السبت  28 كانون الأول 2024

ضوء في الدغل

عن الوعي الشعري

2016-02-16 10:16:52 AM
ضوء في الدغل
لوحة

 

محمد الأمين سعيدي/شاعر وأكاديمي جزائري

دار هذا النقاش بيني وبين الشاعرة الجزائرية فريدة بوقنة في صفحتها بالفايس بوك على مقطوعة عمودية لها جاء فيها:

 

"يُتْم كفيـــفٌ موغلٌ في يتمه

و الرّوح مِنْ قدَرٍ تجرّ رفاتي

نايٌ يسفّ العزف منّي خلسة

يسْقي السكّون ببحّة العبَراتِ

نامي على صدر المدى وتدثّري

يا شهقة ضاقت بها كلمـــاتي".

 

يكشف هذا النقاش الخفيف عن رؤية شاعرين لمادتهما الأساسية، وهي اللغة الموجود الوحيد في العالم الذي، ولمفارقة عجيبة، وبفضل الوعي البشري المتقدّم في الطبيعة، ينوجد العالم به، بما يرى إدراكه وتبني مخيلته. رؤية فيها من جانب فريدة كثير من العمق الذي أثرى النقاش ومنحني متعة المواصلة وفتحه على تفكيرات أخرى في الكتابة، في وجه النص الشعري وهو يبحث دائما عن اختلاف مستمر، عن مرايا نصوص يرى فيها وجهه وكأنه يفعل لأول مرة سعيدا بالتطور على يد عقول شعرية واعية. وقد أحببتُ أنْ أنشر هذه المحاور التي كانت على شكل تعليقات ليشاركها صديقي القارئ لأهميتها، ولقناعةٍ ترى أنّ الوعي بالممارسة الشعرية أهمّ بكثير من الكتابة وحدها دون تأسيس، ولأنّ أكبر الشعراء عالميا كتبوا أعمالهم الرائدة بعد تشرب عميق لوعي صقلتْه التجربة والثقافة في آن واحد. في مقابل هذا يغيبُ الوعي كثيرا عن الساحة الشعرية العربية، في وقت التبستْ فيه القصيدة بالبترو دولار، وصار الشاعر مجددا، كعادة أسلافه العرب، متسولا عند أبواب السلاطين يعتاش على الفتات، والمأزق أنه يضطر لتسويغ خطاب غير جمالي مهادن على مستوى سياسي للسلطة، وعلى مستوى الثقافة للذائقة السائدة.

 

محمد الأمين:

"نامي على صدر المدى وتدثّري...

يا شهقة ضاقت بها كلمـــاتي"

دائما يبدو لي أن الشاعر الحقيقي هو الذي يعي ضيق الكلمات، هو من يحاول سعة في انسداد آفاقها. كلما اتسعت الرؤيا ضاقت العبارة"، هذه المقولة لعبد الجبار النفري تفتح في قلبي قلق الكتابة، تذكرني أنني كالمغفل أحاول سجن العالم على سعته وتعدده في لغتي وهو أكبر منها وأعمق، لكني أحاول لثقتي أنه، العالم، موجود فلسفيا بها. بعض العزاء يكفي. شكرا على الإيحاء فريدة مرة أخرى.

 

فريدة بوقنة: الكثير من الرؤى لا تمر من حلق اللغة صديقي، تبقى محتجزة في صدر الكتابة. تهبك الضيق و المناعة معاً....هو انتصار للمعنى وتشرّد جميل خارج مدن لسان العرب.

 

محمد الأمين: كنت أتساءل سابقا كيف أكتب قصيدة عن العالم، والآن أسأل كيف أكتب العالم قصيدة، وهذا رهان مستحيل ومتعب أني لا أقدر على التوقف عن الكتابة رغم هذه السخرية العميقة الجارحة...

"هو انتصار للمعنى وتشرّد جميل خارج مدن لسان العرب."، كلامك ذكرني بعداوة بعض الشعراء للنحو، والأصل أنّ عداوة الشاعر الحقيقي هي للمعجم كما أشرت صديقتي.

 

فريدة بوقنة: هنالك من يُلبس معناه كل ما ورد في الصفحات المهجورة للمعجم، ويعتبر ذلك إنجازا عظيما ينافس كلّ ما هو عميق ومختلف. هنا تكمن الورطة صديقي، اللغة موروث قديم لم يتطوّر، الفكرة أو الرؤيا صناعة متجدّدة وفن، ربط هذا بذاك صفقة إبداعية، إستغناء هذا عن ذاك ذروة إبداعية.

 

محمد الأمين: صحيح، يتعامل الشاعر حين ينتقي من المعجم مع شيئين؛ اللغة عبر مراحلها وتطورها، والذاكرة، ولهذا أغلب من يطيع المعجم والجملة المستسلمة لخيال اللغة الناتج عن ذاكرتها، سيقع في التقليد. الشاعر يحارب الخارج ليغنم منه بعض الجمالية، وفي آن واحد يحارب ذاته لكي لا يقع في إعادتها فكرا ولغة وشعورا. دام ألقكِ.

 

فريدة بوقنة: سعدتُ بهذا النقاش صديقي.

 

محمد الأمين: أسعدتني رؤاك أيضا، والله هذا مفرح في واقع رذْلٍ كالذي نعيش. دمت طيبة نقية.