المحرر الثقافي
الموقف من الدين دائمُ التغير والتحول، وليس هنالك اتفاقٌ على تعريفه، لذلك يجب الاستمرار في التفكير والبحث. تلك هي المقولة الأبرز التي يتحدث عنها ألفرد نورث هوايتهد، شارحاً أسباب الإيمان الديني، ومتسائلاً بشأن معنى الدين الحقيقي أو الدين المزيف مادام ليس هنالك إجماعٌ على كل الحقائق الدينية المحيطة بنا.
يقول هوايتهد في كتابه المعنون: "كيف يتكون الدين؟" (ترجمة وتقديم: رضوان السيِّد، جداول للنشر، مارس/آذار 2017)، إن الأديان ورغم أنها تمد العالم بالمعنى، إلا أن الديانات الإبراهيمية تحديداً، تضع الله خارج مدرك العقل، وأنه في الديانتين اليهودية والمسيحية يكون منقطع الصلة _بحسبه_ بالكون المخلوق.
الكتاب عبارة عن 4 محاضرات ألقاها عام 1926 في بوسطن، يناقشُ فيها هوايتهد فكرة الإقناع كأساس إيماني تطهيري تطور بحسب تطور الإيمان؛ فالدين ينقي دواخل الفرد، فتكون الاستقامة الدينية مبنية على جملة من الحقائق التي تؤدي إلى حدوث تغيير في الأخلاق والسلوك إن ما كانت مبنية على قناعة داخلية عميقة.
لكن الأهم في تلك المحاضرات، هو متابعة صيرورة تطور العالم قياساً بالدين، ومدى ملاءمة الدين مع العلم، وكيف ربط بين العلم مزعزعا الفكرة السائدة حول التعاكس بين الدين من جهة والتطور العلمي من جهة أخرى.
يناقش هوايتهد في مقدمة كتابه العناصر المؤسسة أو الثابتة في الدين وأن التي نراها ثابتة بحسب إدراكنا ووعينا إنما يكون ثباتها متماشياً مع النظام العام للعالم، وأنه دون تأمل تلك العناصر لا يمكن فهم متغيرات هذا العالم.
أما مسألة التدين، أو كيفية الوصول إلى حالة التدين، فيوضحها هوايتهد بالقول إن العزلة والتوحد، هي الطريق مركزا على فردانية الشخص، فكي يكون متديناً يجب أن يمر بحالة من الوحدة والانعزال. ويوجه هوايتهد النقد للمؤسسات والكنائس وأشكال السلوك، معتبراً إياها أشكالاً زائلة لاحتياجات آنية عابرة، وأن الغاية من وراء الدين أبعد من ذلك.
ويُحيل هوايتهد إلى حقيقة أن الأديان قد مرت بتطورات على المستوى الفردي متجاوزة الأصل الجماعي والعام، ليكون أمامنا "الفرد" بدلا من "الجماعة" كوحدة دينية هي الأقوى، محيلاً إلى مسألة ظهور "الدين المعقلن"، والذي يكون نتاج ظهور وعي عالمي، بأن الفرد هو الأساس، وأن عقائد الدين ومقولاته تظهر في التجربة الإنسانية، ليتأسس الدين على 3 مفاهيم أساسية هي: القيمة الذاتية للفرد الإنسانيِّ، والقيمة التي تظهر للأفراد فيما بينهم في هذا العالَم، وقيمة العالَم الموضوعي باعتباره جماعة والعلاقات الـمتبدلة والـخصبة الصانعة للعالَم وأفراده.
إنَّ النقطة الرئيسة التي يُشير إليها هوايتهد، تكمن في تأكيده المستمر على أنَّ لحظة الوعي الدِّيني إنَّما تنطلق من الإحساس بقيمة الذَّات، وأن الأمر يتسع بعدها ليصبح مفهوما للعالَم باعتباره أُفُقاً حاضنا للقيم، التي إما أن تزداد عراها أو تنحل.
في الكتاب ثغرات، من قبيل الثنائية الصارمة المتقابلة لما بين "العاطفة" و "العقل"، أي "الحدس" مقابل "التجربة"، ضمن هذا الإطار يُحاجج هوايتهد بالقول: إنَّنا إذا اعتبرنا أنَّ «الخبرة الدِّينية» ناجمة عن الحدْس المباشر بالإله؛ فإنَّنا لا يمكن أن نأمل بالحصول على توافق كبير؛ لأنَّ التيارات الرئيسة للتفكير الدِّيني تتقابل وتتناقض فيما يتعلَّق بهذه المسألة.