السبت  21 كانون الأول 2024

من رواية رجل واحِد لأكثر من موت للكاتب محمّد جبعيتي

2018-08-11 01:51:56 PM
من رواية رجل واحِد لأكثر من موت للكاتب محمّد جبعيتي

الحدث الثقافي

أفكر أحيانًا في هوية سيلينا، أهي فلسطينية أم إيطالية؟ هل تشعر بالتمزق وتعاني من الاغتراب والضياع اللذين أعانيهما؟ لا أعتقد، فحبها لفلسطين نقي وواضح كسماء صيفيّة، أكاد أجزم أنها تحمل حبًا وانتماءً إلى فلسطين أكثر مني.

كانت تتحدث غير مرة عن رغبتها في زيارة البلاد، كما كانت تكثر من الأسئلة. ذات مرة وجدتُّ ألبوم صور في خيمة ألعابها، إنها لا تكفُّ عن العبث بأغراضي، عادةً لا أحمل معي عند عودتي إلى البيت سوى بعض الكتب والروايات، لا بدّ أنها لاحظت أن شيئًا زائدًا أحضرتهُ معي، والصّور عند الأطفال في منزلة القصص وحكايات الجدّة.

حين جلست إليها كان علي أن أسردَ قصّة واحدة أقلّه لكل صورة تسألني عنها. الألبوم ليس ملكيّة خاصّة، لا يحتوي على صوري أو صور أحد من أفراد العائلة، بذلت جهدًا في تجميعها وأغلبها من الإنترنت، قمت بطبعها ورقيًّا، والسبب بسيط جدًا لكنّه ضروري، لقد كان الألبوم لافتةَ احتجاجٍ وغضب على صديقة ألمانية، أردْتُّ أن أريها بلادنا كم كانت جميلة قبل أن يأتيها القتلة واللصوص من كل أصقاع الدنيا، قالت: "حيفا، وعكّا، ويافا، جميلة وساحرة، لا أعتقد أنها ستكون كذلك لو أنها ما زالت للعرب". انبثقت هذه النظريَّة العبقريّة في رأسها بعد رحلة قامت بها إلى فلسطين المحتلة.

بحثت واستفسرت. كان في فلسطين قبل النكبة عدّة مطارات، وخطوط للسكك الحديديّة، ودور عرض للسينما، ومسارح ومقاهٍ، كنّا نملك كل المقومات الثقافية والاقتصادية والجغرافية ــ فلسطين قارّة مُصغّرة، شمالها الغابات ووسطها الجبال والسهول وجنوبها صحراء النقب ـــ لدينا أهم سياحة دينية في العالم، أرض المسيح ومعراج محمد عليه السلام، لذلك أردت أن أُفهم هذه الصديقة أن المحتلينَ لم يأتوا لنا بالنظافة أو الجمال أو الحضارة، بل بالقتل والخراب والعنصريّة.

بدأتُ أسرد على سيلينا في ذلك اليوم الحكايات تلو الحكايات: حكاية شاب يتغرّب عن أهله ووطنه، ويذهب لدراسة الطب في بيروت، ينتظر مرور القطار، في الصّورة محطة قطارات في مدينة طولكرم. حكايةُ أربعة رجال يتحلّقون حول طاولة للعب الورق وتدخين النرجيلة، في الصورة مقهى مكشوف على شاطئ البحر في يافا. حكاية سيّدة بقبعتها الفرنسية ولباسها الأرستقراطي في أحد أحياء حيفا. إعلان حفلة للسيدة أم كلثوم في أحد فنادق القدس. حكاية أحد الأعراس الشعبية، في الصورة رجال في حلقة دبكة والنساء يصفّقن ابتهاجًا، ــ لايوجد وعّاظ بعدم الاختلاط ــ اجتمعت القرية بصغارها وكبارها للفرح.

سيلينا ثرثرت كثيراً كعادتها، أرادت أن تعرف التفاصيل، وقاسيةٌ هي التفاصيل وموجعة، كانت تقلّب الألبوم بين يديها وتسألني: "بابا ما هذا؟ وما هذا؟" وأنا أجيبها بقلبٍ مكسور وعيون غائمة بالدموع: إنها فلسطين يا صغيرتي، فلسطين. أقصُّ عليها الحكايات حتى تنام على ذراعي، لعلّها تصحو على فلسطين محرّرة من القتلة وسارقي أحلام الأطفال

**

صوبت مسدسي نحو قدمه، وضغطت على الزناد، فسقط على الأرض. زحف على السجادة الأرضية مادًا يده نحوي، وعيناه ممتلئتان بالذعر وطلب المغفرة. قال لي بصوت أنهكه التعب: اترك هذا المسدس اللعين، سأعطيك كل ما تتمناه، اتركه. إنه ليس مزحة، بل أداة للقتل، ارحمني، ارحمني.

ـ دعني ألقي نظرة متأملة على اللوحة.

كانت أجمل لوحة رأيتها في حياتي: رأس بشعر أشعث، ووجه شاحب بملامح مرتبكة ملطّخ بالدماء، غني بالانفعالات، وفوهة مسدس أسود يضغط على أعلى الرأس، بينما الرأس كاملًا يرتكز على لوحة أخرى. لوحة غير مكتملة، ذات طابع استثنائي، باذخة بالغموض الفني، ضربات الفرشاة التي تنطبع على اللوحة، تبعث على القلق والهم الوجودي، وتحمل رسالة وداع للعالم ومرثية للإنسان. رغم مشاعر الذعر والقلق التي تتسم بها اللوحة، إلا أن ثمة سخرية ما، ابتسامة غامضة، عبثية، خفيفة لا تكاد تظهر مشوبة بالعاطفة والتوتر.

**

كانت حقيبة جلدية، قديمة وشبه مهترئة، لونها بني غامق، تبدو كأنها محملة بكثير من الأسرار والذكريات. ارتعشت يدي حتى كدت أسقطها، كم هو صعب وقاسٍ أن تحمل أشياء إنسان ميـت؟ أن تزرع في قلب بيتك حقيبة تجهل محتواها، يخرج منها روائح مبهمة، مخيفة، وكأنها من عمق قبـر.

لا أدري كيف سافرت بي ذاكرتي المتعبة، إلى الحقيبة التي كانت تعود إلى المهندس يحيى عياش، وقد تركها لمن سيخلفـه، لكن الفرق بين الحالتين يبدو شاسعًا، ذاك هو مهندس متفجرات، بينما الحاج فتحي جردات لم يهندس سوى ذكرياته.