خلال السنوات السابقة عن ثورة 1917، تم التطرق بحدة داخل حزب العمال الاشتراكي الديمقراطي الروسي لإشكالية طبيعة مستقبل الثورة الروسية، وانصبت الآراء حول الدور المطلوب من الطبقة العاملة القيام به. هكذا شكلت نظرية ''الثورة الدائمة''، التي أرسى دعائمها ليون تروتسكي منذ سنة 1924؛ حدسا ذكيا للسياق الفعلي الذي سيجري في روسيا، أولا إبان ثورة 1905، ثم ثورة 1917. منذئذ، مثلت هذه النظرية إحدى المرتكزات الجوهرية للماركسية.
نظرية المراحل:
يسمح لنا الدرس العام لتاريخ أغلب البلدان الرأسمالية المصنعة بتقسيم تطورها إلى عدد معين من الحقب التاريخية المتعاقبة. لقد اتخذت الطبقة الرأسمالية شكلا تدريجيا، في ظل النظام الفيودالي، غاية مرحلة لا يمكنها أبدا التطور دون تقويض النظام الفيودالي نفسه. هذا ما سيحدد السلسلة الطويلة للثورات البورجوازية التي عرفتها أوروبا بين القرنين السابع عشر والتاسع عشر.
استجابت هذه الثورات للحاجة إلى ''تحرير" اليد العاملة القروية من العبودية قصد جعلها رهن إشارة الطبقة الرأسمالية، ثم خلق دول وأسواق وطنية، خاضعة لقوانين تلائم مصالح الطبقة الرأسمالية، بدل اقتصاديات محلية ومتشظية تعود إلى النظام القديم، وكذا نقود ولهجات مشتركة. إنها المهام الأساسية للثورات البورجوازية التي وقعت في بريطانيا العظمى ما بين سنوات (1642-1651)، وكذا أوروبا، خلال بداية الثورة الفرنسية (1789) ونهاية القرن التاسع عشر.
مع بداية القرن العشرين، اعتبر تقريبا أغلب مسؤولي الأممية الاشتراكية، ضرورة اقتفاء روسيا - وبشكل عام، البلدان التي تصنعت متأخرا- خطى تطور يماثل مسار الدول الأوروبية، على متن قطار متأخر. لقد اعتقدوا بأن روسيا تتجه نحو ثورة بورجوازية "كلاسيكية''، ستنقل السلطة إلى البورجوازية. حسب هذه الخطة، لا يمكن للطبقة العمالية الروسية تصور إمساكها بزمام السلطة، إلا بعد عقود متأخرة، حينما تتطور كليا علاقات الإنتاج الرأسمالي وكذلك الديمقراطية البورجوازية.
موقف تروتسكي:
استبعد تروتسكي الشاب وجهة النظر هاته، منطلقا من تحليل العلاقات بين الطبقات الاجتماعية، ودفاعه عن أطروحة تطور روسيا بكيفية خاصة، وليس بالضرورة امتثالها لخطة الطريق الكلاسيكية التي مرت منها بريطانيا العظمى أو فرنسا. يمنع دور الإمبريالية دولة مثل روسيا كي تتابع، خطوة بخطوة، التطور الذي شهدته أوروبا الغربية. بالفعل، خلال بحثها عن أسواق جديدة، تنتقل رأسمالية البلدان الأكثر تقدما نحو البلدان الأقل تطورا، مثل روسيا، هكذا، تغير بعمق البنية الطبقية لتلك المجتمعات.
بهذا الصدد، كتب تروتسكي: "تميز مسار الثورة الروسية قبل كل شيء بتأخره، وهذا التأخر التاريخي لا يعني رغم ذلك، مجرد تكرار لتطور البلدان المتقدمة، بعد انقضاء مائة سنة أو أكثر، لكنه أحدث تشكّلا اجتماعيا جديدا على الوجه الأكمل، "توفيقيا"، تتموضع في إطاره آخر إنجازات التقنية والبنية الرأسماليتين ضمن سياق العلاقات المجتمعية للبربرية الفيودالية وما قبل الفيودالية، فتحولها وتطوعها، ثم تبلور علاقة جديدة بين الطبقات، وتحدث نفس الحصيلة على مستوى الأفكار، تحديدا بسبب تأخرها التاريخي، تجد روسيا نفسها البلد الأوروبي الوحيد، الذي شهد تطورا كبيرا فيما يتعلق بالماركسية كعقيدة، وحزبها الاشتراكي - الديمقراطي، قبل الثورة البورجوازية. ومن الطبيعي أنه في روسيا أيضا اتسمت العلاقات بين النضال من أجل الديمقراطية والاشتراكية بالتحضير النظري الأكثر عمقا".
وردت إلى روسيا، أشكال الإنتاج الأكثر حداثة – معامل كبيرة وتكنولوجيات صناعية إلخ- من الخارج بواسطة الرأسمالية الأجنبية ثم أضيفت إلى أشكال الإنتاج ما قبل الرأسمالية. تبرز طبقة رأسمالية حديثة وأجراء إلى جانب العلاقات الاجتماعية البدائية والفيودالية، كما الشأن في البلدان المصنعة لأوروبا الغربية. مع ذلك، كانت البورجوازية أضعف بكثير كي تدعي القيام بدور مستقل، إنها تخشى من الثورة التي تستشعر قدومها نتيجة الذعر الذي أحدثته ثورة 1905، بالتالي الارتماء في أحضان النظام القيصري، أملا في تدارك إمكانية حدوث ثورة جديدة. كان على الرأسماليين الروس مواجهة انبثاق الحركة العمالية ليس بعد إتمام الثورة البورجوازية، لكن قبلها. بينما استغرق الزمان قرنين في بريطانيا العظمى، بين فترة الثورة البورجوازية ثم احتمال وقوع ثورة اشتراكية، عرف الوضع في روسيا تداخلا معقدا بين اللحظتين.
شكلت نظرية الثورة الدائمة، سعيا قصد توقع، تطور الثورة الروسية ضمن خطوطها الكبرى. حتى مع إقرارنا بأن الوظائف الثورية المطروحة في روسيا، مرتبطة بالثورة البرجوازية؛ فقد كانت الأخيرة ضعيفة جدا حتى تتحمل أعباء ذلك. بالتالي، لا توجد سوى طبقة اجتماعية واحدة، في مقدورها حين استيلائها على السلطة، إلغاء بقايا النظام الفيودالي وإرجاع الأرض إلى الفلاحين، ثم تحرير البلد من الإمبريالية وإنهاء الاضطهاد القومي: إنها طبقة الأجراء الحضرية، في تحالف مع طبقة الفلاحين الفقيرة.
بمجرد وصول الأجراء إلى السلطة، يؤكد تروتسكي، فلن يظلوا ضمن نطاق الرأسمالية، بل سيتخذون مقاييس ذات طابع اشتراكي، مثل نزع ملكية رؤوس الأموال الأجنبية والوطنية، فضلا عن ذلك، لا يمكن للسلطة الجديدة إيجاد حلول للمشاكل التي تجابهها، في إطار نطاق البلد الواحد. وينبغي بالضرورة للثورة التوسع خارج الحدود الوطنية ولا سيما نحو البلدان الأكثر تصنيعا. تبدأ الثورة داخل بلد واحد، لكن يستحيل بالنسبة إليها النجاح، إلا إذا صارت عالمية، من هنا"استمرارية'' الثورة.
- موقف لينين:
كما الشأن مع تروتسكي، ألح لينين على خاصية البورجوازية الروسية، المناهضة للثورة. بينما برر المناشفة – المكون الإصلاحي لحزب العمال الديمقراطي الاشتراكي الروسي – دعمهم للبرجوازية الليبرالية من خلال "نظرية المراحل". مادامت الثورة القادمة تعتبر ذات طابع بورجوازي، يلزم حسب تصورهم ،أن يشرف عليها الرأسماليون الليبراليون. فالاشتراكية غير مطروحة آنيا. ويلزم الطبقة العاملة أن تقبل تطويع مطالبها وفق مصالح البرجوازية الليبرالية، لذلك فالنضال من أجل الاشتراكية، يؤكد المناشفة، ولا يمكنه سوى إثارة الرعب لدى الرأسماليين والدفع بهم نحو معسكر الثورة المضادة.
يستبعد لينين وتروتسكي قطعا هذا التحليل، كما يرفضان إضعاف برنامج الحزب العمالي، باسم تحالف مع البرجوازية الليبرالية. مع ذلك، اعتقد لينين، غاية 1917، بعدم إمكانية وصول الحكومة العمالية في روسيا إلى السلطة دون انتصار أولي للعمال في بلد أو بلدان عديدة لأوروبا الغربية. بيد أن أحداث 1917 غيرت أفكاره بخصوص هذه الإشكالية وارتباطه بنظرية الثورة الدائمة، ووجد تعبيره مع أفكاره الشهيرة المعروفة بـ: أطروحات أبريل، التي كتبت في خضم نيران ثورة 1917، بحيث وجه السعي نحو استيلاء الطبقة العاملة على السلطة، انطلاقا من شعار مركزي: "تعود كل السلطة إلى السوفيات!''.
السوفيات، التي استحوذ البلاشفة على أغلبية مقاعدها، شهر سبتمبر 1917 ثم بلغوا السلطة خلال الشهر الموالي. هكذا:
-ألغت الدولة السوفياتية كل صفات وامتيازات الطبقة الأرستقراطية.
- نزعت ملكية كبار ملاك الأراضي وأعادتها إلى الفلاحين.
- أنهت مسألة اضطهاد الأقليات القومية.
- أضفت الطابع الاشتراكي على الصناعة، بأن وضعتها تحت التحكم المباشر للعمال.
-هزمت المقاومة المسلحة الداخلية والإمبريالية، التي سعت للحفاظ على النظام الملكي في روسيا.
أعلن النظام الجديد عن النهاية الفورية للحرب العالمية دون ضمّ الأراضي، أيضا كشف عن الاتفاقيات السرية الموقعة بين النظام القديم وحلفائه، كي تكون فعلية مجازفة هؤلاء بحرب إمبريالية أكثر وضوحا لدى عمال العالم قاطبة.
في نفس الوقت، لم يتوهم لينين وتروتسكي بتاتا بخصوص إمكانية بناء الاشتراكية داخل بلد متخلف ومعزول، لذلك أسرعا نحو مخاطبة عمال مختلف البلدان حتى يستلهموا نموذج العمال الروس ويسقطوا الرأسمالية تباعا في بلدانهم. وأدرك مسؤولو الحكومة الثورية أنه بدون توسع للثورة، لن تستطيع الديمقراطية الروسية الصمود. سنة 1919، تأسست الأممية الثالثة، وجاء اسمها الجديد بحمولة دالة: ''الأممية الشيوعية، حزب الثورة العالمية".
- بزوغ الستالينية:
أخذت الأحداث اللاحقة، سبيلا يعاكس وجاهة المنظور الأممي كما تصوره لينين وتروتسكي، وفشل الثورة في أوروبا، وضع خاتمة لمصير سلطة الطبقة العمالية في روسيا؛ فبعد إخفاقات الثورة الألمانية (1918-1923) و والثورة الصينية (1924-1927)، ضمن سياق معطيات أخرى، ستؤدي عزلة الثورة الروسية إلى إنهاك القوى المجتمعية الحاملة للوائها. حدث تدمير للبلد جراء نتائج الحرب العالمية، والأهلية وكذا حروب التدخل الخارجي والحصار الاقتصادي. وردة الفعل الناجمة عن ذلك ترجمها الارتقاء السياسي لطبقة بيروقراطية في خضم التدمير التدريجي للديمقراطية السوفياتية، نظرية ''الاشتراكية داخل البلد الواحد''، المتبناة من طرف ستالين، شكلت تعبيرا عن المصالح الخاصة لتلك الطبقة، التي لم يكن يهمها أبدا انتصار الاشتراكية في الخارج، بل فقط توطيد وتكريس امتيازاتها وكذا سلطاتها.
المرجع :
Révolution :26 juin 2019.