الأحد  22 كانون الأول 2024

مدينتي، مشاهد لا تلزم أحدا: المقاهي

سعيد بوخليط

2019-08-08 09:31:34 AM
مدينتي، مشاهد لا تلزم أحدا: المقاهي
مقهى - أرشيف

 

صارت المقاهي في مدينتي على امتداد الأثير، وتجاوزت المعدل الممكن استساغته بدرجات غير قابلة للعد. اكتسحت الفضاء أفقيا وعموديا وبلغت الجبال طولا. لا شيء ينبعث من هذا الخارج؛ سوى إنزال مقهى بجوار آخر. مقهى يسابق مقهى، وهكذا دواليك، حتى يوم القيامة. أخيرا، المدينة بمثابة عنوان لا لبس معه عن منظومة العطالة، عطالة وطن برمته يقبع في قاعة الانتظار.

تجري الكراسي على أهوائها، تتكرس منظومة لغة الكراسي، كن كرسيا، مطية كرسي، قائمة كرسي، أو اشربْ محيطات الكون إن استطعت غير هذا بديلا. لقد أخطأ الفلاسفة ملء تعقلهم: الإنسان مجرد كرسي ربما كان حيوانا. الطبيعة عندنا محض ميتافيزيقية لا تكترث بالفراغ ولا يهمها أن ينخرها الفراغ.

زاخرة هي مقاهي مدينتي بالأطياف، لا تسكن إلى نفسها نَفَسا واحدا؛ صباحا ومساء؛ قبل بزوغ خيوط يوم آخر، دون أن ينتهي الليل، هذا الليل الطويل الأمد. يشغلون بغير شفقة كراسي المقاهي ويمددون أرجلهم بأريحية حتى عنان السماء. صخب، هرج، فوضى، عِلاَّت السيكوباتية، هستيريات، بكائيات، إعادة إنتاج بامتياز لمجتمع العطالة المنتعش فقط بفرص الصدفة والقدرية حسب شعار: ''كُلاّ  وْزْطّو وْمَاجابْ ليه شْطّاطّو أو شطارتو !''.

رؤوس وقد أفرغت نتيجة المكائد الدؤوبة للأجهزة الأيديولوجية، تفرغت كي تلاحق حكايات الضحالة. الأذن ممددة بحجم قمة إيفرست، تحصي أنفاس ذرات الذبذبات الهامسة؛ فالجميع يتلصص على الجميع. ثم يجتر الجميع بؤس يومياته، ملقيا بكل اللوم على آخر هلامي كأنه يعيش في كوكب آخر. يصب "حريرته" ويسقط جريرته، على هذا الجميع الوهمي. يحاولون إيهام ذواتهم بالبراءة، براءة الذئب من دم يوسف، مع أنه شحم ولحم وبطن وأحشاء وأجهزة تناسلية… : بالتأكيد جميعنا مذنب. الأعين مُشَرَّعة،  تسرنم نائمة، تنام مستيقظة من فرط سعيها كي تتربص بلحظة التحول إلى ذئاب، ينهش بعضها البعض؛ فالمحظوظ ابن المحظوظة؛ حسب منظومة المقاهي، من سينجح في أن يصبح ذئبا لا يشق له غبار.  

كل الحداثة جاثمة على طاولات وكراسي المقهى: سيارات مصطفة، هواتف، حواسيب، أجهزة رقمية، لوغوس، أرقام، أتمتات، شفرات، علامات، إشارات... نعم مختلف ذلك، إلا الحداثة ذاتها، مربط الفرس. يا إلهي أين الحداثة قلبا وقالبا، شكلا ومضمونا، سطحا وجوهرا؟ الزمان معطل تماما، المكان مختنق بالتفاهة، والعمق مجرد إعادة إفراز للضحالة.

هكذا مقومات الحداثة في بعدها الحقيقي، غير زيف فضاء الكراسي الجامدة: الزمان أفق عقلاني والمكان أنسنة للإنسان والعمق إطارهما الخلاق. طبعا، في مجتمعات الحداثة الحقة لا وجود أصلا للكراسي، ولا مكان بالمطلق لأشخاص/الكراسي ما دامت الطبيعة هناك حقا فيزيائية تخشى الفراغ، ولا قانون يسمو على قانون البيولوجيا. العمل وحده؛ قيمة القيم ومصدر المصادر.

بالتأكيد، ليس أي عمل، بل المبدع البناء للفرد والجماعة يصب في المشروع الفردي والمجتمعي، تتقاسمه الدولة والفرد ثم ينتهي عندهما معا. تقاس الدقيقة بالزمان الكوني المنخرط في اللانهائي. يسير قطار التاريخ بسرعة منطق الحركة الفعالة. بالتالي، لا يمكنه التوقف كي ينتظر المتخلفين. ذاك شأنهم! باتت كائنات خارج الزمان الإنساني؛ فليغمرها التحلّل ثم لتنقرض.

في مقاهي مجتمعات كراسي المقاهي، مع انتفاء عمق حداثة الإنسان العميق؛ ترنو مختلف الحقائق صوب نقيضها المعاكس تماما: الإنسان متلاشيا بين طيات المتلاشيات، اللغة محنطة وبليدة، سيادة اللامعنى، القيم الإنسانية الكبرى؛ مجرد ثرثرة لا قيمة لها ولا طائل منها، ثم استهلاكا واستنزافا لما تبقى.

فماذا تبقى حقا غير بكائيات كراسي مقاهي، تعضيدا لمنظومة مقاهي/الكراسي؛ حيث يتوهم الجميع الذي يجلد باستمرار ذاته، معجزة قدوم غودو.