الإثنين  23 كانون الأول 2024

الى جهة الغرب/ بقلم: أمير داوود

2014-12-15 11:36:49 AM
الى جهة الغرب/ بقلم: أمير داوود
صورة ارشيفية
 
 
مكتبتي تنمو بشكل مثير للدهشة، قبل عام تقريباً، كانت مكتبة صغيرة، اليوم، صارت مكتبة ضخمة، تصلح لالتقاط الصور الى جانبها، هل ثمة مكان في الدنيا أجمل من مكتبة أنيقة تلتقط الصور أمامها؟
 
- البحر طبعاً!
بعد العام 1967 أنشأت اسرائيل أحواضاً شاسعة لمياه الصرف الصحي (مجاري). صادروا أراضٍ زراعية غربيّ المدينة وحفروا بركاً عملاقة لهذه الأغراض. صارت هذه البرك تبدو من بعيد وكأنها بحيّرات؛ شمس ساطعة وشجر عالٍ يحيطها. كان ينقصها أن تتقافر الأسماك فوقها لكي نندفع في تصديق هذا المشهد أكثر. ذهبنا الى هناك والتقطنا الكثير من الصور. نقف. نمد أيدينا على أكتاف بعضنا البعض ونبتسم. واحد اثنان ثلاثة. صورة جديدة!

كل يوم أذهب الى تلك الغرفة التي تحتضن المكتبة مثلما تحتضن قطة أطفالها الصغار. أقف امامها وأحدّق طويلاً كمن ينظر الى مشهد يحبس الأنفاس. هذه هي طريقتي الخاصة بالاحتفال بالمكتبة التي تنمو وتتعربش الجدار على طريقة الدالية.
لم يكن الوصول الى "بحيرات" الصرف الصحي أيامها سهلاً. كان عليك أولاً ان تجتاز الحيّ السكني المكتظ غرب المدينة، ثم تعبر أراضٍ شاسعة متشابكة الأشجار، ثم تصعد تلالاً رملية مرتفعة، وهي بدورها تجعلك في مواجهة مباشرة مع مناظير الجيش التي تحرس الحدود. قبل الانتفاضة، تغاضى الجيش عن رؤية الناس في هذه المنطقة، وبعدها، ارتفعت حساسيتهم الامنية فشرعوا بإطلاق النار على أي شيء يتحرك. مرة اطلقوا النار على شاب فأصابت الرصاصة مقدمة رأسه. استبدل الاطباء الجزء المكسور من جمجمته بغطاء بلاتيني، فصارت جبهة رأسه عريضة اكثر من اللازم.

أول رواية اقتنيتها في حياتي كانت لعبد الرحمن منيف، مدن الملح. طلب محاضر مادة نظريات علم الانسان في الجامعة منا أن نقرأها، فاشتريتها. حاولت قراءتها، فوجدتها مملة لدرجة استحال عليّ اكمالها. استعارها لاحقاً أحد الأصدقاء، ولم يرجعها!

اعاد الاحتلال تكرير مياه الصرف الصحي (المجاري) لأغراض استخدامها في ريّ المحاصيل الزراعية. امتدت سهول القمح والذرة خلف "البحيرات" على اتساع النظر. في الصيف، كنا نذهب الى هذه الحقول، فنستولي على كميات كبيرة من الذرة، كميات تكفي لاطعام عشرة أشخاص في ليلة كاملة.

أول نصٍ قراته في حياتي وتمنيت لو انني أستطيع أن اكتب مثله، لفرط جماله، كان نص "مقدمة" كتاب: رجال حول الرسول لخالد محمد خالد. مقدمة طويلة، تجاوزت حدود الثلاثين صفحة. فيها شجن كبير ولغة أخاذة. وقعت عليها في المرحلة المتوسطة من المدرسة، فأعدت قراءتها لأكثر من عشرين مرة، لدرجة انني اعتقدت بانه لم يكتب قبل او بعد هذه المقدمة نصوصاً اجمل منها.

في الصيف، تكتظ الممرات الضيقة التي تحيط بهذه "البحيرات" بالشبان الذين جاءوا من أصقاع المدينة المختلفة. استجمام من نوع خاص يمنع فيه السباحة. عمدت اسرائيل على اغراق هذه البحيرات بتراكيب كيميائية تحول دون انبعاث روائح كريهة منها في معظم اوقات السنة.

في المكتبة، لا احد يستطيع أن ينام. هنالك ضجيج مكتوم تماماً يحول دون قدرة أي احد على النوم. حاولت كثيراً ولم أستطع.

حول "البحيرات" وفي الممرات الضيقة الطويلة، نظمنا مسابقات السرعة. يركض الشبان بشكل ثنائي، والفائز يخوض سباقاً جديداً مع الفائز من السباق الآخر، وهكذا، حتى نصل الى أسرع شاب على مستوى المدينة كلها.

انتهيت قبل أيامٍ قليلة من قراءة كتاب: "لعبة الفئران والرجال" للروائي الانجليزي جون ستاينبيك. في معظم اوقات القراءة، كنت ممدداً على كنبة من كنبات المكتبة. تملكني هواجس مرعبة حول فئران تتسلل من مكان ما، مكان سريّ وغير مرئي، لي، وتجهز على المكتبة كلها، انتهيت من القراءة، فانتهت الهواجس.

قبل شهور قليلة من اغلاق اسرائيل منطقة "البحيرات" بالجدار الفاصل والأسلاك الشائكة، أحضر شبان المدينة فئران كبيرة وقطط، ربطوا ذيولها بقطع قماش مبللة بالكاز والبنزين، وأشعلوها، ركضت الفئران والقطط مذعورة في سهول القمح والذرة فأحدثت حريقاً هائلاً هناك، استمرت عمليات الإطفاء لأيام عديدة.

 
- انتهت الذاكرة.
يقول ميشيل دي مونتين: ليس هنالك من شيء يثبت في الذاكرة مثل 
تلك الأشياء التي نرغب بنسيانها.