الأحد  22 كانون الأول 2024

صورة القدس في أدب محمود درويش/ د. أحمد حرب

من كتاب "القدس هي الكلمة"

2020-03-02 08:16:05 AM
صورة القدس في أدب محمود درويش/ د. أحمد حرب
كتاب: القدس هي الكلمة

الحدث الثقافي- أدب

مدينة القدس، كأي مدينة أخرى، يمكن أن تمثل في الأدب من خلال أي مركب من خاصيات تاريخية وثقافية ومکانية وأسطورية ترتبط بها كمكان إنساني معیش، وما تثيره تلك الخاصيات من انطباعات وأحاسيس وما تعنيه من إيحاءات ودلالات ذهنية تلتحم بوعي الكاتب وتشكل جماليات الصورة للمكان عنده. فموضوع "صورة المدينة في الأدب" موضوع واسع ومعقد من حيث تعددية تلك الخاصيات وطرق تمثيلها، فالمدينة في الأساس حقيقة موضوعية بشرية في المكان والزمان والتي قد "تؤسطر" من خلال نظام تمثيلي متماسك من الإشارات والمعاني والرموز، فهي تزود المادة للأسطورة ولكنها ليست أسطورة في حد ذاتها.

تشكل هذه المقدمة مدخلا نقديا لاستكشاف صورة القدس في أدب محمد درويش. أعتقد أن المكونات الأساسية لصورة القدس في شعر محمود درويش تتشكل من خلال وعي الشاعر المسبق بالقدس الأسطورة وبالقدس المدينة تحت الاحتلال الإسرائيلي. الأسطورة تطغى على المدينة وتصادرها مجازيا كما الاحتلال العسكري يطغى عليها ويصادرها فعليا. وتتأرجح صورة القدس لدى درویش بين قطبي هذه الثنائية المتضادة، حيث نلاحظ أن الشاعر يسعى إلى قلب المعادلة، أي تقديم صورة للمدينة كـ"واقع معيش" من خلال الصورة الأسطورة. والمقصود بالصورة الأسطورة هنا، إلى حد كبير، الصورة التوراتية للقدس (أورشليم) وإلى حد معين في الوعي المضاد. وأستطيع القول، تطبيقا وتمديدا المقولة (آلفرد لانغ) حول المتعة الجمالية في الفن، إن المتعة الجمالية لصورة القدس في فن محمود درویش متجذرة في هذا التأرجح بين مجموعتي التداعيات الثنائية المتضادة والذي ربما يهدف درویش من ورائه إلى تحطيم الصورة في الأسطورة فنيا لإحلالها بصورة أدبية فلسطينية تعكس واقع المدينة. والصورة التي يقدمها درویش للقدس هي صورة للمنفى والاغتراب والإبعاد والتهميش بالنسبة للإنسان الفلسطيني تتماهى بطريقة متعاكسة مع مدينة بابل كصورة للمنفى والاغتراب اليهودي. أعتقد أن القصيدة النثرية المنشورة كتقسیمة من تقاسيم على سورة القدس) في كتاب (يوميات الحزن العادي) تشكل النواة الأولى لصورة القدس لدى درویش فما كتبه الشاعر بعدها من قصائد تتعلق بالقدس ما هو إلا "تجهيز وتسخير" للصورة نفسها، لأستعير تعبیر غاستون باشلار - Gaston Bachelard . يقول درویش: دخلت القدس في المرة الأولى حين كان دمها ساخنا على يد الاحتلال. خرجت من زنزانتي على جبل الكرمل، وذهبت إلى القدس متسللا. وكتبت في يوميات حزني العادي:

أوقفتني جندية صغيرة وسألتني عن قنبلتي وصلاتي.

 اعتذرت وقلت للجندية: أنا لا أحارب، ولا أصلي

قالت الجندية الصغيرة: لماذا جئت إلى القدس إذن ؟

قلت: لأعبر بين القنبلة والصلاة، على ذراعي اليمنى آثار حرب

وعلى ذراعي اليسرى آثار رب، لكنني لا أحارب ولا أصلي. 

قالت الجندية الصغيرة: وماذا تكون؟

قلت: ورقة يانصيب بين القنبلة والصلاة.

قالت: ماذا تفعل بها، ماذا تفعل بك لو ربحت؟

قلت: أشتري لونا لعيني حبيبتي.

 حسبتني الجندية شاعرا، فأخلت سبيلي.

وتساءلت: لماذا جئت إلى القدس إذن؟

تعبر القصيدة عن مشاعر الحزن للشاعر تجاه القدس كصورة لجدلية المنفى والإقصاء التي باتت تمثله؛ فالشاعر على أطراف القدس وينوي الدخول إليها، ولكن الجندية الإسرائيلية توقفه وتهدد بإبعاده، وهو من ناحيته يصر على مكانته فيها. يحاول الدخول خلسة خوفا من أن يلقى القبض عليه، وعندما يلقى القبض عليه، يرى أن عليه أن يؤكد، ولو خلسة، على أحقيته في عيني حبيبته القدس ليشتري لهما لونا فلسطينيا يتماهى مع المشهد الطبيعي.

 يأتي الشاعر إلى المدينة ليعبر بين القنبلة والصلاة، على ذراعه اليمنى آثار حرب، رمز العسكرية الإسرائيلية التي تحتل الجغرافيا وتنفيه من المكان، وعلى ذراعه اليسرى آثار رب، رمز الصورة التوراتية التي تقصيه من التاريخ، أي أن صورة القدس هنا بالنسبة للشاعر هي صورة للمنفى المركب، استحواذ على الجغرافيا واستحواذ على الوعي الثقافي المشكل للصورة. ووفقا لهذه الصورة تبدو القدس إما مدينة المحارب / القاتل (القنبلة) أو مدينة المصلي (الصلاة) لا مكان فيها للعيش الإنساني الفلسطيني الطبيعي. وهي أيضا صورة للزنزانة السجن / المعتقل. يقول لنا الشاعر إنه خرج من زنزانته على جبل الكرمل وجاء إلى القدس متسللا وعلى ذراعيه آثار الحرب والرب، وهذه صورة تستحضر صورة الأسير الفلسطيني المكبل اليدين قبل أن يزج به في معتقل أو زنزانة، ودون شك فإن هذه الصورة، من زاوية أخرى، استحضار لصورة الإنسان الفلسطيني في قصيدة درويش المشهورة "عن إنسان" من ديوان أوراق الزيتون (1964):

وضعوا على فمه السلاسل

ربطوا يديه بصخرة الموتی،

وقالوا: أنت قاتل!

أخذوا طعامه، والملابس، والبيارق

ورموه في زنزانة الموتی

 وقالوا: أنت سارق! 

وبهذا تكون الجندية الإسرائيلية بمثابة حارسة باب السجن الذي هو القدس. وبالتالي فعندما تسمح له بالعبور فإنها تدخله فعليا ومجازيا إلى السجن. يستكمل محمود درويش هذه الصورة للقدس في قصيدته تحت الشبابيك العتيقة (دیوان آخر الليل، ۱۹۹۷). اختلف الناقدان فاروق مواسي وعادل الأسطة على اعتبار هذه القصيدة قصيدة للقدس أم لا. فبينما يعتقد الدكتور مواسي أن هذه القصيدة تصلح لأن تنعت بها عكا أو طبرية، يرى الدكتور الأسطة أنها من عيون قصائد القدس، ليس فقط بحكم الإهداء إلى مدينة القدس وإنما أيضا بحكم العلاقة من خلال النص الموازي ودلالات زمن الكتابة وإحالة النص إلى ما هو خارجه بین قصيدة تحت الشبابيك العتيقة والتقسيمة أوقفتني جندية صغيرة.

 بالإضافة إلى ما ذكره الدكتور الأسطة بخصوص العلاقة بين القطعتين، فإنني أعتقد أنهما مترابطتان بقوة من خلال اعتمال اللحظة الشعرية التي ولدته بغض النظر عن الفاصل الزمني بين ولادتيهما؛ فمن منظور اللحظة الشعر ومن منظور مکان وقوف أنا الشاعر (أو القناع) - يقابلها في فن التصور الفوتوغرافي الزاوية أو موقع الحيز الذي تلتقط منه الصورة - أعتقد أن صورة القدس التي يطورها محمود درويش في قصيدته تحت الشبابيك العتيقة هي استكمال لصورة القدس في التقسيمة المشار إليها ، وكأني بالشاعر قد أراد أن يقدم لنا الصورة بلقطة خارجية في التقسيمة وبلقطة داخلية، في تحت الشبابيك العتيقة. 

في تحت الشبابيك العتيقة المكونة من سبعة مقاطع معنونة على التوالي: الجرح القديم، أغنية حب على الصليب، خارج من الأسطورة، اعتذار، المستحيل، الورد والقاموس، وعود من العاصفة، تقف أنا الشاعر على الشارع في قلب القدس، القدس العتيقة. من خلال الممارسة الأدبية، إن لم يكن من خلال النظرية النقدية يمكن استخلاص ثلاثة مستويات للمكان المفترض لأنا الشاعر أو القناع أو الراوي فيما يمكن أن يسمى قصيدة المدينة أو رواية المدينة: الأعلى، ومستوى الشارع، والأسفل. فإذا كانت النقطة المفترضة من الأعلى (فوق المدينة) فغالبا ما تكون الصورة تأملية، وإذا كانت على مستوى الشارع تكون الصورة مدعاة للعزلة والاغتراب والضياع في متاهات المدينة، أما إذا كانت النقطة المفترضة من الأسفل (تحت الأرض) فغالبا ما يكون التركيز على البعد الميثولوجي السيكولوجي يقف الشاعر في قصيدة تحت الشبابيك العتيقة على الشارع إذ يقول:

واقف تحت الشبابيك،

على الشارع واقف

درجات السلم المهجور لا تعرف خطوي

لا ولا الشباك عارف.

من يد النخلة أصطاد سحابة 

عندما تسقط في حلقي ذبابة

 وعلى أنقاض إنسانيتي 

تعبر الشمس وأقدام العواصف 

واقف تحت الشبابيك العتيقة..

هذه صورة للاغتراب المجد تذكرني بصورة الظلام في رواية قلب الظلام لجوزيف كونراد، ظلام تكاد تمسكه بيديك. 

وتعزز صورة الاغتراب عندما يخاطب الشاعر القدس:

مدينة كل الجروح الصغيرة...

حنيني إليك.. اغتراب

ولقياك.. منفی؛ أدق على كل باب.. أنادي، وأسأل، كيف

تصير النجوم تراب؟ 

ثم يخاطبها وهو خارج من الأسطورة:

وأنا أمشي على مهلي.. وعيني تقرأ الأسماء 

والغيم على كل الحجارة 

وعلى جيدك يا ذات العيون السود

 یا سیفي المذهب

ها أنا أنهض من قاع الأساطير.. وألعب…

 ويتابع:

إنني أحمل مفتاح الأساطير 

وآثار العبيد وأنا أجتاز سردابا من النسيان

والفلفل، والصيف القديم 

في هذه القصيدة يوجد أكثر من إشارة ضمنية تربط صورة القدس بصورة بابل، والمعنى المقصود ربما أن القدس التي دخلها الشاعر مكبل اليدين لا تعدو أكثر من مكان للسجن أو السبي الفلسطيني تماما كما كانت بابل مکانا للسبي اليهودي. فالمقطع الشعري إنني أحمل مفتاح الأساطير وآثار العبيد هو إلى حد كبير صدى للمقطع الشعري في التقسيمة على ذراعي اليمنى آثار رب، وعلى ذراعي اليسرى آثار رب  ولكن بما أن الشاعر الآن في قلب المكان ويعاني من اغتراب قاتل داخل الأسطورة وهو يحمل مفتاحها، فلا بد من الاستنتاج أن آثار العبيد هي إشارة إلى أن الذين تسببوا في معاناته واغترابه وسبيه وجعلوا من لقياه … للقدس منفی؛ وحنينه إليها… اغتراب هم العبيد اليهود الذي سباهم نبوخذ نصر في بابل وبهذا تكون الجندية الاسرائيلية أوقفته وأدخلته في القدس - بابل الفلسطينية - هي من أحفاد أولئك العبيد.

اما الاشارة الضمنية الثانية التي تربط صورة القدس بصورة بابل، فتمكن في التوازي بين موقف أنا الشاعر في بداية القصيدة وحالة الاغتراب التي يعيشها واقف تحت الشبابيك /على الشارع واقف..) وبين حالة النبي إرميا Jeremiah الذي كان ينطق باسم الرب وهو يطوف في شوارع (أورشليم) يلعن بني إسرائيل ویرثي حالتهم وهو يعاين الخراب والاغتراب بعد السبي اليهودي إلى بابل، والذي كان قد تنبأ به كعقاب لبني إسرائيل لآثامهم بحق الرب: ”طوفوا في شوارع أورشليم وانظروا واعرفوا وفتشوا في ساحاتها هل تجدون إنسانا أو يوجد عامل بالعدل طالب الحق فأصفح عنها (سفر إرميا، الإصحاح الخامس). وفي هذا المجال، يجب أن أذكر بما يقوله درويش في إحدى التقاسيم على سورة القدس:

لم يخرج منا إرميا واحد يتجول في شوارعها وفي عيوبنا.. يلعننا ويرثينا

 أي أن الشاعر يتماهي إنسانية مع إرميا ولكن مع تعاكس المواقف تجاه الجهة المسبية ومكان السبي. 

وتعزز صورة القدس لدى درویش کبابل الفلسطينية في قصيدة المزمور الحادي والخمسون بعد المائة عندما يخاطب الشاعر مدينة القدس قائلا:

بابلي أنت. طوبی لمن جاور الليلة الآتية

وأنا فيك أقرب

من بكاء الشبابيك.

يضاف إلى كل ما سبق استحضار محمود درویش صورة الشبابيك العتيقة في تحت الشبابيك العتيقة والشبابيك في المزمور الحادي والخمسون بعد المائة كرمز آخر جامع بين القدس وبابل من حيث تعبیر شخص في المنفى عن ألمه وحنينه ومرارة سبيه. وهذا نوع من التماهي القناعي عند محمود درويش عندما جعل أنا الشاعر تلبس قناع اليهودي المسبي في بابل وتبث أشواقها وهي تنظر نحو القدس عبر الشبابيك: إن نسيتك يا أورشلیم تنسى يميني يلتصق لساني بحنكي إن لم أذكرك إن لم أفضل أورشليم على أعظم فرحي. (المزمور المائة والسابع والثلاثون). فالقدس تثير عواطف الشاعر وحنينه وهو في شبابيك سبيه في قلبها.

 ويبلغ التماهي القناعي القائم على الاستبدال التضادي ما بين القدس وبابل عند محمود درويش أوجه في المزمور ۱۲ (مزامير) عندما يقول:

وتغني القدس:

يا أطفال بابل

یا مواليد السلاسل

ستعودون إلى القدس قريبا 

وقريبا تكبرون 

وقريبا تحصدون القمح من ذاكرة الماضي 

قريبا يصبح الدمع سنابل. 

آه، يا أطفال بابل

ستعودون إلى القدس قريبا

وقريبا تكبرون.

 ومن خلال تناص توراتي آخر يرد في مديح الظل العالي يصور درویش القدس، ليس فقط كمدينة السبي الفلسطيني، بل كمجزر، (أو مسلخ) الشعب الفلسطيني:

أنادي أشعيا: أخرج من الكتب القديمة مثلما خرجوا، أزقة أورشلیم تعلق اللحم الفلسطيني فوق مطالع العهد القديم وتدعي أن الضحية لم تغير جلدها.

نشر محمود درویش تقاسيم على سورة القدس، ومن ضمنها التقسيمة "أوقفتني جندية صغيرة"، في كتابه "يوميات الحزن العادي" (الطبعة الأولى)، في العام 1973. ويمكن أن نؤرخ للزيارة الأولى التي تصفها التقسيمة بعدة أسابيع بعد سقوط القدس تحت الاحتلال الإسرائيلي. اللافت للنظر أن محمود درویش أعاد نشر هذه التقسيمة تحت عنوان ضوء العتمة والحجر في باب أقواس، في مجلة الكرمل (العدد 54-1998) مع حوارية أخرى تصف زيارة ثانية للقدس. ويتضح من الحوارية أن محمود درویش تستر ثانية إلى القدس بعد ثلاثين عاما من الزيارة الأولى في الزيارة الأولى كان دم القدس ساخنا على يد الاحتلال، وفي الزيارة الثانية كان دمها ساخنا على يد عملية السلام. 

في الزيارة الأولى أوقفته جندية صغيرة وسألته عن قنبلته وصلاته، وفي الزيارة الثانية استوقفه صحافي أجنبي وحاوره عن جمالية المكان وقداسته:

كان الزيتون هو الإيقاع البصري لتسلسل المشهد. 

وكانت الأساطير تعلو وتهبط في الخريف الكنعاني وتجرفنا

 في كلام قديم، لولا تدخل حمار أبيض وقف بيننا بحكمة وحياد.

 قلت: هذا هو حكيم المكان، القادر على مراوغة الميثولوجيا وتحديد موقع الحاجز بين الواقعي والأسطوري. إذ لا بد لكل أسطورة من حمار معاصر يضفي على زمنها لحظة راهنة. 

قال: كيف؟

قلت: بتجريدها من مهابتها الكلاسيكية، وحبكتها النهائية 

يخفف عنا عبء مصائر تراجيدية قد تخضع للتعديل.

وهكذا تحمينا قوة السخرية، في حكمة الحمار، من سخرية القوة... ومن طغيان الأدب المكتوب. 

قال: ماذا تعني؟

 قلت: أعني أنني في حاجة إلى حمار ثقافي فيّ، لأتحرر من عبادة التاريخ وصواب طريقه، ولأنهم عملية السلام هذه، الخالية من السلام، بشكل أفضل. 

قال: وما العلاقة بين هذا السلام وبين الحمار اللامبالي؟

 قلت: لا يفهم هذا السلام إلا حمار مجرب، فهذه اللامبالاة الظاهرة هي إحدى التجليات لثقافة الصبر، ولا تنس أن الحمار لم يكن أبدا کائنا متطرفا أو محاربة. لم يشارك في الحروب القديمة كأولاد عمه البغال والخيول والجمال والفيلة والكلاب. ولذلك، كان دائما أحد مظاهر الحياة العادية والطبيعية. 

إذا ما أجرينا مقارنة بين الحواريتين من باب منظور صورة القدس عند محمود درویش، فإننا نلاحظ أن الشاعر يحاول في الحوارية الأولى أن يرسم صورة للمدينة في الواقع من خلال تفكيك صورة القدس في الأسطورة التوراتية. في الحوارية الثانية - أقترح أن تعنون الحمار الأبيض - والتي أعتقد أنها موجهة الجمهور الشعب الفلسطيني، يحذر من أسطرة مضادة للقدس، المدينة، الوطن في الوعي والخطاب الفلسطيني، لأن الصراع على القدس، كما يقول درویش لاحق في المقطوعة نفسها، لا يحدد بالصراع على ميثولوجيات وأديان ورموز.

فالصراع على القدس هو صراع على معنى الوجود الوطني الفلسطيني وعلى روح هذا الوجود. وهو أيضا صراع على المعنى الإنساني الشامل لمدينة المحبة والسلام. القدس، الآن حاضر وواقع وشعب. القدس حقيقة تاريخية مأهولة لا بكلام أنبيائها فحسب، بل بأبنائها الأحياء المحتاجين إلى خبز المسيح قبل نبیذه، المحتاجين إلى تطوير البنية التحتية ليسندوا إليها حافة السماء...) ويستطرد درویش قائلا:

القدس ليست فكرة فقط، بل هي أيضا مجتمع عربي يتعرض لتدمير البنى والهوية تدميرا منهجيا. لذلك قد تلحق لغتنا السياسية الأذى بالقدس - الوطن، إذا ما اكتفت هذه اللغة بالبحث عن حقنا في الصلاة والحج، ورجحت البعد الميتافيزيقي على البعد الوطني والسياسي والاجتماعي. العنوان الجديد، ضوء العتمة والحجر الذي اختاره درویش للقطعتين يبرز مرة أخرى التناقض بين صورة القدس في الأسطورة الصهيونية وبين صورة القدس، المدينة - الوطن في الواقع، ويشير، من خلال التوازي المتعاكس الوضع القطعتين، إلى عدم رغبة الشاعر في أسطرة مقابلة للمدينة في الوعي الفلسطيني.

ضوء العتمة والحجر (لاحظ الإرداف الخلفي في ضوء العتمة) هو الضوء الطبيعي للقدس وهو يكفي لتجربة التجلتي التي يشهدها الشاعر وهو داخل السور القديم (في القدس):

كيف يختلف الرواة على الضوء في حجر؟

أمن حجر شحيح الضوء تندلع الحروب؟

 أسير في نومي. أحملق في منامي. لا 

أرى أحدا ورائي. لا أرى أحدا أمامي. 

كل هذا الضوء لي. أمشي. أخف. أطير

ثم أصير غيري في التجلي.

والصورة التي يقدمها درویش هنا (ضوء العتمة والحجر) هي محاكاة ساخرة نقيضة لصورة القدس (أورشليم) في الوعي الثقافي الصهيوني والمرتبطة بالنور أو اللمعان الحاد الذي يخطف الأبصار، والتي تجسدت في أغنية Shuli Nathan أورشلیم من ذهب من تأليف الشاعرة الإسرائيلية Naomi Schemer. كانت هذه الأغنية قد فازت في مسابقة الأغنية الإسرائيلية حول ( أورشلیم) بتكليف من تيدي كوليك، رئيس البلدية آنذاك، وأدتها المغنية في الخامس عشر من آيار في العام ۱۹۹۷ (يوم الاستقلال بالنسبة لإسرائيل ويوم النكبة بالنسبة لفلسطين):

أورشلیم من ذهب، من نحاس ومن نور 

وأنا وتر الكمان لكل أغانيها …

 ومن كهوفها من بين الصخور تشع ألف شمس..

واحتلت هذه الأغنية بعد إطلاقها في يوم النكبة الفلسطينية الوجدان الشعبي اليهودي وغدت في شهرتها وانتشارها بمثابة نشيد وطني. بعد أقل من أربعة أسابيع على إطلاقها سقطت القدس الشرقية تحت الاحتلال الإسرائيلي. (۲۷)

و استنتاجية عن طريق النص الموازي وإحالة النص إلى ما هو خارجه يمكن الاستدلال أن الأغنية الإسرائيلية أورشلیم من ذهب كانت حاضرة بقوة في وعي محمود درويش أثناء زيارته الأولى عندما أوقفته الجندية الصغيرة، كما كانت حاضرة بقوة أثناء زيارته الثانية بعد ثلاثين سنة. وعليه فإن العلاقة بين مقطوعة جندية الصغيرة وبين قصيدة تحت الشبابيك العتيقة، من جهة، تتشابه مع العلاقة بين مقطوعة الحمار الأبيض وقصيدة في القدس، من جهة أخرى، بينما ترتبط جميع المكونات بخصوصية اللحظة الشعرية. ومن هنا اختتم بالقول إن قصيدة محمود درویش في القدس، التي يشهد فيها الشاعر أسمى حالات التجلي في ضوء العتمة والحجر، هي المستند الموضوعي الذي تتكئ عليه وتتشابك فيه جميع عناصر الصورة لتصل إلى ذروتها الدرامية الكاشفة في نهاية القصيدة عندما يقول:

في القدس، أعني داخل السور القديم ،...

لا أمشي، أطير، أصير غيري في

االتجلی. لا مكان ولا زمان. فمن أنا ؟

أنا لا أنا في حضرة المعراج. لكني

أفكر: وحده، كان النبي محمد

يتكلم العربية الفصحى. وماذا بعد ؟ 

وما یکاد الشاعر يصحو من لحظة التجلي هذه حتى يسمع صوتا يعيده إلى واقع المدينة:

ماذا بعد؟ صاحت فجأة جندية: هو أنت ثانية؟ ألم أقتلك؟

قلت: قتلتني... ونسيت، مثلك، أن أموت.