الأحد  22 كانون الأول 2024

مدخل الصحة: الحَجْر، الحِجْر، التَّحَجُّر، الحَجَر/ بقلم : سعيد بوخليط

2020-06-13 09:43:05 AM
مدخل الصحة:  الحَجْر، الحِجْر، التَّحَجُّر، الحَجَر/ بقلم : سعيد بوخليط
سعيد بوخليط

الحدث الثقافي                               

 أربع كلمات متداخلة علائقيا؛ بحيث يتغير المعنى، في حالة التغافل عن مراعاة حركات تشكيل الكلمة. هكذا، انساب باستفاضة وثراء، خلال الشهور الأخيرة، نتيجة ظرفية الوباء، مفهوم العزل الصحي أو الحَجْر. ربما اتسم اللفظ الأول، بليونة وقعه على الآذان، لاسيما أنه يستحضر ضمنيا دون أدنى تفكير مفهوم العزلة. والأخيرة، تبقى كنه الوجود وحقيقته الأولى والأخيرة، لذلك تظل حمولتها الشعرية نافذة مهما تغيرت سياقات التداول.

بالتأكيد، العزل ليس بعزلة، لا خلاف حسب رأيي، فالمفهوم الأول ينطوي على فعل جبري إلزامي، يعمل على حَجْر الحرية الإنسانية، بحيث يلزمك بمقتضيات موضوعية ضمن سياق تماس حريتك بحرية الغير، ينبغي الامتثال لها بسلطة القانون، راغبا أم متمنعا، كما الشأن زمن الأوبئة لاسيما الفتاكة ذات العدوى السريعة.  

أما مفهوم الحَجْر، يعني ربما منع التصرف بإرادة، والذي يدخل ضمن ممكنات دلالات العزل، بحيث ينطوي في نهاية المطاف على قصور جلي يمس الإرادة الإنسانية، فإن وقعه على المسامع، تطبعه غِلظة جلية وخشونة لا غبار عليها، ما دام تداعيه الإيقاعي يحيل من الوهلة الأولى، على لا حياة الحَجَر وموته الأبدي، فالحَجَر أصم أبكم أعمى؛ يبقى قابعا عند مكانه زمنا طويل حتى تغيره بنيويا عوامل التعرية، وقد اخترقته في انسيابية ليونة الماء.

لذلك جاءت المقولة المأثورة؛ حين السأم الوجودي: "تمنيت لو كنتُ حجرا". أي لا كائنا حيا، بحيث لا أفكر و لا أحس ولا أتخيل ولا ترتعد الألياف العصبية التي تطوي مجموع جسدي لأي وخز، ولا لمس، لا أرى ما أريد، ولا أريد ما أرى، بل لا أريد أساسا أي شيء. المهم جلمود من النوع الشائع جدا، الضاربة جذوره في ملايين السنين الجيولوجية.  

تقول مقاطع من قصيدة لمحمود درويش:

          لا أحن إلى أي شيء فلا أمس يمضى، ولا الغد يأتي

           ولا حاضري يتقدم أو يتراجع، لا شيء يحدث لي!

          ليتني حَجَر- قلت- ياليتني حَجَر ما  ليصقلني الماء أخضر، أصفر…

إذن، ربما لفظة العزل، وليس العزلة أو الاعتزال؛ أخف وطأة من رنة الحَجَر، بينما القصد واحد. إجراء وقائي، أدركه العقل الطبي، يتوخى عبره الإبقاء على ممكنات الحق في تقاسم الفضاء العام، بين الأنا والآخر، الذي تنظمه سلفا مؤسسات الدولة بمختلف روافدها.

بالطبع يزداد اتساعا أو تقلصا، رحابة أو ضيقا، سعادة أو شقاء، حسب النزوع المتحمس لهذا الفضاء، وفق تقسيم علماء السياسة، جهة دولة الرفاه والرعاية المجتمعية أو على العكس، صوب حضن خصمها اللدود المتمثل في الدولة الشُّرطي أو الدَّركي، والتي استعادت زمام المبادرة، خلال العقدين الأخيرين، على امتداد بقاع العالم، بما في ذلك أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية، مع استفحال جشع الليبرالية المتوحشة.

لذلك أصبحنا لا نستغرب كما السابق، ونحن نشاهد حاليا في شوارع الغرب ركل الأدبار بعنف؛ ومأسسة يومية لسلوك الهمجية، بعدما كانت سلوكات من هذا القبيل  مقتصرة على فضاءات الديكتاتوريات أكانت عسكرية أم مدنية. هكذا تَمَّ الحَجْر على العالم، من طرف أقلية أوليغارشية، تأتي على الأخضر واليابس، فصار عالمنا المفترض إنسانيا، حَجَرا، تحجرت معه العقول والأفئدة، بدون حِجْرٍ حاضن يمده قلبا وضميرا وحنانا، ولم نعد نترقب منه سوى قذفنا، من كل حدب وصوب، بمجانيق ملأى بالحَجَر المميت، مثلما يحدث مع وباء كورونا ومايدخل في زمرته. كلما زاد، تآكل منطق الدولة المؤسساتية، دولة الرعاية المجتمعية، واتسع في المقابل، أفق قانون الغاب.

إذن، ومن باب كشف لعبة المفاهيم، فحينما يزيغ الحَجْر الصحي، عن إطاره الإنساني المرشد، وقد افتقد إلى حِجْرٍ  ضمن غايات تكريس منابع الحياة، ضدا على شتى منابع التكلس القاتلة، يتحول إلى حَجَر، لا يخرج من بطنه سوى التَّحجُّر حد إنطاق مختلف أنواع الحَجَر.