الإثنين  23 كانون الأول 2024

أنا مدعوة إلى معرض فني!!! بقلم: إيناس عبد الله

2014-12-23 02:24:28 PM
أنا مدعوة إلى معرض فني!!!
بقلم: إيناس عبد الله
صورة ارشيفية

 في بلد يعج بالجهلاء، وحروب الجوع، واعتبار الفن ردة فعل حساسة تجاه البطش، الحضور إلى معرض فني ترف لا يملكه غيري

المدن التي تطحن أهلها، لا تستطيع أن تنخل مواهبهم بواقعية، لأن التقصير واضح، سيارات الأجرة التي تكاد توقع حوادث متعددة على الأتوستراد غير المؤهل لفوضى الشتاء وزعيق السائقين وشتائمهم النابية، تؤكد أن الفن المحنط على الجدران هو هروب درامي من الفزع اليومي!

 ابتسامته وحدها هناك، استوقفتها، هكذا في منتصف القاعة التي تعج بالمتحدثين والضاحكين واللوحات، لم يتكلم مثلهم، كان صامتاً يدخن، يتماهى مع زوايا القاعة، يستدير يمنة ويسرى، مثل سفينة اقتربت من أن تحط على يابسة مجهولة، وحين مرت ابتسم لها

أنتِ هنا؟

ارتبكت، ثم أكملت قهوتها

أهلاً

استدارت لتجد، عينيه الواسعتين تحاصرانها،  وقد أضحتا أكثر حدة، كانت تعرفه وتجهله، تعرف اسمه وقيمته الثقافية كمتذوق للفن، لكنها لا تعرف عنه شيئاً واقعياً، مهنته الحقيقية، ميوله السياسية، أراءه، أصدقاءه، نوع سيارته، غرائبه ووسوساته، وكل الأدلة التي قد يمكن من خلالها معرفة أي رجل يكون، لكنها تعرف أنه تبنى قضية فكرية ما، وأن أعداءه كثر، الرجل الذي يملك الكثير من الأعداء، غالباً ما يصبح ذا شأن!، التقيا كثيراً لكنهما لم يتكلما، يعرف أنها ليست سهلة وتعرف أنه ليس تافهاً، وأن هناك حدوداً وهمية، لكنها حقيقية بينهما، كانت قرب النافذة تشرب قهوة بردت على عجل، تفكر بعملها الذي تركته لأنه لا يلبي طموح نملة، وتتساءل كيف استطاع كل أولئك الحمقى في القاعة الوصول إلى مراتب عليا في العمل؟

_ هل أنتِ ضجرة إلى هذا الحد؟

_ هل هو واضح علي؟

_ لا أنتِ تجيدين إخفاء ضجرك، لكنني أراه

_ عينك الثالثة بخير إذن

_ بل قولي عيوني جمعاء!

ضحكته كانت أكثر تعقيداً من ابتسامته، ركزت نظرها على ياقة قميصه، المفتوح قليلاً على صدر مشدود بعنفوان من زال في السادسة والثلاثين لكنه يملك حكمة قديمة مثل مسن لا يموت، قبل أن يتفوه بكلمة، رأته يملك الحكمة، الحكمة التي تنهمر من عينيه الحزينتين، الرجل الذي لا يملك عينين حزينتين هو قواد، أو لنجمل الأمر بقولنا غير حكيم، تمعنت بالقميض المخطط بالأزرق، والجاكيت الأسود، ورائحة عطر يشبه عصير الأزمنة، يندلع من فوهة صدره الدافئ الآمن، جعل توازنها يختل،  كانت تعرف أنه يعرف أنها تنهار قليلاً، وأنها وحيدة أكثر من ميت، وأنها أكثر من مرة وفي أكثر من قاعة وقرب الكثير من اللوحات، نظرت إليه وانفردت به في نظراتها، كلنا نحب ونريد أن نكتشف أحداً ما، لا أن نحبه، بل نكتشفه، وهذا سلوك مثير جداً خصوصاً لو كانت الرحلة إليه معجونة بالمخاطر، في كل منا قرصان نائم يحتاج إلى بحر كبير وسفينة وبوصلة، وبحار، نعم بحار متمرس حاذق!

يا لعقل النساء الكهفي!

_ إنها تمطر بشدة في الخارج

_ إنها تمطر منذ الصباح، الدنيا تغرق

_ هل تحبين المطر؟

 _ لست معه أو ضده، لكن الشعراء فقط يحبون المطر

_ والقطط

_ لماذا القطط؟

لكي تحتضن نفسها وتتكور، هل رأيتِ قطاً من قبل يجابه المطر؟

_ ربما

_ لأن المطر يشعرك بالوحدة، والحزن، شيئان قد يخرجا كل الأشباح الباكية داخلنا،

الموسيقى والمطر

_ ليس لدي شبح باك

_ أنت قطع غيار شبحي

_ أنت لا تعرفني؟

_ لا أحتاج لأن أعرفك، أحتاج أن تعرفي نفسك أكثر، فأنا أعرف اسمك وأعرف أنك مهتمة بالفن

_ أبداً لست مهتمة

_ أتيت لأرافق صديقتي بسبب الضجر لا أكثر، ثم لا أحد يعرفني أكثر مني

 

 

_ بل أنت أكثر الناس جهلاً بك

_ أنت مغرور ككل الرجال، وكل الرجال لا يعرفون شيئاً، ولو عرفوا شيئاً فشلوا في معرفة الشيء الذي بعده

_ لا أبداً، أنا مجرد ناقل بريء للحقيقة

_ وهل تعرف نفسك؟

_ أحاول، ولا أكف عن المحاولة وتوصلت إلى بعض الأسرار

_ مثل ماذا؟

_ مثل المطر

_ ما به المطر؟

_ كلما أرعدت وأمطرت ألتقي بأمرأة ناكرة للجميل!

_ جميل؟

_ نعم

_ ولم؟

_ لأنك ترفضين هبة السماء، أراكِ منذ نصف ساعة تبحثين عن مظلتك وتتأففين، رغم أن الأمسية لم تنته ولم نلتق بالفنان

_ أنا أكره الفنانين

"يرمي بضحكته العالية في وجهها"

_ ولم؟

_ إنهم كالأطفال الذين يلعبون في الطين، وومع ذلك نفتح أفواهنا دهشة لكل الفوضى التي يسببونها

_ الفن طفل يا جميلتي

_ لست جميلة أحد

_ لا، أنتِ جميلة أحدهم لكنه كان غبياً كفاية ليتركك تبحثين عن مظلتك وحيدة

_ لم أجدها على أية حال، ثم لا تستعر كلام الأفلام، جيمس دين لا يقلد!

_ نعم لأنها معي أخذتها حين ابتعدت عن الكرسي، وأنا لست جيمس دين

_ ولم أخذتها؟

_ ربما لأرافقك

_ ومن قال إنني أريدك أن ترافقني؟

_ لأن قلبك طيب وأنا رجل بلا مظلة، وستوصلينني إلى سيارتي

_ ما هو عملك؟

_ أنا أقرأ الكثير من الكتب، أعمل خادماً للكتب

_ ليس هناك خادم، بساعة سيتيزن براقة، وسيارة تصل لها، بالمظلات فوق رأسك

_ هههه الخدم مراتب!

خرجا من الباب الدوار،  المناكفة اتسعت وصار لزاماً عليها تنشق الهواء، حمل الهواء المظلة بقوة، ماء المطر دخل أوردتها، أحاطها بذراعه، هلعت، كانت تريد أن تبقى هكذا، أن تتحنط ربما، صوت السيارات، ضحكته كلما رشهما المطر، شيء سوف يخلد في ذاكرتها للأبد كأن عالماً بحد ذاته قام من رماد اللحظة الغارقة

_ لا أحب تقليد الأفلام

_ لأننا مشينا تحت المطر نقلد الأفلام

_ ثم نشترك بمظلة

_ يا سلام

_ ألا تؤمنين بالاشتراكية؟

_ لا، على كل أنسان أن تكون له مقتنياته الخاصة، الاشتراكية تجعلنا قطيع

_ وأين مقتنياتك؟

_ ليس لدي مقتنيات كبيرة، أنا امرأة قنوعة وفقيرة الحال

_ هذا لأنه لديك حس اشتراكي

_ انت ممل

_ لا أنت لا تحبين أن تعترفي بحقيقتك!

_ حقا؟

_ أراهنك بأنك شبح بيتي وكل ملابسك ترتديها أخواتك بالاشتراك معك، وأنه لا يعجبك سوى الرجل بالميول اليسارية

_ لا يعجبني الرجال بكل الميول، أحب فقط أن يعجبوا هم بي

_ نعم ويشتركوا في الإعجاب بك؟

أنت اشتراكية حقيقية

_ أنت معتوه

_ وأنت شهية

_أعرف هذا لكنك معتوه

_ لكل منا مصابه الجلل!

_ أين سيارتك؟

_ ومن قال أن لدي سيارة، سنركب الباص كأي اشتراكيين فاضلين!

اجتاحتني رغبة عارمة بالضحك، ثم انتفضت

كانت سمية صديقتي تهزني بعنف

_ هل جننتِ لم أنت نائمة على الكرسي وتكلمين نفسك؟

_ لست نائمة لكن يبدو أنه دواء الحساسية اللعين، هل التقيتِ بالفنان؟

_ هذا السافل لا يكلم المرء إلا دقيقة، يظن نفسه في هوليوود

_ أنا دائخة

_ أين مظلتك؟

_ لا أعرف!

_ كل الضيوف يملكون نفس المظلة،

_ نعم ذلك لأنه يوزعونها قرب الباب

_ لن آتي أبداً إلى معارض الفن!!!!

_ لم؟

_ لأنها تثير أشباحي الباكية، إنهم يرسمون أشباحهم الباكية، يبكونها علناً

لهذا نحن نعشق اقتناء اللوحات، لأننا نملك أشباح الآخرين الباكية ونخفي أشباحنا ونحس بالانتصار

_ ومن قال لك هذا الكلام

_ الشبح الباكي... بنفسه!