الأحد  22 كانون الأول 2024

حبرٌ على ورق بقلم: خيري حمدان

2019-07-04 11:31:39 AM
حبرٌ على ورق بقلم: خيري حمدان
خيري حمدان

أهذا أنت؟

مضى ما يزيد على أربعة عقود، وقرّرت العودة بدعوة.

ثمّ، كانت تلك الرحلة في سماوات شهدت ولادتي ونكسة تلو الأخرى. رحلة وخيارٌ صعبٌ للتواصل مع بقايا وطنٍ كاد أن ينسى أبناءه ليستنسخ ثانية ذاكرة ترفض أن تمضي في طريقها شبه المحتوم، وتعود لتكون، تفرض حضورها المدميّ في زمنٍ يقترب كلّ نهار من متاهات المستحيل.

- أهذا أنت! تفرّستْ في ملامح وجهي وفي الصورة الملصقة على جواز السفر الذي يأذن لي بدخول بلدي سائحًا غرائبيًا قادمًا من العدم أو خلف ذلك.

- نعم، هو أنا. تجرّأت على الحضور في الوقت الذي راهنتم فيه على فرض مبادئ النسيان والغياب الدائم في أيّ جهة يشاء القدر أو الطائر التائه الفاقد للخريطة، حتى وإن توجّه إلى خارج المدارات التقليدية المألوفة. هناك حيث لا فلسطين وحيث هي ذاتها سيّدة الأرض، ترفع راية البقاء الجميل الوسيم المُقدِم اللامدبر المقيم أبدًا، الوجهةُ الدافئة القابعة عند سبحات البحر الأبيض المتوسّط.

هو مجرّد طابعٍ صغير أتاح لي الفرصة للتجوّل حيثما أشاء. سألتني: إلى أين؟ قلت لها إلى كلّ الأمكنة التي ستذكّرني برجع صدى الهوى.

هو مجرّد طابعٌ مدموغٌ بنجمةٍ سداسية ترحّب بالوافدين ببرود. أدرك ذلك، كأنّ المطارَ قد طوّرت مرافقه لمثل هذه الساعة الحميمة، أدخل في رحم الوطن من أضيق أبوابه، من معابر تكاد تمنع الهواء عن محيط الرئتين، ورائحة القنابل المسيلة للدمع تندمج مع نسيم البحر القادم من عمق التاريخ. في تلك اللحظة استرجعتُ الهوية، واسترجعتني وعانقتني وهمست لي كزوجة أو عشيقة بعد فراق.  

هذا اسمي مدوّن بلغاتٍ عديدة، ليس حبرًا على ورق، لكنّه امتدادٌ لذاتي التي عرفت بداية التكوين هنا. وها نحن الغارقون في مستنقع الوجود، لسنا حبرًا على ورق الندى، بل كيانات تتلمّس النورَ في وهج العتمةِ المطبق.  

هذه أسماؤنا التي لم تتخلّ عنّا وفضحت انتماءاتنا دون وجل. ننتحلُ وجوهَنا الحقيقية قبل فوات الأوان، قبل أن تُفرض علينا الأحكام العرفية وقوانين منع التجوّل والتغنّي بذواتنا، والتعرّف إلى الحواكير والبيارات وكلّ شيء من حواليّ وطن. كلّه جميل، يتنهّدُ سفرجلة نهضت في أصل الحقل المزروع بالألغام، لنتذكّر ألف مرّةٍ حدودَ القلبِ المنهك بحكم الانتماء والوجود.  

نحن لسنا حبرًا على ورق

 

دندنة في رام الله

تدخل الفندق وحرقة ما تزال مستقرّة في العينين بفعل الغاز المصاحب للوجود الفلسطيني في الأراضي العربية. تجلس في الأريكة وإذا بصوت العود يرتفع وأيدٍ كثيرة تمتدّ مصافحة مرحّبة.

عبقُ الحياة ترفٌ لا يتخلّى عنه المظلوم الفاقد لإرادته بصورة مؤقّتة، تَرَفُ الغناء الصادح من حناجر شرق أوسطية رافديّة عذبة دافئة واعدة متألمة، تحمل في جيناتها إرثًا لا يذوب، لا يندثر، يجرّ وراءَه أوراقَ التاريخ طواعيّة منحنية أمام قامة مدينة ارتفعت بألق لتكتب سفر التكوين.

رام الله ترتدي عباءة داكنة اللون، حدادًا على النهار المفرطِ بحزنه الهادئ الواعد أيضًا. الحزن الفلسطيني يختلف عن كلّ أنماط الحزن الذي عرفته في أنحاء هذي الدنيا. يكفي أن تحدّث أحد الحرفيين القابعين بكرامة فريدة أمام حانوته، يعرض ما لديه من تحفِ التراث لتتيقّن، انظرْ لعينيه وسترى امتدادَ الحضارة وسخط الحاضر ودمعة خفيّة لا تنحدر أمامك بسهولة، يربطها هناك كرسن خيلٍ ينتظر فارسه.

تلك لوحة العاشق، رُسمت بفرشاة ليّنة المعشر.

هذه أنشودة المحبّ القابع عند مرفق الطرق، يحدّق في أصل الجدار المرتفع المنحدر المتفرّع بين شرايين الخوف.

تلك قلعة تخلّت عن ثوبِها، تخلّت عن نداءاتها في فضاءٍ يحفل بتجلّيات الصمم.

حين تدندنُ رام الله تتراجع الأسئلة وتجد أجوبتها عند مفارق الطرق.

حين يشتدّ وقع الألم الجوّانيّ المرتبط بالذاكرة الجينية، يتحوّل الاشتياق لفيضٍ من الحنين، وتشعرُ بغصّة وأخرى وثالثة لأنّك البعيد القريب القادم إثر دواعي مغيب، وعلى حين فجأة يرتفع صوتُ مطربٍ يتقنُ بل يحترفُ تقمّص اللوعةِ والتأوّهات بحكم هويّته الرافديّة.

هو سعدون جابر الذي واكب رحلتي طوال الوقت كأحدِ المكرّمين العرب في زيارتنا الأخيرة لفلسطين خلال شهر كانون الأول 2018.

كنت أنا هناك أيضًا أحد المكرّمين لنيلي جائزة ما في الشتات. لكنّ ما ظفرت به في ظلّ التراب الخصب يفوق الجوائز المتناثرة على مفارق الحياة والقارات العابثة.

ترى المساء قد قدمَ متألّقًا، ثلّة من الأصدقاء الذين لا يملّون البوح بسرائر النفس وطرح أسئلة في محلّها وفي غير موضعها.

تراه قد قدِم مرتديًا بطانة سخية وأوتار العود على وشك أن تشتدّ لتشدو مزيدًا من الحلم من تفاصيل الحلم العذب. ويهمس أحدهم "هنا رام الله" ليردّد آخر "هنا فلسطين".

كيف تمكّنتم أنتم الخاضعون لاحتلالٍ مقيت يتقن حذف الآخر وإزاحته عن طريق الحضارة أن تشيّدوا هذه المدينة الحضارية؟ أن تكذّبوا مقولة الضعف وعدم القدرة على تحقيق الذات! ما تراه ليس مجرّد أبنية وفنادق ومتنزّه ومطاعم بل تجربة لانطلاقة فريدة بعد كلّ محاولات الطمس والتدجين.

نحن لسنا حبرًا على ورق

لقاءٌ مؤجّل يحدث الآن

هل سنلقي على الملأ والحضور بعضًا ممّا تعلّمناه في هدأة الوقت المهدور عند مرافئ البحار الباردة وفي عمق الجبال والمدن المكتظّة؟

توقّفت عن طرح هذا السؤال، والرجل لا يملك في جعبته الكثير من الطرب الملتزم، ويعيد تكرار ذاته، ونحن القادمون للتعرّف إلى الطريق المنسية المؤدّية لقرانا القابعة في قدم التاريخ، نفضّل الصمت كيلا نسلب الضيوف حقّهم باحتكار منابر الإعلام والميكروفون، والرجل على وشك أن يفقد صوته لترديده المتواصل لموّال يصدح به لفلسطين.

هو اللقاء المؤجّل الذي حدث الآن، ثمّ انتقلت الحافلات إلى مدينة خليل الرحمن وبيت لحم وجنين، وعلى جانبي الطرق جدار يتلوّى وحواجز لا تسمح حتّى لذاتها وأذيالها بالعبور. الحضور العربي العراقي الأردني متمّيز، كأنّه يعكس طموحًا مشروعًا للتحرّر من اللحظة السادية المواكبة للسخط والقهر المنتشر برويّة وحنكة في ملامح وتفاصيل المنظر. ونحن نسافر بحذر، متمنّين أن تدوم هذه اللحظات إلى ما شاء الله وما بعد ذلك أيضًا.

كنتُ أعتقد أنّني أزور الوطن، هذا جزءٌ من الحقيقة، لكنّ الواقع أكّد لي أنّ الوطن هو الذي تملّكنا مشيرًا إلينا بالبيان، هامسًا بلطفٍ كيلا نفزع "أين أنتم؟ أين كنتم؟ تعالوا بحقّ الغياب!".

يا رام الله، لقد اكتفيت ولي وعدٌ بزيارة قريبة، لكنّ هناك قرية لم تكفّ عن مناداتي منذ أن وطأت قدماي تراب فلسطين. وأغادر إلى هناك حيث مسقط رأسي، ورغبة كامنة تتملكّني لأن أبقى. أليس الأجدر بي أن أكون طريدًا في وطني بدلا من رحابة الشتات؟ هذه معضلة ستبقى تلاحقنا ما حيينا، تقلّ وطأتها مع ظهور الأجيال الجديدة التي تحاول تحليل هذه المعادلة بطريقتها الخاصّة ومعرفة كافّة أسباب ومسبّبات الفجيعة.

لقاءٌ مؤجّل يحدث الآن، دون تلكّؤ أو تأخير أو مماطلة. بكلّ أريحيته وقذارة حضور الغاز المسيّل للدمع والرصاص المطاطي والطرق الملتوية المؤدّية إلى مكان ما خلف التلال والجبال. غابات الزيتون مقفرة، من يجرؤ على الاقتراب منها؟ من يجرؤ على مباركتها الآن هي التي باركت كلّ تقلّبات الطبيعة منذ البدء.

نحن لسنا حبرًا على ورق

سيّدة الأرض تسطرُ تاريخًا

الدكتور كمال الحسيني، العزيز الرجل الباسم دومًا. لقد أقدمت أنتَ على تسييج حديقة، زرعت فيها زهورًا وشتائل زيتون وتين ورمّان. حديقةٌ تحتاجُ لعنايةٍ فائقةٍ ومحبّةٍ وانفتاح، تحتاج لأن تبوح لها بكلمات شاعرية وجدانية بين الحين والآخر. المؤسسة التي تشرف عليها، تنقل كذلك رسالة محمود درويش الشاعر الإنسان الفلسطيني الخالد في الذاكرة، إذ يردّد بصوته المخمليّ وقلمه الأنيق: "سيّدة الأرض، أم البدايات أم النهايات". هذه المؤسسة تجتذب كمغناطيس متعاطفين ومبدعين ليحضروا ويدلوا بدلوهم في ساحات الوطن، يأتون من كلّ صوب وجهة.

قررت أنتَ يا صديقي أن تخوض هذه التجربة الصعبة لتتموضع أنتَ وعائلتك ومساعديك على المحكّ طوال الوقت، تمرّ النتائج الإيجابية على عجل وتسجّل الأخطاء التي قد ترتكبونها، بل تُركنُ تحت المجهر مطوّلا. الهدف الذي رسمته جميل وواعد، لذا حضرنا مندفعين بفعل الحبّ والانتماء التاريخي، لنخوض تجربة تختلف عن كلّ ما عايشناه طوال الحياة. أدرك كلّ كلمة أخطّها هنا. أعرف أنّ هناك أخطاء تراكمت لأسباب متعلّقة بالكمّ الكبير من المدعوين الذين حضروا في توقيت واحدٍ، وكان أجدى لو تروّيت قليلا وفصلت ما بين الدعوات على فتراتٍ متباعدة لينال كلّ مدعوّ حقّه وليقدّم بالتالي واجبه تجاه الوطن.

أرفض أساليب التربّص والتشكيك والطعن من الخلف والأمام أيضًا. وقد تعرّضت مؤسسة سيّدة الأرض مؤخّرًا لحملة إعلامية مضادّة قويّة لتكريمها للفنانة المصرية إلهام شاهين. وكُتب الكثير في هذا السياق، تلا ذلك تكريم الفنان الملتزم محمد صبحي الذي لم يحظ بتغطية إعلامية كبيرة للإبقاء على التحريض المرتبط بتكريم إلهام شاهين ومنحها لقب "سفيرة سيّدة الأرض". لكن بعيدًا عن التبسيط والسذاجة، أريد التذكير بالدعوات التي توجّهها إسرائيل لنجوم الفنّ والغناء وحتّى لنجوم كرة القدم والسينما وغيرهم من الأعلام الاجتماعية، بهدف تسليط الأضواء على الواقع الإسرائيلي وتقديمه كحالة ديمقراطية متطورة.

مادونا Madonna أكبر مثال على ذلك، وأدّى الاهتمام بشخصها لتبنّيها حملات داعمة للكيان الصهيوني في كلّ محفل ومن على المنابر العالمية. لذا فإنّ التواصل مع أعلام الفنّ والأدب والثقافة ضروريّ للغاية للإبقاء على الحضور الفلسطيني في الذاكرة العربية والعالمية أيضًا، وهي مناسبة للتفكير جدّيًا بدعوة فنانين ومفكّرين داعمين للقضية الفلسطينية والأسماء كثيرة أهمّها النجم السينمائي ميل غيبسون Mel Gibson، روجيه غارودي Roger Garaudy، كين ليفنغستون Ken Livingstone، نورمان فنكلستين Norman Finkelstein، وهناك شخصيات عديدة في أوروبا الشرقية تستحقّ التكريم أيضًا.    

نحن لسنا حبرًا على ورق، ولن نكون، على الرغم من كلّ محاولات الصحن والتشريد وسلب الهوية والملاحقة والطرد والسجن والقمع. على الرغم من الصفقات المراهقة التي تنوي القضاء على القضية بصورة نهائية، وإغلاق ملفات مصيرية كقضية اللاجئين وحقّ العودة والقدس والأراضي المحتلة والدولة التي رسمت أطرها دون أن تتمكّن بعد من فرض حضورها وهيبتها ككيان مستقل.

نحن لسنا حبرًا على ورق.