بناء الحياة تتبدّى في الرواية بدرجات متفاوتة، وتبرز في الروايات الكبيرة التي تبني موضوعها متناميا مع الأحداث منسجما مع العمق الدرامي الذي يجعل الفعل الإنساني يؤرّخ للحقيقة، حقيقة الكائن وهو ينسحق تحت جبال الواقع المنهك، وحقيقة الحياة حين تقود إلى مصائر مربكة ونهاياتٍ ذات أثر عميق.

الرواية اليوم، عربيا، تقع أحيانا في التقصير عن بلوغ هذه الغاية، أنْ تقترح عالما متخيّلا يبني معناه من خلال حركة الشخصيات ومسار السرد. لأنها تقع ضحية العقل السارد الذي تلهيه الحكاية عن البناء، فينتج خطابا أشبه بحكايات الجدّات لأنه قصّر عن التفكير في شروط تحقق العمل السردي باعتباره قطعة من حياة لم تحدث بعد، أو يمكن أنْ تحدث في أي وقت وحين.

يمثّل الفعل البشري في الرواية مدار الاشتغال، ما يأتيه الإنسان من أفعال وما يترتّب عنه من نتائج كل هذا يجعل العمل الروائيّ يحاكم الاختيار، بل ينطلق من عرض الاختيارات الممكنة التي تؤدي بالبطل وبالشخصيات الأخرى إلى خوض مساراتٍ تمنحهم المعنى، فمن عمق وصف الشخصية ترتسم القيم التي تتأسس مع كل حدث جديد، مع كل سرد مختلف.

في الروايات العالمية يكون التركيز أكثر على اليوميّ، على تلك التفاصيل الصغيرة التي تصنع مواضيع كبيرة، بينما في كثير من الروايات العربية يحدث العكس، الموضوع الكبير على حساب الحياة، على حساب التفاصيل الصغيرة التي تسكن فيها شياطين السرد. التركيز على اليوميّ يتناسب مع التركيز على الفعل البشريّ، على أهمية الاختيار في التخطيط لحياة بكاملها، اختيار واحد قد يغيّر مسار الأحداث، اختيار واحد قد يغيّر مجرى الرواية.

يصنع الروائي عالمه الخاص، عالما ساحرا قادرا على إنتاج القيمة، قيمة أنْ نختار وأنْ نتحمّل تبعة ذلك الاختيار، أنْ نفعل، وأنْ نرزح في الوقت ذاته تحت ثقلٍ ينتج عن أفعالنا. من هنا تركز الرواية على الفعل، ويركّز الفعل على تنامي الأحداث التي قد تكشف عن حسن اختيار حين تؤدي إلى انفراجٍ سردي، وقد تؤكّد على سوء الاختيار حين تؤدّي إلى مصائر محتومة وغير متوقّعة.

لماذا نكتب الرواية؟ لأننا نملك ذاكرة، لأنّ لغتنا نفسها هي ذاكرة العالم منقوشة على متتاليات لسانية. نكتب لأننا نرى في التفاصيل اليومية عمق الكائن وهو يجابه الكون بجسد نحيل، وهو يتوق إلى عالمٍ مختلفٍ مغاير، عالمٍ حلم، يرسم لتوجّساتنا وهواجسنا مسارا يعطي المعنى، يكشف عن هوس الإنسان بالحكاية، بتقسيم الأدوار على الأفراد بطريقة واعية تجعل من خصوصية الشخصية الروائية متكأ لتأثيث عالم يحرّكه المعنى الإنساني العميق، والإحساس بخطورة هذه العملية:الفعل وما يترتّب عنه.