الإثنين  23 كانون الأول 2024

رسالتي أن نكون في فلسطين ومع فلسطين، وكسر كل الحواجز

الكاتب مفلح العدوان في حوار خاص لـ "الحدث"

2014-12-09 11:10:31 AM
رسالتي أن نكون في فلسطين ومع فلسطين، وكسر كل الحواجز
صورة ارشيفية
 
حاوره– أحمد زكارنة
 
هَذِهِ قَرِيَّةٌ لَيْسَتْ كَمَا بَقِّيَّةِ الْأَمَاكِنِ، تعيش في الزمن الحاضر، والماضي، والمستقبل.. تسبح فيها الحقائق على نسيج الخيال..تَتَشَكَّلُ فُسَيْفِسَاءُ أهْلِهَا مَنْ أَساطيرِ.. ومن ناس بسطاء.
التوقيع.. مفلح العدوان.
بهذا المعنى يستحضر العدوان رمزية المكان بكل تداعيات التاريخ تارة، وحكايات الناس تارة أخرى، وكأنه في حلم طويل له فصول من حجارة وأرواح، تلك الأرواح التي حاول ملامستها في عين المكان حينما تخطى "جسر الشونة" من الضفة الشرقية إلى الضفة الغربية لأول مرة، لتطأ قدماه ما وطأت روحه من قبل.
في هذا الحوار حاولنا أن نسبح في عوالم كاتب مارس غواية الكتابة في مجال القصة القصيرة، والرواية، والمسرح، بل وذهب يكتب بعض البرامج الخاصة هنا وهناك إلى جانب عمله الصحفي.. فضلا عن عمله في وزارة الثقافة الأردنية، مديرا لدائرة الثقافة. درس هندسة الكيميائية، ليغوص عميقاً في كيمياء الكلمة، فأصدر عدة إصدارت بين الرواية والقصة منها، العتبات، وموت عزارائيل، والرحى، وظلال القرى، وموت لا أعرف شعائره، وغيرها من الأعمال التي نال عن بعضها العديد من الجوائز الأدبية.
نحن في هذا الحوار سنكون في حضرة الكاتب القاص والروائي المسرحي الأردني مفلح العدوان، وهو في زيارته الأولى لفلسطين، لنسأله بداية عما يعني له المكان؟
 
المكان نقش حقيقي في وجدان مفلح العدوان، لا أجد نفسي وكتابتي والتفاصيل التي أريد أن أحكيها إلا في ظلال أمكنة أحيانناً تتلبسني وأحيانناً أنفر منها، ولكنها تستفزني الكتابة عنها أو حولها أو في سياقها، ولهذا كان مشروع رواية "العتبات" هو المكثف لمشروع موسوعة القرية الأردينة الذي استمر منذ 2006 وحتى الآن، والذي أنجز وصدر منه المجلد الأول والتاني والجزء الثالث تحت الإنجاز كجزء من موسوعة القرية الأردينة.
فحينما نتحدث حول العتبات، فنحن نتحدث عن المكان بشكل مكثف في سياقه الاجتماعي، في سياق الحياة التي يحتضه هذا المكان وما أنجز فيه وما يدل عليه أيضاً.
- حينما نتحدث عن "نحت آخر، وموت لا أعرف شعائره، وظلال القرى، والرحى" هنا يأخذنا السؤال إلى العلاقة الجدلية غير المرئية لربما ما بين كيمياء الهندسة، وكيمياء الكمة، إلى أي حد أثرت عليك دراستك للكيمياء الهندسية، وظهر هذا التأثير على الكتابة؟
- دراسة الهندسة الكيميائية أفادتني كثيراً في الكتابة والإبداع، لربما لهندسة الإبداع والتفاعلات التي تحدث فيه بين الحرف والكلمة والحالة والظرف الزماني والمكاني، حتماً استفدت منها في تخصصي، يضاف إلى ذلك العمل الذي عملت به بناء على دراستي الأكاديمية، إذ كان له أثر في الذاكرة والوجدان والحفر، حفر في الذاكرة، وحفر في الكلمات أيضاً، وأنا كنت قد عملت في مناجم الفوسفات في جنوب الأردن لمدة أربع سنوات، فكان التفاعل مع العمال ومع بيئة الصحراء، كان تفاعلاً حقيقياً بين الفعل الهندسي كعمل وهندسة الكلمة والإبداع كمنجز وجداني وإبداعي، مما أنتج المجموعة الأولى التي جاءت بعنوان "محمود تيمور" وأنجزت في هذه الأجواء، أجواء المنجم بين العمال في الصحراء جنوب الأردن.
 وأيضاً جزء من الموت عزرائيل التي نشرت عام 2000 أيضاً كانت في فضاءات المنجم، ولهذا أقول إن معمار الكتابة لدي متأثر جداً بالتفكير الهندسي، والهندسة كدراسة أثرت في نمط التعامل في بنية القصة القصيرة وكذلك كتابة المسرحيات، إضافة إلى كم القراءات العلمية التي وجهتني إلى المعرفة، ما أدخلني على الفلسفة والأسطورة وعلى الاستفادة من المعلومة والعلم في الكتابة الإبداعية.
- لو انتقلنا إلى سيرة الجوائز، مفلح العدوان نال العديد من الجوائز، كجائزة محمد تيمور للقصة، وجائزة اليونسكو للكتابة الإبداعية، وجائزة الشارقة للإبداع في مجال المسرح، السؤال، هل تقع الجوائز في دائرة استهداف مفلح العدوان، أو الكاتب المبدع بشكل عام؟ وبالإمكان اختصار السؤال بالقول: عن ماذا يبحث الكاتب داخل مفلح العدوان؟
حقيقة الجائزة تاتي لاحقة على الكتابة، ولهذا المنجز الإبداعي للكاتب إذا كان مهموماً أو مسكوناً بالجائزة يصبح وكأنه منجز تسويقي أكتر من كونه منجزاً إبداعياً، تماماً كما نتحدث عن الرقيب وتأثيراته على الإنجاز الإبداعي، أعتقد أن استهداف الجوائز يؤثر على الإنجاز الإبداعي، على أرضية أن الربح المادي قبل الكتابة يشكل رقيباً آخر يقلل من جودة العمل الإبداعي بشكل عام، مثلاً جائزة محمود تيمور  كانت الجائزة الأولى التي أحصل عليها، وجاءت بعد إنجاز العمل بعام، بمعنى أنها لم تكن في دائرة الاستهداف. والجوائز الأخرى كذات السياق تقريباً.
- على ذكر فكرة الرقيب، الرقيب الذاتي والرقيب المجتمعي، وتابوهات الرقيب الديني إلى آخره، أنت كتبت رواية "موت عزرائيل"، السؤال: إلى أي مدى تلعب فكرة الرقيب لدى مفلح العدوان، دوراً في صياغة النص؟ هل هناك استشعار داخلي لديك أن هنا قد تخطيت الخطوط التي يرسمها الآخر ويمكنه أن يستخدمها في الرقابة، أم أن الأمر منفتح لديك؟
الكاتب إذا كان يكتب تحت سطوة الرقيب، وأنا هنا أتحدث عن الرقيب بشكل عام، أحياناً يكون الرقيب المجتمعي أكثر قسوة من الرقيب الدين والسياسة، ولهذا أعتقد أن المبدع يجب أن يتجرد من كل هذه التابوهات الرقابية حتى يقدم الشيء المختلف، وإلا إذا توقفت كثيراً أمام الأسئلة ولم تجترح الإجابات، سوف نبقى وكأننا أمام نص واحد وهو النص المنسجم مع النص المجتمعي أو الديني أو السياسي.
- هذا يأخذنا إلى سؤال، هل دور الكاتب طرح الأسئلة أم إيجاد الإجابات؟
عليه أن يكون جريئاً في طرح السؤال وعليه أن يجترح الإجابات..وهنا يجب أن يكون سؤال الكاتب، سؤالاً مختلفاً، أحياناً يكون وجودي إنساني ولكنه يفضى إلى الخصوصيات الداخلية، ولهذا أحياناً تجد هناك بعض الأسئلة الكبرى، التي لا تكمن مشكلتها في الطرح، ولكن في عكسها لخلخلت المجتمع في البدء قبل المحاولة في الإجابة عليه لأن تكسير مئات السنوات من تكلس ذهنية المتلقي والمجتمع حتى تدفعه لاستيعاب السؤال في البدء، قبل محاولة الإجابة عليه، فهناك أجيال تربت على أن هذا السؤال عيب أو حرام أو لا يجوز... لهذا يجب أن تتجرأ في طرح السؤال... عليك أن تكسر في البداية لتصبح الإجابة في سياق آخر عملية بناء جديدة عما تأسس سابقاً.
-       هذا أيضاً يأخذنا لفكرة طرح الأسئلة الهامة والضرورية أو لربما الصادمة، ويأتي في هذا السياق، سؤال الهوية، هل يقلق سؤال الهوية مفلح العدوان، ككاتب أو كعربي، مهندس، مبدع إلى آخر؟
أعتقد أن هناك فرقاً كبيراً بين الهوية والخصوصية، فالكاتب فيما يقدمه يجب أن يكون لديه خصوصية ما.. ليس في سياقها الواقعي المباشر البصمه أو العنوان، ولكن في سياق ترك الأثر.. مثلاً خصوصيتي في التعامل مع بيئة القرية في الأردن، والتي يمكن أن تجدها مشابهة لخصوصيتك في قرية أخرى في فلسطين.. بمعنى الهوية بلا حدود، ولكن يجب أن يكون هناك خصوصية في طرح همومك وموضوعك، وهذا لا يتناقض مع البعد الإنساني.. هناك ماركيز عندما طرح خصوصية المجتمعات في أمريكا اللاتينية التي تحدث عنها، فهو تحدث عن خصوصية ضيقة جداً، ولكنها لاقت رواجاً لأنها تعكس دلالة إنسانية كبيرة.
- هذا يطرح علينا فكرة الاقصاء التي تحدث أحياناً من مثقف ضد مثقف، والمجتمع أيضا ضد المثقف، فكرة الإقصاء التي تجلت مؤخراً لدينا مثلاً في تلك القائمة "الداعشية" كيف ينظر لها مفلح العدوان؟
قضية اللوائح والقوائم فيها نوع من النبذ للإبداع والمبدعين وأسماء معينة، وأنا هنا لا أتحدث عن أسماء بعينها، ولكن عن الفكرة بشكل عام، فقضية الإقصاء هذه وفي جانب من جوانبها قد يستفيد منها الشخص المستهدف، ولكنها في المقابل فيها خطر مجتمعي وخطر آخر على إبداع الشخص ومنجزه .. كأنك تريد حرق هذا الشخص أو إزالته من الوجود.
وأنا أعتقد أن هناك جوانب من المجتمع لم تصل بعد إلى ثقافة الحوار ولا ثقافة الحرية، أو تقبل الآخر، يعني أصبحت قضية التكفير والإقصاء جزءاً من ثقافته، وتقدم هدية مجانية للآخر الذي تحاول أن تجابهه فكرياً وثقافياً، وفي المقابل هؤلاء الأشخاص مبدعين وليس مقاتلين ولا يشكلون خطراً على الأشخاص ولكن هم أصحاب فكر وأصحاب كلمة.. لكن على المجتمعات بكل توجهاتها أن تتدرب على السلم المجتمعي، الحوار الداخلي، الثقافة التعددية.
- يقول الجاحظ: "المعاني مطروحة في الطريق، يعرفها العجمي والعربي، البدوي والقروي، وإنما الشأن في إقامة الوزن"، السؤال مفلح، كيف تقيم حالة التجريب أو ظاهرة التجريب في الساحة العربية؟
التجريب هو طرح كل تجربة بطريقة مختلفة عن الأخرى والتجريب هو اجتراح كتابة جديدة، والتجرؤ على كلاسيكيات الكتابة، في النمطية، في الموضوع، في الشكل، في البنية بشكل عام، ومن الظلم أن نحاكم تجربة جيل من الكتاب غامروا ودخلوا في هذا التجريب، وحتى جيل من الرواد الذين في قصيدة النثر مثلاً، ولذا أنا أعتقد أن علينا محاكمة كل تجرية على حدة، ويتم قراءة كل نص على حدة، فكل نص مختلف عن الآخر حتى لدى الكاتب نفسه.
- السؤال هنا ليس للمحاكمة، وإنما هو لرأيك ككاتب ومبدع في هذه التجربة، هل هي تجربة مفيدة على المدى البعيد؟ هل هي تجربة تقترح ما هو جديد؟ في هذا السياق يأتي السؤال.
باعتقادي طرح مشروع التجربة والوقوف عند مسطرة معينة في الكتابة، فيه اجتزاء من إبداعية المبدع، ولهذا التجريب يدخل في هذا السياق لتقديم الجديد المختلف الخارج على النمطية، فلو لم يكن هناك تجديد، سيصبح هناك سلفية في الكتابة. ولذا أنا مع التجريب والجرأة في التجريب وعلينا أن نحاول.
- يقال، الإنسان ابن بيئته، وأنت كاتب عربي أردني، هل تعتقد أن ما يشهده الشرق الأوسط أثر على أسلوبية الكتابة لدى المثقف العربي؟
السنوات الأخيرة، سنوات فيها زخم هائل واختصار لعشرات السنوات من الأحداث، بشكل يفوق الخيال، هناك دول قامت وأنظمة ذهبت وحكام رحلوا، وحجم دماء هائل جداً، أعتقد الآن لدينا جيل جديد من الكتاب لديه تجربة مختلفة، ولديه قدرة على تقديم هذه التجربة بسياقات مختلفة، ما يطرح بعض الروايات الحديثة ذات المواضيع الخاصة التي لم يكن يجرؤ على طرحها في ظل عهود سابقة، لا من جهة الموضوع ولا من جهة سقف الحرية لتقديمها.
- في أمسيتك في متحف محمود درويش، قمت بتوصيف المسرح بأنه ضعيف، وأن الغايات منه باتت تجارية أفسدته، هل تعتقد أن هذه الحالة نتيجة أم سبب برأيك؟
الجو العام أو المحيط في المسرح هو فضاء أصبح غير جاد، تحديداً في الجانب الاجتماعي والثقافي.. وأنا لم أتحدث فقط عن المسرح، ولكني أتحدث عن الحالة الثقافية بمجملها، هناك محاصرة باتجاه الهجرة إلى أجناس إبداعية أخرى، هناك أناس راحوا يهجرون المسرح إلى الدراما والسينما.. المسرح في شكله الحالي أصبح نخبوياً، حتى هذه النخبة التي تتابع المسرح أصبحت موسمية، ولهذا أصبح المسرح هو مسرح مهرجانات، فما يقدم اليوم هو مسرح تجاري، وهذا كله أثر على المسرح، وفي الثلاث سنوات الأخيرة، فترة الربيع العربي كانت هناك حالة إجهاض وتوقف للمسرح.
الآن في السنة الماضية والآن هناك عودة للمسرح، ولكن السؤال في أي اتجاه هذه العودة؟ لا نستطيع أن نحكم اليوم.
-       لو ذهبنا باتجاه آخر وسألنا عن تقييمك لظاهرة ما يسمى بـ "الأدب الرقمي" أو الإلكتروني إن صحت التسمية؟
هنا يمكنني الحديث عن تجربتي في تأسيس اتحاد كتاب الإنترنت، كان هناك شوق لمعرفة مكنون الأدب الرقمي العربي.. وبدأنا الكتابة الرقمية بشكل محدود، إلى أن وصلنا بعد سنوات من عملية التنظير في الثقافة الرقمية، وجدنا الاسئلة التي لم تتم الإجابة عليها إلى اليوم، منها مثلاً ماذا استفدنا نظرياً وأدبيا وإبداعياً من الإنترنت؟ هل أثر هذا المجتمع الرقمي على موضوعات الكاتب نفسه؟
-       وأنت تعتقد أنه أثر؟
نعم هناك تأثير ما في بنية العمل الأدبي أو معماره بشكل أو بآخر، في مصر مثلاً هناك تجارب روائية في هذا المجال.
- هذا يعني أن الأمر نسبي؟
نعم هو نسبي جداً، وأقل نسبة بالمقارنة مع اللغات الأخرى حول العالم في المحتوى، سنجد الأدب العربي على الإنترنت. فالذهنية لم تتغير.
- سؤالنا الأخير وأنت في زيارة إلى فلسطين، كيف تذوقت فلسطين التي كنت تراها أو تحسها عن بعد؟
فلسطين كانت حلم، ولكن ما أن تجاوزت الجسر حتى اعتراني شعور بأني ما زلت على صفحة واحدة، لأن المكان لم يختلف، ولا الشخوص ولا المجتمع، ولكن التوق كان لزيارة المدن كرام الله  مثلاً، بعيداً عن الأحداث والصور، وكذلك زيارة القدس والخليل، كانت رغبتي تكمن في كسر الحاجز باتجاه فلسطين، والتعامل مع هذا الجسر الذي تحدثنا عنه باعتباره جسر وصل لا جسر قطع وقطيعة.