الأحد  22 كانون الأول 2024

واقعيّة الأدب الإسلاميّ وفنّيّته/ بقلم: فراس حج محمد

2021-09-02 02:39:55 PM
واقعيّة الأدب الإسلاميّ وفنّيّته/  بقلم: فراس حج محمد
تعبيرية

الحدث الثقافي

مقدّمة:

لا أسعى إلى تأصيل الأدب الإسلاميّ أو الخوض في شروطه وسماته وعوامل نهضته وازدهاره، فكلّ هذا واقع محسوس لمن أراد أن يرى، ولا عذر لجاهل، ولا حجّة لواهم وإنّما أتغيّا بيان أهم القضايا الّتي تتّصل بالأدب الإسلاميّ (دوره في الصّراع، مفاهيم أساسيّة، مذهب الإسلام في التّعبير، الجمال في التّصوّر الإسلاميّ، الصّلة بين الأديب والعقيدة، علاقة الأديب الإسلاميّ بالوجود من حوله، مجلّية بعض الشّبهات الّتي أثيرت حول هذا الأدب).

أحاول بداية أن أطرح مجموعة أسئلة مهمّة:

هل تحتاج البشريّة أصلا إلى الفنّ والأدب بأنواعهما؟

هل يكتفى بالحركة الفكريّة المجرّدة بعيدا عن التّطبيق الأدبيّ والفنّيّ في أيّ أمّة من الأمم؟

هل هناك علاقة من نوع ما بين الأدب والفكر؟

هل يشكّل الأدباء في أيّ أمّة من الأمم عامل قوّة يمكّنهم من أن يؤدّوا دورا فعّالا في حركة النّهضة؟

يعدّ الأدب في كلّ أمّة مرآة فكرها وحياتها، ومنبعا من منابع حيويّتها وطاقاتها، وقد مثّل الأدب الإسلاميّ زمن الرّسول _ صلّى الله عليه وسلّم_ سلاحا مقاوما في وجه الطغاة والمشركين، وكلّنا يعرف شاعر الرّسول (صلّى الله عليه وسلّم) حسّان بن ثابت _ رضي الله عنه_ ودعوة الرّسول (صلّى الله عليه وسلّم) له لنصرة الإسلام بلسانه، كما نصر المجاهدون الإسلام بأسنّتهم وسيوفهم في ساحات القتال.

أمّا في العصر الحديث فقد غيّب هذا الأدب ردحا من الزّمن، ومورست ضدّه حملة من التّضليل والتّشويه، وأوصدت في وجهه معاقل النّشر والتّوزيع وجوبه حملته والدّاعون له، واتّهموا بشتّى التّهم من رجعيّة وتقليد وتخلّف، ولكنّه عاد ليظهر بقوّة في الفترة الأخيرة، وذلك يرجع في تقديري إلى عاملين:

الأوّل: امتداد الأفكار الإسلاميّة إلى كلّ بقاع الأرض، وأصبح ينظر إلى الإسلام النّظرة الفكريّة المتعمّقة، ومن هنا جاء الأدب الإسلاميّ حاملا طبيعيّا ومعبّرا عفويّا تلقائيّا عن هذه الأفكار المتنامية.

الثّاني: فشل الآداب الأخرى في التّعبير عن الإنسان والكون والحياة التّعبير المتوازي المتّزن، بحيث أخفقت تلك الآداب في تحقيق قيمة الحياة للإنسان مما ساهم في بروز نزعة الانتحار أو الانسحاب من الحياة لثلّة غير قليلة من هؤلاء الأدباء[1]، فجاء الإسلام بأدبه وفكره دعامة ليسدّ هذه الثّغرة في المعالجة الحسّيّة والإدراكيّة والوجدانيّة لحاجات الإنسان وآماله وتطلّعاته، في حين تقلّب الغرب في نظريّات أدبيّة ما بين واقعيّات متعدّدة؛ اشتراكيّة وسحريّة، وحداثيّة وما بعد حداثيّة، ظلّت النّظريّة الأدبيّة الإسلاميّة تتمتّع بالثّبات عند الأدباء الإسلاميّين، وليس عند ذلك الفريق المنفتح على النّظريّات الغربيّة الّتي أخذ يسوّقها لجمهور لم يتعاط معها، وظلّت حكرا على منتجيها أو معيدي تكريرها وتكرارها، ولم ينجحوا في توطينها لا في الشّعر ولا في الرّواية.

وعليه فإنّ الأدب الإسلاميّ المعاصر قد أخذ صورة من صور التّحدي للموقف الحضاريّ الّذي يريد مسخ الحضارة الإسلاميّة وإلحاقها بحضارة ما وراء البحار، ويمثّل الأدب الإسلاميّ فيما يمثّله القيم الإسلاميّة والدّفاع عن الفكرة، وبثّ الرّوح الإسلاميّة كجبهة صراع فكريّ حقيقيّة مثلها مثل أيّ جبهة صراع أخرى تدور رحاها بين الغرب والإسلام، وتنبع أغلب الشّبهات حول الأدب الإسلاميّ في أكثرها من النّمطيّة السّائدة تجاه الإسلام، حيث ترى في الإسلام نفسه مذهبا جامدا غير متطوّر، يحكمها الفكر العدائيّ حول الإسلام وأهله وأدبه.

مفاهيم أساسيّة للأدب الإسلاميّ:

مفهوم الأدب الإسلاميّ: هو الأدب الّذي يرسم صورة الوجود من زاوية التّصوّر الإسلاميّ لهذا الوجود، فهو بذلك التّعبير الجميل عن الكون والإنسان والحياة من خلال التّصوّر الإسلاميّ.

الأديب المسلم: شخص موهوب ذو حساسية خاصّة، يستطيع التقاط الإيقاعات الخفيّة الّتي لا يدركها النّاس الآخرون، وذو قدرة تعبيريّة خاصّة تستطيع تحويل ما يلتقط وما ينفعل به إلى لون من الأدب الجميل يثير في النّفس التّأثير ويحرّك فيها حاسّة الجمال وربط ذلك بالنّظرة الإسلاميّة.

الإبداع وكيفيّته: تمرّ العمليّة الإبداعيّة في مراحل ثلاث وهي: الانفعال النّفسيّ بتجربة ما،  واستبطان هذا الانفعال داخل النّفس، وارتداد التّجربة إلى الخارج في صورة تعبير أدبيّ له وقع خاصّ وناتج عن استبطان الانفعال في نفس المبدع. وهذه المراحل يمرّ بها أيّ مبدع حقيقيّ، بمن فيهم الأديب الإسلاميّ بطبيعة الحال.

ولا بدّ هنا من الإشارة إلى جملة حقائق تتّصل بالإبداع الإسلاميّ وهي:

أثر القلق والأزمة النّفسيّة في إيجاد الأدب، وبالتّالي هناك علاقة ما بين الأزمة النّفسيّة وتطوّراتها وطبيعة الأدب المنتج.
الأدب الإسلاميّ منفتح على كلّ الموضوعات، فليس هناك موضوع إسلاميّ وآخر غير إسلاميّ، فكلّ موضوعات الكون والإنسان والحياة والواقع وما وراء الواقع كلّها مادة صالحة للأدب الإسلاميّ شريطة أن تمرّ في نهر الإسلام العظيم الّذي يشكّلها بطابعه الخاصّ الّذي يميّزها عن غيرها.
ينبغي على الأديب الإسلاميّ ألّا يعيد في أدبه حقائق الكون والدّين والعقيدة في شكل صياغات فلسفيّة وفكريّة جامدة أو وعظيّة مباشرة، بل عليه أن يفيض من روحه ومشاعره وطريقة أدائه وكلّ إحساسات الجمال المودعة في النّفس البشريّة حتّى يلتقي الفنّ مع الموضوع في صياغة لها تأثيرها الحسّيّ والإدراكيّ على المتلقّي، وحتّى تظهر الأمور بصيغتها الأصليّة الجماليّة المتحقّقة في الأدب ومدى تحقيقه للعناصر الجماليّة المطلقة في الأدب، والنّاظر في الآداب المنتشرة على بقعة الكرة الأرضيّة عربيّة أو غير عربيّة يرى أنّها لا تنبثق من هذا التّصوّر الإسلاميّ الشّامل للجمال، فجلّ هذه الآداب منحرف بطبيعة انبثاقه من تصوّر مختلف للإنسان، يرى الإنسان نصف مخلوق تشوّهه المتع الجسديّة والاستغراق في مستنقع الشّهوة الطاحنة، سواء في ذلك شهوة الجسد أو شهوة السّيطرة. 

مذهب الإسلام في التّعبير:

ينطلق التّعبير الإسلاميّ من واقع الدّوائر الثّلاث السّابقة (الكون والإنسان والحياة)، حيث يتوخّى التّعبير في هذا الأدب أن يعرض الواقع ويصوّره جماليّا لهدف وغاية، فالغاية في الأدب الإسلاميّ حقيقة واقعة وضرورة لازمة، بل حتميّة فيه. لكنّ واقعيّة الإسلام ليست منقوصة أو مضخمّة، بل إنّها تعطي لكلّ شيء وزنه الخاصّ به، فلا يطغى جانب على آخر ولا يغيب جانب ويظهر آخر، فإنّه عندما  يصوّر الضّعف الإنسانيّ يصوّره دون تهويل، يظهره بحجمه الحقيقيّ متوسّلا من خلال هذا التّصوير إظهار العنصر المقابل، وهو لحظة القوّة الإنسانيّة المتّسقة مع فطرة الإنسان ودوره في الحياة، وبالتّالي فإنّ الأدب الإسلاميّ بغاياته الواضحة يريد أن ينقل الواقع إلى ما يجب أن يكون عليه هذا الواقع، لا ما هو عليه بصفته الحاليّة.

وقد تلتبس هذه النّقطة بما يشاع عن أدب الإسلام، بأنّه يعرض الأفكار مجرّدة حتّى يتحوّل التّعبير إلى عمليّة نظم مجرّدة من الانفعال والإحساس، وهذه فكرة ليست صائبة في قصرها على الأدب الإسلاميّ، فكلّ الأفكار الّتي يعبّر عنها الإنسان قد يحسن الإنسان تصويرها، وقد يخفق في هذا التّعبير، وهذه ليست سلبيّة تلصق بأدب الإسلام دون سواه، فالأدباء الواقعيّون في مستهلّ أدب العرب الحديث وقعوا في هذا الفخّ، وأدباء النّزعة الماركسيّة لم يتخلّصوا منه، وهذا عائد لطبيعة الأديب أوّلا وقبل كلّ شيء، وهو خاضع بطبيعة الحال إلى الأداء الفنّيّ وامتلاك الأدوات الفنّيّة، والسّمات الشّخصيّة، وهي مختلفة ومتفاوتة عند بني البشر، ولهذا تجد التّعبير الأدبيّ الجماليّ في الأدب الإسلاميّ، كما تجد التّعبير الإسلاميّ الخاوي من الجمال، وهذا ما لم ينج منه اتّجاه أدبيّ أو فنّيّ.

وهنا قد يثار السّؤال التّالي: هل الأدب الإسلاميّ أدب إمتاعيّ؟

يحقّق الأدب بشكل عام وظائف عدّة، ألمحت إلى بعضها سابقا، وتبقى الوظيفة الإمتاعيّة هي المقصود الأوّل لكلّ أدب، يقول الشيخ تقي الدين النبهاني: "أمّا النصوص الأدبيّة، فإنّها نصوص موضوعة للذّة وهزّ المشاعر، وإن حوت معارف يستفيد منها العقل"[2]، إذ العقد بينك وبين القارئ تقديم أدب ممتع حتّى يكون قادرا باستعداده النّفسيّ أن يتابعك، فإن فقد الأدب هذه الخاصيّة فَقَدَ قيمة كبرى في أهمية التّواصل مع القارئ، ولا شكّ في أنّ الأدب ينشأ من أجل إنشاء رابطة شعوريّة وجدانيّة مع المتلقّي، تقوم على الإمتاع أوّلا، لكنّ الأدب الإسلاميّ الّذي يحرص كلّ الحرص على الناحية الإمتاعيّة فيما يُنْتِج، إلّا أنّها ليست هي المقصودة في ذاتها، بل إنّ الإمتاع في الأدب الإسلاميّ وسيلة لغاية أخرى، فإذا تحقّق الإبداع في النّصّ من خلال نقل الشّعور والإمتاع للآخرين، لا بدّ من أن يحقّق الغايات الأخرى، فلا يتنازل الأدب الإسلاميّ عن الفكرة والهدف والغاية، ودون أن يتنازل كذلك عن قواعد الفنّ الأصيل، ولذلك لا يؤمن الأديب الإسلاميّ بنظرية الفنّ للفنّ، تلك النّظريّة الّتي لم يرفضها الأدب الإسلاميّ وحده، بل لها مناوئون كثيرون في الغرب ذاته، فقد وصفها بودلير مثلا أنّها "نظريّة صبيانيّة"، فالأدب الإسلاميّ، عموما ككلّ أدب إنسانيّ، يرفض ما يطلق عليه "المجانيّة" الّتي تقول بـ "الامتناع من توظيف الكتابة كغاية تواصليّة أو نفعيّة وتحريرها من أيّ نظم أو قواعد"[3]. ويرى تزفيطان طودوروف أنّ "الانشغال قبل كلّ شيء بالجمال هو ما يميّز الفنّ عن اللّافنّ، ولكنّ الاكتفاء بهذا الهدف أو الطّموح إلى غرض أعلى هو ما يميّز الفنّ الصّغير عن العظيم، والتّافهين عن العباقرة"[4]. وبهذه الكيفيّة فإنّ هذين الشّرطين الكبيرين اللذين يحقّقان أدبيّة الأدب، حاضران بأعلى صورهما في النّصّ القرآنيّ، بوصفه نصّاً أدبيّاً عالي المستوى، دون أن يطغى أحدهما على الآخر، ومن هنا، ربّما، يستطيع الدّارس أن يرى وجها آخر من وجوه الإعجاز للقرآن الكريم وبلاغته التّواصليّة الّتي لا تضحّي بالفنّ وقواعده من أجل المعنى والرّسالة الإيمانيّة.

ومن جانب آخر، يمتلك هذا الأدب – بفعل استناده إلى النّظرة الكلّيّة عن الكون والإنسان والحياة واتّصاله بالعقيدة – فاعليّته في تأسيس مبادئ الحياة الصّحيحة في النّفس، وقادر على إثارة المشاعر في صميم النّفس البشريّة، فتتحوّل هذه المشاعر المتعدّدة في نفس الإنسان إلى طاقة حركيّة، تدفع الإنسان في مسيرته الحياتيّة، وحمل رسالته لبناء  حضارة نافعة قائمة على الرّوح والمادّة في توازن تامّ، وانتماء إلى المشاعر الإنسانيّة الّتي تعمّ المجتمع الإسلاميّ، وتحمل الخير لغيرها، في توافق جدليّ بين الشّكل والمضمون، المضمون المبنيّ على قواعد الإسلام وأفكاره، والشّكل الفنّيّ المستقرّ عرفا لدى الأدباء والشّعراء؛ فليس هناك انفصال بين شكل العمل الأدبيّ ومضمونه في النّظريّة الإسلاميّة، فالاتّجاه العامّ لأداء التّعبير عن قيم الإسلام لم تفصل بين قيمة الشّكل وقيمة المضمون، إنّ للشّيء الجميل طريقا جميلا يقود إليه حتما.

الجمال في التّصوّر الإسلاميّ:

ينبع الجمال في التّصوّر الإسلاميّ من مظاهر الكون أساسا، الّتي تجمع إلى جانب المعرفة بالحقيقة المادّيّة المشخّصة الجانب الجمال بقيمة معنويّة على مستوى الإبداع في الخلق والتّكوين، فقد أشار القرآن إلى ذلك مستخدما صيغة جماليّة تؤدّي المعنى بأبعادها النّفسيّة اللّافتة للجمال في الكون، فعنصر الجمال عميق في هذا الوجود يتبدّى في كلّ كائناته، والإنسان مطالب أن يفتح حسّه لهذا الجمال ويتأثّر به ليكون حافزا لحاسّة الجمال المودعة فيه، فتفيض في تعبيره جمالا موازيا لهذا الجمال الكونيّ البديع المنظّم.

ومن خلال هذا التّصوّر الإسلاميّ للجمال يلاحظ الإنسان أنّ أصل الخلق من مادّة واحدة، له إيحاءات كبرى ودلالات عظيمة، فكلّ ما خلق الله من كون وإنسان وحياة تشترك في أصل الخلق من عناصر مشتركة واحدة، ليجعل لهذا الخلق فكرة اكتمال الدّائرة في التّصوّر الإسلاميّ، فعلينا أن نلاحظ مثلا صلة الإنسان بالكون وصلة الإنسان بالحياة والعناصر الأخرى الحيّة وغير الحيّة لنرى اكتمال الدّائرة حيث أصل النّشأة والمصير في صلة الإنسان بخالقه، وحرصت النّظرة الجماليّة في الإسلام أن يظلّ الإنسان إنسانا لا يرتكس إلى درك الحيوان، فيعرف دوره في الحياة، وبذلك يتحقّق الجمال بمفهومه الواسع. وليس مطلوبا منه كذلك أن يكون نبيّا معصوماً أو ملاكاً مفطوراً على الطاعة وحدها.

الصّلة بين الأدب والعقيدة:

إن الصّلة بين الأدب الإسلاميّ والعقيدة كصلة الإنسان بالله، علاقة دائمة لا انفصال فيها، ولا تشويش ولا اضطراب، ولذا فإنّك ترى في الأدب الإسلاميّ قدرة متميّزة في التّعبير عن المبادئ والقيم بكلّ ما تشتمل عليه من إبداعات، ويتمتّع هذا الأدب بقدرته على حسم النّزاع الفكريّ الّذي تخلّفه في النّاس الأطروحات المذهبيّة الأخرى حول المبادئ العامّة للحياة والقيم الكبرى الّتي تقودها، وتتساوق في الإسلام حركة الأدب والفكر بحيث يلتحمان معا، فيعبّر الأديب الإسلاميّ عن روح الالتزام بالإسلام وتعاليمه التزاما حقيقيّا نابعا من شعور دينيّ، لا تفرضه عليه سلطة أدبيّة أو سياسيّة، أو دينيّة مؤسّساتيّة، بل بمحض إرادته يرى نفسه ملتزما بالإسلام فكرا وأدبا وشعورا وسلوكا، فتتمثّل في أدبه كلّ الملامح الإسلاميّة الرّاقية، ليخرج إلى الحياة لبنة صالحة تدعم وجود الإسلام فكرا ومنهجا على أرض الواقع.

إنّ ما يلفت النّظر في الأدب الإسلاميّ تلك العلاقة القائمة بين الأديب وبين خالقه، فالأديب ينبثق أدبه من علاقة وجدانيّة مع هذا الخالق، فالإله البارئ هو مصدر الخير والوحي، والإنسان خليفة الله المؤتمن على هذه الأرض، لكنّه ليس ظلّه السلطويّ، ومن هنا تتكامل الحلقات الثّلاث (الكون والإنسان والحياة) في هذا الأدب وتشكّل محورا رئيسيّا فيه، فيظهر في هذا الأدب تجلّيات الحياة والنّظرة إليها والغاية والمقصد من وجودها وعلاقتها بالإنسان وما حوله من تجلّيات الكون، فتتجاوز نظرة الأدب الإسلاميّ حدود الواقع، وتتطلّع إلى ما وراء هذه الحياة الفانية من نعيم دائم، وبهذا يكون الأدب الإسلاميّ رجعا حقيقيّا وصورة حيّة لعلاقة الإنسان بأخيه الإنسان في المفهوم الشّامل القائم على المحبّة والخير والعطاء.

ولهذا الأدب أبعاده الإنسانيّة العالميّة الّتي لا تكتفي بالظّهور بالثّوب المحلّي أو الإقليميّ، فتحارب الفئويّة والحزبيّة والتّشرذم والتّقوقع، فكما أنّ الإسلام دين شامل كامل إنسانيّ عالميّ فإنّ ما ينتج عنه من فكر وأدب وتصوّر لا بدّ من أن تظهر فيه هذه الخصائص، فالمتوقّع من هذا الأدب أن يعطي الصّورة الصّادقة والثّابتة عن شكل العالم وجوهره والعلاقات الّتي تحكمه والقوى الفاعلة فيه، مجسّدا الفكرة الإنسانيّة العامّة، وأنّ الإنسان أخ للإنسان بغضّ النّظر عن دينه وجغرافيّته.

ولعلّ ارتباط الأدب الإسلاميّ بالعقيدة، يؤدّي إلى اتّهام هذا الأدب باتّكائه على ثقافة الغيب. إنّ من يطرح هذا التّصوّر، يرى فيه شبهة وعارا على الأدب، ويكون قد ارتكز على مخلّفات فكريّة غربيّة لا تؤمن إلّا بما ترى أو تسمع، أمّا ما لا يقع عليه البصر أو السّمع فلا دخل لها به، وهذا نابع من تصوّر غربيّ فكريّ أن الدّين ليس له حقّ في رسم الحياة والتّفكير من خلال مغيّبات تنطلق من رحم الدّين، مع أنّ هذا الفريق يمجّد النّظرة الصّوفيّة والفلسفيّة، وتستفيض النّظريّات النّقديّة في شرحها والعناية بها والكشف عنها عند الأدباء، والشّعراء خصوصاً، عدا ما أخذت توليه من اهتمام بأدب الفنتازيا والخيال العلميّ، مع أنّ مقاربة المغيّب مع الفنتازيا لا تصحّ مبدئيّا إلّا أنّ بينهما التقاء عند نقطة ما.

وبما أنّ الأدب الإسلاميّ يرتكز في مؤدّاه الإبداعيّ على الإسلام وعقيدته، فإنّ ثقافة الغيب هي روحه، لأنّه متعلّق مشاعريّا وعقليّا بالمغيّب الّذي طلب أن يؤمن به، فكيف يؤمن بالمغيّبات إيمانا قطعيّا جازما ثم يحاربها في أدبه؟ لكنّه يلتزم جماليّا في التّعبير عنه، مسترشدا الطّريقة القرآنية والأحاديث الشّريفة البليغة.

هذا أمر، أمّا الأمر الآخر، هو صحّة المغيّب أو عدم صحّته، فإذا كان المغيّب موجودا حقّا فلماذا لا يكون له ركن في الأدب، فالمسلم يرى أنّ الغيب يحكم حياته كلّها، وهذا لا يعني سلبيّة الأديب وإغراق الأدب في الماورائيّات واللّامنطق، بل الإيجابيّة الفاعلة الّتي ترى أنّ العمل والجدّ والإخلاص لا تتنافى مع ما قدّر أو غُيِّب، فهو ليس مطالبا بمعرفة الغيب وإن كان محكوما به، وبالتّالي فإنّ ثقافة الغيب متجذّرة في حركة الإسلام الفكريّة، وهي سرّ تميّز أتباعه وأدبائه ومفكّريه، ولذلك ترى أنّ تجلّيات هذه الإيجابيّة كائنة ومتحقّقة في الشّعر عند الصّوفيّين، على سبيل المثال، فأنتجوا أدبا مخالفا في طبيعته للأنساق المتعارف عليها في العصور السّابقة للإسلام، أو في العصور اللّاحقة عندما ابتعد الشّعراء عن الرّوح الإسلاميّة في شعر الهجاء والنقائض والمديح والفحش في الغزل.

الخلاصة:

هذه بعض جوانب من الأدب الإسلاميّ وتجلّيات وجوده في حلبة الصّراع الفكريّ مع المذاهب الأدبيّة الفكريّة الأخرى، يناضل عن أفكاره بالفنّ، ويوظّف الفنّ في خدمة البناء الفكريّ الحضاريّ المتكامل، جامعا تلابيب الموضوع في نسق فنّيّ فريد، لا يقبل بالتّهتك والسّطحيّة والسّذاجة والتّصوير الشّهوانيّ الحيوانيّ.

فلا بدّ إذن لكلّ أمّة من أدب وأدباء يجسّدون أفكارها بطريقة غير فكريّة محضة، وإن استندت إلى الفكر، وبالتّالي فإنّ الأدب والفنّ يعدّان أمرا لازما في حياة أيّ أمّة؛ فلا يجوز إهمالهما، لما يحقّقان من قيم في النّفس البشريّة الّتي فطرت على حبّ الفنّ والأدب، ولا تعارض ألبتّة ما بين الأفكار، ومنها الدّينيّة والفنّ والأدب الملتزمين، فالتّناغم حاصل لأنّ الأدب تجلٍّ من تجلّيات الفكر ومنبثق عنه، يفقه الفكرة، ويترنّم بها فنيّا وأدبيّا، والالتزام فكرة مقبولة في فلسفة الأدب، لكنّها بدلا من أن تكون نابعة من واقعيّة اشتراكيّة أو سحريّة أو نقديّة تشاؤميّة، فإنّها تبني واقعيّتها الخاصّة الإسلاميّة، وهذا هو ديدن كلّ فكرة جاءت بمنظور شامل عن هذا الكون بكلّ ما فيه، كالاشتراكيّة الّتي صبغت أدب أتباعها بصبغتها، والوجوديّة والرأسماليّة والعبثيّة السّورياليّة، وكذلك، وعلى القاعدة نفسها، فللإسلام شعريّته وأدبيّته ونظرته الّتي تتماهى مع أفكاره العليا الّتي رضي بها أتباعه عن يقين.

[1] هناك كثير من الكتاب الّذين أنهوا حياتهم بالانتحار، منهم على سبيل المثال فرجينيا وولف وآرنست همنغواي، ومن الأدباء العرب الشاعر اللبناني خليل حاوي، والأديب الأردني تيسير السّبول. ويدرس النّاقد خليل الشّيخ هذه الظّاهرة ويتتبّعها في الأدب العربيّ في كتابه "الانتحار في الأدب العربيّ- دراسات في جدليّة العلاقة بين الأدب والسّيرة"، المؤسّسة العربيّة للدّراسات والنّشر، بيروت، ط1، 1997، ويخصّص فصلا للحديث عن "ظاهرة الانتحار في الأدب العربي الحديث". يُنظر الكتاب (ص49-111).

[2] التفكير، تقيّ الدين النبهاني، 1973، ص125.

[3] مجلّة العربي، عدد (714)، أيّار 2018، (ص91)

[4] الأدب في خطر، تزفيطان طودوروف، ترجمة: عبد الكبير الشّرقاوي، دار توبقال للنّشر، الدّار البيضاء، ط1، 2007، (ص32)