الأحد  22 كانون الأول 2024

شعراء أم خطباء؟؟ !!! محمد الأمين سعيدي/شاعر وأكاديمي جزائريّ

2014-09-23 01:27:49 PM
شعراء أم خطباء؟؟ !!!
 محمد الأمين سعيدي/شاعر وأكاديمي جزائريّ
صورة ارشيفية

 ضوء في الدَّغْل

 يدركُ العارفون بالشعر العربيِّ وتاريخه أنَّه قد مرَّ بفتراتِ قوّة وازدهارٍ جعلتْ منه ديوان العربِ بامتياز، فبرز شعراء مبدعون منحوا للقصيدة جمالها وزرعوا فيها إمكاناتِ اختلافها المستمرِّ. ومن هؤلاء:امرؤ القيس والأعشى وبشار بن برد وأبو تمام والمتنبي وأبو العلاء المعرّيِّ...وغيرهم. كما مرَّ الشعر بفترات ضعفٍ وسقوط انطفأتْ فيها شعلة الشعرية وأفل نجمُ التجاوز والابتكار فغاب الشعر ولم يبق منه غير الوزن يحمل خطابا مباشرا هزيلا يكاد يكون أقرب إلى نثر موزون. وإذ نعود إلى تاريخ هذا الجنس الأدبيّ عربيًّا ونتأمّل تلك الفترات المبدعة لوجدناها في الأزمنة التي ازدهرتْ فيها الحضارة واتسمتْ بالحرية والانفتاح على الآخر كما هو الحالُ في عصر بني العباس. في مقابل هذا حين ننظر إلى تلك الأزمنة التي تميزتْ بالضعف السياسيّ والحضاريّ أو تلك التي تميَّزتْ بالانغلاق على الذاتِ ومعاداة الآخر المختلف وجدنا القصيدة، وقد تشربَّتْ ذاك الجوّ العام، هي الأخرى ضعيفة مفتقرة إلى الجدَّة والتميُّز. ومثالُ هذا ما صار عليه الشعر في صدر الإسلام نظرا لانغلاق المسلمين على أنفسهم بسبب محاربة المشركين من جهة، ولأنّ المفاهيم راحتْ تتغيَّر أو تصاغ من جديد مما حوَّل الشعر إلى مجرّد وسيلة تقوم بدور دعويّ أو هجومي لا يختلف كثيرا عن الدور الذي يقوم به السيف، ويتأخّر كثيرا عن المستوى الذي قدَّمه شعراء الجاهلية أو المخضرمون في جاهليتهم. أو كمثالٍ آخر على ما نقول شيوع التكلف والصنعة مع التقليد في الشعر في عصر الضعف والانحطاط.

جئتُ بهذا الكلام حولَ أسباب اختلاف مستوى الشعر بين عصوره الزاهرة وبين عصور الضعف للحديث عن بعض الأصواتِ الشعرية التي برزتْ مؤخَّرا إعلاميا، وتبدو من خلال نصوصها كأنَّها قد قفزتْ زمنيا فوق ما حدث من تغيُّر رهيبٍ في مفهوم الشعر ولم تعرف الحداثة وضرورتها بالنسبة لأيِّ شاعر مبدعٍ. فتحوّل أصحابها إلى مجرّد خطباء يقدمون خطابا يتسم بالمباشرة وتسيطر عليه عواطف الحماسة، وليس له من عناصر الشعرية الكثيرة غير الوزن.

يمكن إرجاع هذه الظاهرة إلى ضعف الشعوب العربية وتمزّقها، وإلى التخلّف المهيمن على كل مظاهر الحياة، وإلى الهزائم المتتابعة التي جعلتْ من كثير من الشعراء مجرّد وصَّافين للأحداث كما هي، وخطباء يتباكون على واقع مهدَّمٍ دون أنْ ينتبهوا إلى أنّهم يساهمون في هدم اللغة التي هم مطالبون ببعث الحياة فيها عن طريق تجديدها كما فعل المبدعون في كل عصر، وكما يفعل الشعراء الرواد اليوم عربيا وفي العالم.

السؤال الذي يلحُّ الآن صراحةً هو لماذا لا تزالُ الحداثة عربيا محلَّ نقاشٍ عقيم ورفض أحيانا؟؟ لماذا ينأى بعض الشعراء عن شجرتها الخضراء ويرضون بأنْ يكونوا صورا باهتة تقف تحت ظلال قاماتٍ شعرية قديمة هي أعظم وأجمل؟؟

لعلَّ الحقيقة المفجعة تكمن في كون الحداثة لم تكن يوما واقعا حياتيا يعيشه الناس ويؤمنون بقيمه ويمارسونها، وإنَّما كانتْ على مدار عقودٍ خيارَ النخبةِ الذي لم يؤيَّد سياسيا ليتحقق، وخيار المبدعين الذين ينخدعون فيتوهمون بأنَّ العالم العربي ينتمي حضاريا وثقافيا إلى الزمن الكونيِّ الذي يعيشه العالم اليوم، فيُفجعون بعد ذلك برايات داعش السوداء ترفرف جهرا في العراق والشام، وسرًّا في قلوب وعقولٍ كثيرة بعضها قد ينتمي إلى خارطة (الكتَّاب) أو (الشعراء).

أخيرا؛ ليس المقصد في هذا المقال الحديث عن ماهية الشعر، لكنّه التركيز على ما يمنح لهذا الجنس الأدبيِّ خصوصيته وهو الجمالية والشعرية. وليحْكم القارئ الفطن هل نسمي شاعرا أم خطيبا من قال هذا الكلام المنسوب ظلما إلى الشعر:

"أسبّح باسمك الله

وليس سواك أخشاه

وأعلم أنّ لي قدرا سألقاه سألقاه"(هشام الجخّ)

لعلنا نحكم على ما قاله الجخُّ أعلاه بما روي عن عبد الملك بن مروان حين مدحه الراعي النميري ووصل إلى قوله:

أخليفةَ الرحمن إنا معشرٌ           حنفاء نسجد بكرة وأصيلا

عربٌ نرى الله في أموالنا           حق الزكــــــــاة منــــــــــــزلا تنزيـلا

فقال له عبد الملك:"ليس هذا شعرا، هذا شرح إسلام، وقراءة آية".