الأحد  22 كانون الأول 2024

اللغة، باروميتر (مقياس) الشعوب!

2013-12-24 00:00:00
اللغة، باروميتر (مقياس) الشعوب!
صورة ارشيفية

تالا حلاوة - صحفية وباحثة 

لم يعد مشهداً غريباً أن ترى طفلاً عربياً يتحدث مع عائلته وأصدقائه بالإنجليزية ولا يجيد العربية، ولم يعد مشهداً غريباً أن ترى شباباً يخطئون في إملاء وقواعد اللغة العربية ويستخدمون في حواراتهم اليومية مصطلحات أجنبية للتعبير عن أفكارهم، ولم يعد غريباً كذلك أن يصبح عدم إتقان الإنجليزية عقبة في وجه التطور المهني والأكاديمي، وعلى الرغم من أهمية اللغة الإنجليزية نظراً لعالميتها وتمركز نقاط القوى العالمية في الإنتاج العلمي والتكنولوجي في المناطق الناطقة بها، إلّا أنّ العديد من التساؤلات حول مصير اللغة العربية تطرح نفسها بتخوّف وخجل! 

ففي ظل القفزات التي تحققها تكنولوجيا الاتصالات والمعلومات وما لها من انعكاسات على الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، تبرز أكثر القضايا حساسية وتأثراً بالتغييرات المتسارعة التي تطرأ على عوامل تشكيل الهوية الفردية والجمعية والتي تميّز مجتمعاً عن آخر بخصائص متعددة كالعرق والدين وما يتبعهما من عادات وتقاليد، بالإضافة إلى اللغة. ولعل الأخيرة تعتبر من أهم مكونات الهوية وأكثرها تأثراً بالتغيرات التكنولوجية وعالم الانترنت.

فاللغة ليست وسيلة للتواصل البشري فحسب بل هي انعكاس لمجتمعها وعلامة فارقة تشكّل هوية ثقافية تحمل مضامين وأفكار وعادات معيّنة غالباً ما نلحظها في اللهجات العاميّة وما يندرج تحتها من أمثال شعبية ودعابة واستعارات للتعبير عن مواقف معيّنة. ومع تطور تكنولوجيا المعلومات التي تعتمد في لغتها على اللغة الإنجليزية، نرى أن العديد من الناطقين بلغات أخرى يحاولون التكيّف مع هذا الواقع وتكييف لغاتهم بما يلائم استخدامات الهواتف الذكية والانترنت ومواقع التواصل الاجتماعي وغيرها. 

غالباً لا يشكّل تغيّر المجتمعات وتكيّفها قلقاً، فهو أمر بديهي بدأ مع وجود الإنسان على الأرض وتكيفه بما أتاحت له من أدوات لتوفير عيش ملائم. لكن القلق الإيجابي يبدأ حينما نوقن أن اللغة عماد للثقافة والهوية الجمعية وأن تسطيحها أو تهميش ركائزها لا يحمل أثراً آنياً فقط بل له من الانعكاسات مستقبلاً على جوهر اللغة نفسها، وأن لا بديل عن أهمية تمكّن الأفراد من استخدامها بإتقان بالتوازي مع إتقانهم لاستخدام التكنولوجيا واللغات الأجنبية. 

لربما يعتبر الوطن العربي كسوق مستهلك للتكنولوجيا وليس منتجاً لها، متاحاً أكثر لهذه التغيرات. فأصبح تعريب المصطلحات المتداولة تكنولوجياً مدعاة للحرج والسخرية في بعض الأحيان وكأن اللغة العربية غير قادرة على إيجاد مرادفات ملائمة لهذه التكنولوجيا. وبالرغم من تضاعف حجم المضمون العربي على الانترنت وتوفر اللغة العربية على العديد من محركات البحث العالمية والمواقع الإخبارية وغيرها، إلا أن هذه الميّزات لم تمنع حدوث تغيّرات في استخدام اللغة اليومي بين الناس في العمل والشارع والمؤسسات التعليمية، وخير دليل على ذلك هو استحداث نمط كتابة العربية المحكية بحروف لاتينية والمعروفة بالـ “عربيزي”!

ويصف عالم الاجتماع الاسباني مانويل كاستلز(2010) اللغة، وخصوصاً اللغة السليمة تماماً، بأنها السّمة الأساسيّة للاعتراف بالنفس وإقامة حدود وطنية لا مرئية تفصل مجتمعاً عن آخر، وتربط الحيّز الخاص للفرد بالحيز العام الذي يعيش فيه. ولعل هذه الهوية التي تمنحها اللغة للفرد وللمجتمع تحتاج اهتماماً من خلال الحفاظ على جوهر اللغة السليمة وحض الأفراد على تعلّمها والاهتمام بالعربية الفصحى من باب الحفاظ على ثقافة مجتمع ضخم يتوزع على اثنتين وعشرين دولة. 

ولعل الاستعمار المتكرر الذي تعرضت له الدول العربية على مرّ التاريخ أثّر وما زال يؤثر على استخدامات اللغة العربية وما تحتويه من كلمات دخيلة من الفرنسية والإنجليزية والتركية، ناهيك عن المؤسسات الأهلية والأجنبية التي تلعب دوراً في تعميق الفجوة بين العربيّ ولغته، فأصبحت المجتمعات العربية تحاسب الفرد بقسوة إن لم يتقن الإنجليزية وتستهجن منه ذلك، حتى أصبح إتقانها أهم من إتقان الفرد للغته الأم. وأصبح إتقان الإنجليزية إلى حدّ ما مصدر هيبة منحتها طبقة معينة من المجتمع لنفسها بحيث غيّرت معايير استخدام اللغة العربية من خلال تمرير العديد من المفردات الأجنبية في أي شكل من أشكال المحادثة كنوع من التميّز الاجتماعي والعصرنة، وربما تكون قوائم الطعام التي تقدمها العديد من المطاعم العربية مكتوبة بالإنجليزية دون توفير نسخة عربية منها دليل آخر على ذلك. 

وبالرغم من الأدوار التي تلعبها المؤسسات الأجنبية والاستعمار وغيرهما في تفكيك الصلات بين المجتمع العربي ولغته إلا أن المدرسة والنظام التعليمي له دور أكبر في التخفيف من حدة الهروب من اللغة العربية بحجة صعوبة تعلمها وفهم قواعدها. فكما تهتم المدارس الخاصة بالترويج لنفسها من خلال توفير تعليم لغات أجنبية عليها أيضاً أن تؤمن بأهمية اللغة الأم كمحرك أساسي في بناء هوية جمعية وثقافة وطنية لدى الطفل وتسهيل اندماجه في المجتمع بكافة شرائحه. أما المدارس الحكومية والتي في غالبها لا توفر سوى الإنجليزية موازاة للعربية فعليها أن تعي أن لا أفضلية بينهما وأن العناية باللغة الأم هو دليل على بعد نظر وخطة استراتيجية لتربية الأبناء وفقاً لهوية وطنية وجمعية واضحة تشكل عماد المجتمع في المستقبل وتؤدي بالضرورة إلى ارتباط الطفل بمجتمعه وشعوره بالانتماء لهذه الهوية. 

وبالتوازي مع أهمية المدرسة كبيت ثان للطفل لا يمكن تجاهل دور الإعلام وخصوصاً المرئي منه في تكوين صورة نمطية لدى الطفل حول اللغة العربية، فمع تنوّع اللهجات ونوعية البرامج التجارية المعروضة على شاشات التلفزة العربية بدأت البرامج التعليمية والتي تعنى بثقافة الطفل وتعليمه من خلال الترفيه تخفت شيئاً فشيئاً بسبب عدة عوامل، وربما أحدث مثال على ذلك هو ما حدث في فلسطين خلال العام 2012 عندما تقدمت بطلب عضوية في الأمم المتحدة فعوقبت جميع البرامج والمشاريع الممولة من الوكالة الأمريكية للتنمية (USAID) بوقف تمويلها ومنها برنامج “شارع سمسم” والذي يكاد يكون البرنامج التعليمي الوحيد الذي يستهدف الأطفال ويلتزم باللغة العربية الفصحى في محتواه. ولعل هذه الحادثة تشكل دليلاً آخر على أهمية هذه البرامج في تكوين هوية الطفل مما جعلها بطاقة ضغط يستخدمها الممولون لضبط قواعد اللعبة وفق ما تتطلبه العلاقات الدبلوماسية والسياسات الدولية. 

اللغة باستخدامتها المتعددة تهدف بالنهاية إلى إرسال خطاب حول قضية ما وتحمل من المعاني ما يفسر كيف يرى الناس العالم من حولهم، وتضيف لهم إحساساً بالمعرفة والقدرة على التمييز بين ما يحاكي مجتمعاتهم وبين ما يسوّق لهم من سلع وأفكار تحمل العديد من عوامل التغيّر والتأثر. فحماية اللغة تؤدي بالضرورة الى حماية الثقافة والهوية الوطنية، فهي كما وصفها الكاتب ماثيو بالمر (2012)، باروميتر (مقياس) الشعوب وأداة تعريفهم وتصنيفهم. ويرى بالمر في اللغة أيضاً، درعاً حامياً للثقافة والهوية القومية ودافعاً من دوافع النهضة المجتمعية.   

لعل تسليط الضوء على القضايا المتعلقة باللغة العربية والتحديات التي تواجهها في عصر التكنولوجيا أصبح حاجة ملحّة، بالأخص ما يرتبط باللغة من استخدامات تعكس هوية المجتمع وثقافته تبدأ مع الفرد من المدرسة والجامعة واستخدام الكتب والصحف والمجلات بالإضافة إلى المدوّنات ومواقع الانترنت. ولعل إتقان الأفراد للغة العربية الفصحى رغم تدوالهم للهجات المحكية وبلورة دور اللغة في بناء الهوية الفردية والجمعية يقلل من حالة التخوّف الدائمة التي يعيشها العربيّ من فقدان ثقافته واستعمار ثقافات أخرى لمجتمعه