السبت  21 كانون الأول 2024

"الأنا المتمردة" في ديوان "ابجديات انثى حائرة" بقلم: خالد عرار

2018-08-13 03:49:45 PM

أبجدياتُ أُنثى حائرة ... ينقلنا العنوانُ من معناهُ المُعجمي إلى دلالاتٍ تتقمّصُ شخصيةَ الأنا المبعثرة على أسنّةِ الحروفِ، فينتهي المعنيانِ في قالبٍ تصنعهُ لحظةُ التَّنوير التي تبني الكاتبةَ جسماً يسمو كلّما زارَ الشّوقُ رحابَ الإبداع، وكلّما داعبَ خيطُ الشّمسِ بتلاتِ الأشجار المغرّدة.. فلغةُ الطّيورِ تقمصها نوارُ اللّوزِ كما احتضنَ الظِّلُّ ظلّهُ في تجلياتِ العطاء المنشودةِ من التحام أنا الشّاعرة بِما يخالجُ نفسها الأنثى.. وبما تفرضهُ ثقافةُ الآخر على كينونةِ الحروفِ التي تزهو بوصولِ القصيدةِ إلى التّفرّدِ.  

   تعالجُ الشّاعرةُ في ديوانها قضايا جعلت من الدِّيوان معتركاً تتصارعُ فيه قوًى حوّلتِ الشّاعرةَ وأناها فريسةً سهلةً لِما عَلِقَ فوق الغيم من ترانيمِ المسافرين إلى أبعدَ ممّا يريدُ الشّاعر وحرفه.

المرأةُ الأنثى.. الوطنُ الأمل.. الرّجل.. الأنا الحائرة ...هذه المحاورُ التي دارت حولها شاعرتنا تزرعُ العشقَ من خلالها بين سطور كتابها، هذا العشقُ ليس عشقاً بِذاته؛ إنّما هو عشقٌ دفعَ نخاعَ الفطرةِ البشرية وأصابَ كُنْهَ ميتافيزيقا الروح، كوْنُهُ غايرَ كلاسيكيةِ العشق التي استمدته ولا زالت تستمدّهُ من أرواح تمردت غريزةً وأملاً، بأقلامٍ سطّرتْ ما عهدناهُ من أنيقِ القوافي.. هذا العشقُ الذي فاضَ من جنبات هذه الأبجديات رسمَ لنا بتفرّدٍ لا نظيرَ له درباً نستشفُّ معالمه كما يستشعرُ النّحلُ دروبهُ فوقَ الأرض، كونَ هذه الأبجديات اعتمدت الإيحاء العميق، والتأمّل البعيد، والتّعقّلِ بأسلوبٍ فريدٍ. عشقٌ دارت رحاهُ على الأرض التي كوّنتها مُذ كانت براعمُ الأمل تتسابقُ لتفوزَ بلمسةٍ من راحةٍ حطّت على حرفٍ توّجَها مليكة المكان والزّمان.

   بحثت الشّاعرةُ عن أناها الحائرةِ بين هذه المفاهيم؛ لأنّها ملّتِ كلاسيكية الباحثِ، وعشقت سطراً واحداً بين مجموع سطور الحكاية، فسلكتْ طريقاً مختصراً أوصلها إلى المكان الذي تتجمّعُ فيه إرهاصاتُ العشّاق ممّن عمّروا القصائد بِما جادت به عليهم قرائحهم، فجدّدت قديماً باتَ مدرسةً تَتَلْمذَ بين ربوعها الشّعراءُ الأوفياء لقضايا وطنهم، ولِلهمّ الذي قضَّ مضاجع عذارى الحلم. فامتازت بثلاثية (المرأة الأنثى، والوطنُ الأملُ، والرّجلُ الآخر). لذلك نجدُها تدافعُ عن ذاتها من خلال تقمّصِ شخص الأنثى الحائرة بين دفتي ديوانها، فتتمرّدُ على الجهل المُطبقِ على شفاه الحقِّ، ترفضهُ، تزجرهُ، تُسْلمُهُ للحارسِ الممتشقِ قوسه، يتربصُ بجهل جاهلٍ، أو بتجاهلِ طامعٍ.  

ونجدها تدافعُ عن حقّها في تجسيد دورها في النضالٍ ضدَّ محتّلٍ سرقَ البسمة، ووزّعَ غربانه يقطعونَ طريق المسافرينَ لعبور المستحيل، فلبستْ ثوبَ الوطن، وكان زادُها الأمل.. ونجدها ترفضُ تسلّطَ أنا الرّجل على ذات الأنثى، فتزيلُ الغطاءَ عن زيفِ القول؛ لتصلَ بِنا إلى حقيقة الآخرِ التي جُبلَ عليها، وقوامته المأخوذة من تعاليم السّمو والرّفعة، لا دنوِّ الفكرةِ والغاية. فهيَ تُقبِلُ مسرعةً إلى ظلّه السّاكن طبيعتها، لأنّها تعرفُ أنَّ الضّواري يتربصونَ بها.

في قصيدتها (تشظي) تقول :

تتشظّى أنثايَ

على صخرةِ أفكاره الماثلةِ

في سفحِ رجولته الصّماء

تبعثرها ريحُ العاداتِ وتقاليدُ قبيلتنا

ألـ ما فتئتْ تكبرُ ... تعلو..

   أرى الشّاعرةَ تعمّدتْ أنْ توضّحَ علاقةَ الأنثى الشّاعرة بشقِّ الرّوح المفروض على سيكولوجية الحلم الذي تشنقهُ تقاليدُ القبيلةِ الذّكورية. فالصّخرةُ صمّاءُ، والعاداتُ سيفٌ يجزُّ الحلمَ الذي لا تخبو نارهُ طالما تستنشقُ القصيدةُ الأمل بغدٍ مُفرح..

   وممّا تمتازُ به شاعرتنا استخدامُ الـ الموصولة الاسمية (الـ ما فتئت) على عادت الشعراء العرب في تعريف الفعل المضارع مثلاً، حيث اعتُبرَ من شواذ اللغة..  يقولُ ذو الخِرَقِ الطُّهْويُّ: فيستخرجَ اليربوعَ من نافقائه.. ومن جُحرهِ بالشّيحةِ اليَتَقَصَّعُ/ ويقولُ آخر:

             فذو المال يُؤتي مالهُ دونَ عرضه.. لِما نابهُ والطّارقِ اليَتَعَمَّـــلُ

وكما يبدو ذلك أيظاً في قصيدة (أينكِ).. حيثُ تقول:

أينكِ يا ابنةَ الرّيح          // يا غيمةً حبلى بماء حنيني

أينكِ يا ظبية القصر   // الـ فرّت من قسورة

أينكَ وقد وشمتِ حبّكَ    على فردوس رجولتي

 تقمّصُ دور الرّجل للوصول إلى ماهية العلاقة بين شقّين لنبتةٍ واحدةٍ لا تنمو إلا بهما معاً.

 ... وحيثُ يسيطرُ الوجعُ على شال القصائد، فترفرفُ خصلاتُ الحروفِ على أسطح المنازل الساكنة الذّاكرة..

... قصيدة بصمةٌ كنعانيةٌ..

أنا ابنةُ الأرض // روحُ السّماء // نشيدُ الحُبِّ

ذهبت شاعرتنا إلى الأصالة، التاريخ، امتداد القمح على سرير المراحل؛ لينمو الوطنُ بياراتٍ من برتقالٍ على شواطئ الأرض المسلوبة..  

... وما زالت الشّاعرةُ تبحثُ عن ذاتها في كلِّ أرضٍ تتجمع السُّنوناتُ فيها تلتقطُ الحَبَّ لصغارٍ ينتظرونَ عودةَ نموِّ الغد

تقولُ في قصيدة (تحدٍّ) : سأستلني من صدر الصّمت // حسام حرفٍ .

استوقفتني قصائدُ الشّاعرة، واختيارها للعناوين التي تشكّلُ عوالم جديدةً في سماء الشّاعرة والقارئ معاً.. ففي عينيكِ وحدكِ.. بحثت عن رديفتها في عينيها؛ علّها تمسكُ بطَرفِ خيطٍ يوصلها للمدينة الفاضلة.. وفي قصيدة تحرر.. عبرت الماضي، وخلعت نعل الشّؤمِ، وأشهرت هويتها غصنَ زيتونٍ وحفنةً من حلمٍ؛ لعلمها بتتابع اللحظات في تشكيل البوحِ وهو يرتّلُ ما تيسّر من زقزقةِ حبٍّ وأمل. وفي قصيدة طفولةٌ من نوع آخر.. ارتدت الشّاعرة وأقرانها خِرق الحرب البالية التي جهّزها الغاصبُ لميلادنا قبل تشقّقِ الأرض لخروجِ النبتة المحاربة؛ لكننا انتفضنا على أفواه البنادق، وألغينا من قواميس المدّعين مقولة الجيش الذي لا يُقهر..

شاعرةٌ بحجم حلمها.. تمتمت للريح فحملتها إلى أقاصي الحلم، وعادت محمّلةً بالرحيق الذي تصنعُ منه عسلاً يُزيلُ مرارةً سكنتنا منذ أن اقتُلِعت أوّلُ شجرةٍ وزُرعت في أرضٍ يبابٍ، فلم تثمر.. شاعرةٌ جابهتْ ساديةَ الفِكرة، وتحدّت انتشار العواصف الهوجاء، فكانت رديفاً لفكرتها، تساندها كلّما حاولت العاصفةُ تفتيتَ أناها من بين السّطور.

شكراً بحجم الغد المُنتظر..