الأحد  22 كانون الأول 2024

قراءة في مسرحية "الأول" للكاتب: وليد أبو بكر بقلم: أمين دراوشة

2014-10-18 06:54:39 PM
قراءة في مسرحية
صورة ارشيفية

  ("الأول والأخير" مسرحيتان، منشورات: الربيعان للنشر والتوزيع، الكويت، الطبعة الأولى، 1981م).

 

تمهيد

قسمت المسرحية إلى عشرة مشاهد، وتبدأ أمكنتها في بغداد مرورا في القيروان، وتنتهي في قرطبة في قصر الملك عبد الرحمن بن الحكم. وتتناول حياة زرياب وما واجهه من مؤامرات من الحاسدين وظلم الولاة، وصعوده في سلم الغناء حتى اعتلائه قمته عن استحقاق وجدارة.

تعددت شخصيات الرواية وتنوعت، مما أضفى الحيوية والحركة على المسرحية. وأبدع المؤلف في نسج الشخصية المحورية فيها (زرياب)، التي نمت وكبرت وازدادت خبرة في الحياة نتيجة الظروف الصعبة التي عاشتها وعملها الدءوب من أجل انجاز الأفضل.

تتضمن المسرحية مجموعة من الشخصيات مختلفة الأدوار في الحياة، فهناك الخليفة والملك والوالي، وعدد من الجواري، وكان لبعضهن دورا رئيسيا في أحداث المسرحية كمتعة جارية زرياب وحبية قلبه التي لا يستغني عنها، والتي تتصف بالذكاء المتوقد والتضحية، وهناك طروب جارية الملك عبد الرحمن، وتملك من المكر والدهاء ما يجعلها المختارة في قصره، وتهيم عشقا به وعلى استعداد لفعل أي شيء لتبقى لها الصدارة في كنفه.

ومن الشخصيات الرئيسة، المغنون الذين وجدوا في وجود زرياب خطرا يتهددهم، وعملوا على إزاحته، وحبك المؤامرات لإبعاده عن قصور الحكام.

موضوع المسرحية وأن لبس عباءة التاريخ إلا أنه يصلح في أي زمان ومكان، فموضوع الإبداع والعمل المثابر من أجل التجديد والتطوير دائما ما يقابل بالحسد والنبذ، ويقع ضحية الصراعات القادمة من أناس كفوا عن التقدم والابتكار.

إرهاصات الصعود

بعض النجاح أقسى من الفشل

منذ البداية ظهر زرياب إنسانا قويا لا يعرف غير العمل، ويثق بنفسه ويؤمن بقدراته الإبداعية، ويملك طموحا لا حدود له، ويتلهف لاقتناص فرصة ليثبت مهاراته وتفوقه.

يقول لمتعة: "أن الرجل الحقيقي هو الذي يكرس جهده كله لاستخدام مواهبه البشرية...وأنا أملك هذه المواهب". (ص81)

في المشهد الأول يتقدم زرياب خطوة إلى الأمام، بعد أن استطاع إحداث تجديد قائم على إضافة الكورس الذي يردد بعض المقاطع خلف المغني.

وفي المشهد الثاني يظهر لنا الخليفة الرشيد وهو يطالب إبراهيم الموصلي بالجديد لأنها سأم ما يعرض عليه. يفكر الموصلي ويقرر تقديم زرياب إلى الخليفة.

والموصلي المغني الأول في القصر ويتربع على القمة وحده دون منافس، وهو رجل لا يرغب في التخلي عن مكانته ويدافع عنها بقوة. لذلك يستغرب الرشيد أن يحضر له أحد تلامذته، ويقول مخاطبا من حوله وهو يضحك: هذا غريب حقا، أن يقدم لنا اسحق أحد تلامذته.

يجيب الموصلي مادحا زرياب: "له نزعات حسنة، حبيبة على السمع، قريبة إلى القلب... فقلت أنه قد يعجب أمير المؤمنين". (ص86)

يبتسم الرشيد قائلا لحاشيته: هل سبق لكم وسمعتم الموصلي يمدح مغنيا قبلا؟

في حضرة الخليفة، تتبدى ثقة زرياب بما يصنع، عندما يسأله الرشيد عن غنائه وما يحسن فيه، فيقول: "أحسن منه ما يحسنه الناس...يا أمير المؤمنين (ينظر إلى اسحق) لكن أكثر ما أحسنه لا يحسنونه...مما لا يحسن إلا عندك، ولا يدخر إلا لك...". (ص88)

يطلب الخليفة منه الغناء، وعندها يرفض زرياب عود معلمه، ويقول أنه لا يعرف الغناء إلا على عوده، لأن أوتاره من الحرير، الذي لم يغسل بماء ساخن يكسبها إناثه ورخاوة، واتخذت له وتران من مصران شبل. لأن لها في الصفاء والحدّة أضعاف ما لغيرها، ولها من القوة بحيث تصمد أمام تأثير وقع المضارب.

يبدي الرشيد إعجابه، ويستحسن قوله، ويقول له: هل تحسن الغناء كما تحسن القول؟

يشرع في الغناء بمرافقة الكورس، ومما غناه، قوله:

"أجمل بها من ساعة     الحلم فيها يصدق

عيناك صفو حاضر     يرعى هواك وينطق

وينم وجهك عن رضى     روح تهيم وتعشق

ذكرى تعاودني وقلب     بالأماني يخفق

فأظل بين ربوعها     أشدو لها وأصفق". (ص89)

ومع نهاية الأغنية يكون الرشيد وصل إلى قمة حالات النشوة والطرب. ويقول لزرياب: منذ الآن ستكون أقرب الناس لدينا.

في المشهد الثالث الذي يبدأه المؤلف بمقطوعة تمهد للمشهد، تتحدث عن الحياة وأنها ليس سوى غابة من الفتن. يتخوف زرياب رقيق المشاعر أن يكون نجاحه على حساب معلمه، وبالتالي قد يكون خانه، يقول لمتعة: أنا خائف من أن يكون نجاحي صعبا، وأقسى من الفشل.

ويهمس لنفسه: أرغب في التفوق فهذا من حقي، ولكن ليس من حقي أن أسيء إلى معلمي، ويخاطب متعة: "أن حياتنا تبدو مثل غابة...حتى يكون الإنسان كبيرا فيها، عليه أن يزيح الكبير من مكانه...يوجد مكان واحد فقط...وتلك هي المشكلة". (ص95)

فالرزق هنا مرتبط بشخص واحد وهو الخليفة، وإذا رغبنا الوصول إليه علينا أن نقطع الطريق على غيرنا، فما العمل؟

ويضيف: ترى ماذا سيفعل الموصلي، فهو لن يقبل بالمركز الثاني. ويتساءل بحيرة: ماذا أفعل؟ لا أقدر أن أوذي معلمي، ولكن لا استطيع أن ألقي بمهاراتي وقدراتي في الطريق وأسير.

يزوره الموصلي غاضبا، ويضعه بين خيارين، إما أن يرحل عن بغداد ويختفي نهائيا، أو يقيم وعليه أن يتصدى لكرهه ومحاربته. فيقرر الرحيل إكراما لمعلمه، يحمل عائلته ويغادر نحو الغرب.

في المشهد الرابع، يصل زرياب إلى القيروان، ويبدأ المشهد وقد حقق نصيب من النجاح لدى الوالي زيادة الله الأغلبي، ولكنه يشعر بالقلق والخوف من الحساد. تقول له متعة: "تريد أن تكون الأول عند حاكم...وها أنت تأخذ مكانك عند الأغالبة...وفي نفوس أهل القيروان...فماذا تريد أكثر...؟". (ص104)

يبقى في توتر وتوجس على مستقبله وعائلته وخصوصا أن الوالي رجل مزاجي وانفعالي ويسمع إلى الحساد، وسريع في اتخاذ القرارات. ويقول لمتعة: إنه لا يستطيع أن يظل تحت سيطرة مزاج الوالي، ولا بد أن يكون له احترامه، ويجب على الوالي أن لا يسمع كلام الحساد.

في هذا اليوم لا يذهب إلى مجلس الوالي متعللا بالمرض، بينما هو يريد أن يجرب اختراعه الجديد بإضافة وتر خامس إلى العود، تستغرب متعة من ذلك، وتقول: إن ما ورثناه عن أجدادنا أربعة أوتار، فيجيبها: "وهل ما نرثه عن أجدادنا هو آخر المطاف؟ أليس من حقنا أن نضيف إليه؟ بل أليس من واجبنا أن نورث أولادنا شيئا جديدا...بل اكتشفت شيئا أهم...هو أن الإنسان الذي يريد أن يتقدم، أن يجدد في أدواته أيضا". (ص108)

في المشهد الخامس، يبدأ الكاتب في مقطوعة صغيرة، تتحدث عن عيون الحسد لكل نجم صاعد. المكان منزل الوالي ينتظر زرياب وفي مجلسه المغني المنافس ابن خاطر الذي يلعب دور الحاسد والمتآمر، الساعي إلى إزاحة زرياب من مكانته.

دون وجود الوالي، يتعرض ابن خاطر لزرياب بالتهكم والسخرية، وينعته بالزنديق والعبد، ويسمع زرياب ويرد بقسوة، ويفخر بنفسه، أنه يقدر على ما لا يقدر عليه الآخرون، يحتدم الصراع وترتفع الأصوات، يدخل الوالي، ويتهم ابن خاطر زرياب أنه يفضل العامة على مجالسة الوالي. ينهي الوالي النقاش، ويطالب زرياب بتبرير تأخره، فيعلن عن اختراعه الجديد، وهو مضرب مصنوع من قوادم النسر، لأنه أنقى ويحافظ على سلامة الوتر.

ويغني زرياب مقطوعة، يفخر فيها بنفسه، تقول نهايتها:

وأطمع أن يهل الغيث حولي     فلا أحظى لوصلك من جواب

سحاب الصيف أبيض لا يرجى     وتمطر خيرها سود السحاب

فما بال السفيه يعيب لوني     وكيف يحيد عن درب الصواب

يغضب الوالي ويصف زرياب بالعبد ويطالب حراسة بجلده وطرده من القيروان. وهكذا نجح الحساد من جديد في إبعاده ومحاولة فرملة تقدمه، فهل اتعظ زرياب من هذه التجارب المريرة؟ 

بداية التغيير

في المشهد السادس، يظهر زرياب ومتعة في بيته المتواضع جدا والذي يشبه الكوخ، في الجزيرة الخضراء بعد جبل طارق، ومن خلال الحوار، يتكشف ألمه وحنقه على العالم، قائلا: "هذا العالم الذي لا يؤتمن...واحد مثل زيادة الله...في كل يوم حال...يتحكم بمصائر الناس...". (ص118)

تجيب متعة: لعل الله يعوضنا بخير منه.  يتحدث زرياب عن ضرورة التغيير، فهو يملك عائلة وأفكار مبدعة، ولا يجب أن يربط مصيره بحكام مزاجين إذا غضبوا أبعدوا ونفوا، فإلى متى تبقى الحياة مربوطة بمزاج غير سوي؟

تبدأ من هذا المشهد بوادر تغيير في شخصية زرياب بعد أن مسه ومن يحب الجوع والذل، فهو لم يرد أن يكون على حساب أحد، ولا سعى إلى محاربة أحد، ولكن هم كانوا على حسابه، وحاربوه، ويصمم على التغيير، وأنه لن يتعرض للجوع مرة أخرى. ولن يسمح لأحد بالوقوف في وجه إبداعه وابتكاراته. فلا يوجد أحد يستطيع القيام بدوره، ويقول: "من هو ابن خاطر...ومن هو الوالي...الآف غيرهما يمكن أن يقوموا بأدوار يؤديانها، لكن دوري...من يستطيع أن يقوم به غيري؟". (ص119)

تشعر متعة بالحزن والأسى على سيدها، فتعرض عليه أن يبيعها ليحل مشاكله المالية، ولكنه يرفض بصرامة، قائلا لها: إنها جزء منه، ولو اضطر إلى الغناء في الشوارع لن يفكر بالتفريط فيها.

في الإثناء يأتي رسول من الملك عبد الرحمن ملك قرطبة، حاملا رسالة إليه، تعبر عن الحب والسرور لقدوم زرياب إلى قرطبة، بل أنه بعث له ببعض الغلمان ليقدموا له العون، وأنه ينتظر قدومه بفارغ الصبر.

الأصل

 التأثير في الناس إيجابيا وكسب محبتهم

يستهل وليد أبو بكر المشهد السابع، بمقطوعة تقول:

"وإذا الدهر إليك ابتسما

فاغتنمه لنكون الأعظما

ثم سخّره ليبقى سلما

إنما الدهر كظهر السلم     يسلم الأمر لنجم يتلي". (ص123)

يظهر في المشهد بيت زرياب الضخم والفخم، وجارية الملك طروب التي حضرت لتطمئن على راحته ثم تغادر ويبقى زرياب ومتعة. يحدثها عن ضرورة عمل شيء يضمن له الحماية من المنافسة غير الشريفة والوشاية والحسد، وتستفسر متعة منه عما يدور في عقله، فيقول: "عليّ أن أكون شيئا أساسيا في هذا المجتمع...أرتبط بالناس، ويرتبطون...فلا يستطيع حاكم أن يخضعني لمزاجه". (ص126) ويضيف: علينا أن نصنع لهذه الأرض هوية ظاهرة، علينا أن نحضر بغداد إلى هنا ولكن بوتر خامس. لذا لا بد أن نغير نظام البيت بل نظام الحياة هنا، ليبدأ الناس بتقليدنا. تسأل متعة عن جدوى ذلك، يقول: إن العلاقة مع الحاكم غير مضمونة، ولكن عندما أؤثر في حياة الناس هنا، "وارتبط بهم، أضمن لنفسي البقاء حيث أريد...ولا يفكر صاحب نزوة أن يشردني من جديد...الناس هم الأصل". (ص127)

إذن يريد زرياب أن يكسب ود الناس وتعاطفهم، لأنهم هم الوحيدون القادرون على حمايته من البطش والحسد والمؤامرات. ويبدأ من تسريحة شعره، حيث شرع الكثير من الناس تبدي إعجابها بها وتقلده.

دسائس الثعلب الماكر

في حضرة الملك عبد الرحمن بن الحكم، يبدأ المشهد الثامن، ويتواجد فيه المغني منصور صديق زرياب وطروب، يتحدثان عن التغيرات الجديدة في قرطبة منذ قدوم زرياب إليها. يقول منصور: إن قرطبة أصبحت تنافس بغداد في كل شيء مثل مجالس العلم والفن، بل أن قرطبة أفضل.

يدخل يحيى بن الحكم الملقب ب "الغزال"، وهو شاعر وحكيم الأندلس، ويريد أن يجلس بالمقعد الفارغ بجانب الملك، غير أنه يمنعه، لأنه مقعد زرياب، يتضايق الغزال ويغضب، ويضمر في نفسه الكراهية.

تتحدث طروب عن انجازات زرياب، فيبدي الغزال استهجانه ويدعي عدم سماعه باسمه. هنا يحضر زرياب، ويستفسر الملك عن سبب تأخره، يبتسم ويقول: جئتك بجديد مزيل للرائحة، ويتهكم الغزال قائلا: ولكننا نستعمله منذ لبسنا ملابسنا. يأخذ زرياب في شرح مواصفاته الجديدة. ينال إعجاب الملك الذي يطلب منه الغناء، فيقول زرياب: وبهذا أيضا جئت بالجديد، لون من الشعر، يناسب ما نحن فيه من رغد العيش، ويختلف عن ما قاله شعراؤنا حتى الآن، رقيق وقادر على التعبير...

يتدخل الغزال مستنكرا: هذه بدعة.

يتذكر زرياب الموصلي وابن خاطر...ويقول: ليس خروج عن لغتنا وإنما تنويع في الإيقاع، تستعذبه الأذن. ويغني:

"كيف أشدو بأدمعي    والهوى منك مطمعي

فارحم الدمع أن جرى     وأمر القلب يسمع". (ص135)

يحصل زرياب على الإعجاب والمديح، وغضب الغزال الذي شكك بالقول: هذا ليس شعرا يا مولاي. وترد طروب: وماذا تسميه إذن؟

ويقول زرياب: ربما نحتاج إلى من يفهم الشعر...يضحك الجميع.

يكسب زرياب عدوا خطيرا وماكرا كالثعلب، الذي رد على سخرية زرياب بقصيدة هجاه فيها.

 

وحده على كرسي القمة

في المشهد التاسع في بيت زرياب، يجتمع مع متعة وطروب ومنصور المغني، ويتشاورون كيف يحمون أنفسهم من مكر الغزال. ويظهر زرياب مترددا من دخوله الصراع، والجميع يشجعه لأنه لا مكان في قصر الملك إلا لواحد.

ويعبر زرياب عن انزعاجه: "ما يضايقني...هو أن أصعد على حساب غيري". (ص139)

إنها القمة التي لا تتسع لاثنين، وعلى زرياب الاختيار من جديد بين الانسحاب أو المواجهة.

تنتهي المسرحية، بتساؤل زرياب متى يأتي الوقت، الذي يبيح للجميع الإبداع والفعل والتقدم إلى الأمام دون منغصات ومؤامرات ومحاولات تحطيم النجاح والتفوق.

المسرحية مليئة بالأحداث النامية، التي وصلت إلى ذروتها بطريقة طبيعية ودون تدخل من الكاتب، وحققت عنصر التشويق والإثارة الذي لا غنى عنه في المسرح.