الأحد  22 كانون الأول 2024

حجب المواقع في فلسطين بين قرار المسؤول وختم سلطة القضاء

2019-10-30 08:07:38 PM
حجب المواقع في فلسطين بين قرار المسؤول وختم سلطة القضاء

 

كتب:  الباحث في القانون الدستوري وحقوق الإنسان، محمد الخضر.

تفاجأنا جميعا بحكم مستعجل، يصدر من محكمة مختصة؛ من أجل تطبيق نص في قانون تم الترويج له أنه حاجة مجتمعية ملحة، وكأن صدوره ضرورة لا تحتمل تأخير، وكلنا كان يعلم عدم صحة كل ذلك. هذا الحكم يقضي بإغلاق 59 موقعا بحجة مخالفتها للنظام العام أو تهديدها الأمن القومي، وكلنا يعلم أن هذا تعسف وتضليل يصل حد الافتراء.

 يقوم هذا الحكم على إجراءات واهية مخالفة لأبسط مفاهيم حق الدفاع، ويستند إلى نص رديء مشهود له بعدم الدستورية من الجميع، باستثناء عراب وجوقة من المنتفعين. حيث الغاية من وجود القانون والمحاكم هو منع مصادرة حقوق الناس بجرة قلم أو توقيع المسؤول. ووجدت المحاكم من أجل طرح وتمحيص الحجج والرد عليها، وتطبيق مبادئ العدالة الإجرائية قبل الموضوعية، وفي النهاية تطبيق مبادئ القانون التي تعارفت عليها الأمم الحية المتحضرة.

 لو كنت واحدا من أصحاب هذه المواقع، أو كنت شخصا يؤمن بالتعددية الفكرية، وتحلم أن تعيش في مجتمع ديمقراطي، لا يسوده القمع ولا التعدي ولا التضليل، لو كنت تحلم أن تنام ليلتك ولا تتفاجأ صباحا بقرار مفاجئ، يعيد تصنيفك في قائمة الخطيرين على الأمن أو المهددين للنظام العام، فهل سترضى وتحمد الله على هكذا نعمة من الأمن والنظام؟ وهل ستسلم بأن المسؤول أعرف بما ينفعك وما يضرك؟ لا أحد يبلغك بالتهمة، ولا أحد يعطيك الفرصة للدفاع، ويعتقد من طلب القرار أنه يتخلص من الخطيرين، ويعتقد من قدم القرار أنه يحارب الجريمة، ويعتقد من ختم على القرار أنه يطبق القانون. ويكفي ظلما أنك لا تعرف، وبالتأكيد لا تظن في نفسك أنك خارج على ما يفترض أن يكون القانون، وأنت لست مجرما حتى يصدر بحقك قرار بالإدانة وينفذ بسلطة القانون.

المجتمع هو الخاسر الأكبر في هذه الحالة. خسر الكثير، خسر عندما قبل أن يقرر المسؤول سرا بشأن حقوقه، وخسر عندما قبل أن يضاف إلى قائمة المجتمعات غير الحرة، وخسر عندما قبل أن يضاف الوطن، الذي يسعى إلى تحريره من الظلم، إلى قائمة البلدان التي لا تحترم الحرية والكرامة الإنسانية، ولا تحترم بالتأكيد حرية الرأي والتعبير. في المقابل، لا يستفيد من هذه الحالة غير شخص موهوم، ضيق الأفق، يظن أنه بهذه الطريقة يبني وطنا، يحمي مجتمعا، لكنه يراكم خرابا، يحافظ على قانون لكنه يهدم قيم حقوق الإنسان وما بقي من أمل في دولة مدنية متحضرة.

هذا الحجب، يحجب معه حقوقا مدنية وسياسية، هي أساس كرامة الإنسان وإنسانيته، ويحجب حقوقا اقتصادية وتنموية تسعى الدول إلى المحافظة عليها واستثمارها وتعزيزها. البيئة الديمقراطية التعددية المبنية على سيادة القانون هي البيئة الحاضنة للمشروع الاقتصادي والأمن المجتمعي، والبيئة القمعية الاعتباطية هي بطبيعتها طاردة للمشروع وللإنسان. فلا فرص للاستقرار، ولا فرص للاستثمار، ولا فرص للتنمية، والمراكز القانونية للأشخاص والمؤسسات، وبالنتيجة النشاطات الاقتصادية جميعها، مهددة بقرار قضائي اعتباطي يمليه نظام سري لا يحترم مبدأ الشفافية والعلنية والمواجهة.

بالتأكيد، هذا القرار ينال من حرية الصحافة والتعبير في الصميم، فهو يعيد النقاش إلى المربع الأول، إلى مربع مجتمعات عصور الظلام، ويكون السؤال، هل يستطيع الإنسان قول ما يريد متى ما يريد وبالطريقة التي يريد؟ التقدم التكنولوجي يغير الطبائع والعلاقات بصورة متسارعة، لكن إغلاق مواقع الانترنت حديثا لا يختلف عن إغلاق الصحف أو منع تداولها سابقا، ومنع النشر على المواقع الإلكترونية يماثل منع نشر الكتب. الموقع أو الصحيفة أو الكتاب أو الخبر جميعها وسائل وأدوات للحرية والكرامة الإنسانية، فمن خلالها يعبر الشخص عن رأيه واعتقاده وما يراه صحيحا وما يراه سقيما، ومن خلالها يصل رأيه إلى علم الآخرين. فهذا الحجب يحجب مصلحتين أساسيتين لأي مجتمع، حرية الفرد أو الشخص في قول ما يريد، وحق المجتمع في المعرفة وسماع ما يريد.

ما يلفت النظر في القرار، ليس فقط تعديه على الحريات العامة، وليس فقط غياب إجراءات العدالة من إبلاغ ودفاع ومواجهة، بل إدخاله حقوق البشر وحرياتهم في نظام القوائم، قوائم المنع والعقوبات الجماعية. يُفترض إنسانيا ودستوريا أن تكون العقوبة شخصية، وأن يكون الحكم بمنع الحرية؛ مبني على وقائع وأدلة ومواجهة، فإذا ثبت بنتيجتها أن هذه المادة أو الخبر يسيء إلى حقوق أو حريات أخرى، يمكن بالنتيجة نقاش الجزاء، دون مغالاة، أخذا بالاعتبار أثر الجزاء على الحقوق والحريات والمجتمع الحر الديمقراطي. 

فإذا ظن أحد أن هذا عمل بسيط بالمقارنة مع ما يجري من انتهاكات تصل حد التعذيب وأحيانا القتل خارج إطار القانون، فليعد إلى التاريخ، وهو كفيل بالإنباء عن حجم الدمار الذي يمكن أن ينتج عن الأشياء الصغيرة، فإذا كان النظام القضائي لا يحترم مبدأ المواجهة ولا يعتمد مبدأ شخصية العقوبة، ولا مبدأ سمو الدستور، وفي هذه الحالة كانت الضحية المواقع الإخبارية وحرية الصحافة، ما الذي يمنع مستقبلا أن تكون الضحية أنت، أو أبناءك، أو أقرانك، أو مجتمعك؟ ما الذي يمنع أن يكون المستهدف حقك أنت في الحرية الشخصية والسلامة الجسدية والكرامة الإنسانية؟ وكما هو الحال في قرار الحجب، يبدأ التعدي بقرار المسؤول وينتهي بانتهاك معنون باسم الشعب ومختوم بسلطة القضاء.