الأحد  24 تشرين الثاني 2024

شهر إدوارد سعيد..مقاله الأخير: "الأنسنية آخر حصن ضد الهمجية"

2021-09-24 09:51:10 AM
شهر إدوارد سعيد..مقاله الأخير:
إدوارد سعيد

الحدث- ترجمة: رولا سرحان

مقدمة المترجمة

نشر إدوارد سعيد مقالةً أخيرةً له في صحيفة لوموند ديبلوماتيك الفرنسية، والتي كان يداوم على الكتابة فيها، بتاريخ 2 آب 2003، بعنوان “L’humanisme, dernier rampart contre la barbarie”، والتي ترجمت إلى الإنجليزية لاحقا ونشرتها صحيفة الجارديان، وترجمت إلى العربية ونشرها موقع جدلية. غير أن ما يستدعي إعادة ترجمتها عربياً متعلقٌ بشكل أساسي بحذف أفكار وفقرات مهمة من المقالة تتعلق بموقف سعيد من الحالة الاستعمارية التي تعيشها فلسطين، وفكرته عن التعايش ما بين مستَعمِر ومستَعمر، وتوصيفه للعمليات الاستشهادية. وإذ أترك للقارئ هنا مساحةً لإعادة الاطلاع على هذه الأفكار والتي تشكل جزءا تكوينياً من فكر إدوار سعيد الكلي، فإنني أرغبُ أيضاً في إحالته للتفكير معي في مصطلح مهم آخر تطرق له سعيد مرارا وهو: Humanism.

إذ فرض مصطلح "Humanism" الذي استخدمه إدوارد سعيد كمفهوم مركزي في مقالته هذه، تحدياً لغوياً وفكريا لجهة المقصود به، فهل كان يقصدُ - إذا ما ترجمناه إلى العربية- "الإنسانية" بما هي اصطلاحاً تُحيل إلى إنسانية المرء وكل ما يترسبُ فيها أيضا من حمولةٍ فكرية وفلسفية تحملنا إلى أرسطو وأفلاطون ومنظري الحداثة؛ أم أنه قصد "الإنسانوية"، بما هي منهجٌ فكري يتجاوز "الإنسانية" الفلسفية والمثالية إلى ضرورة أنسنة المحيط السياسي والاجتماعي والاقتصادي، بما يليق بإنسانية الإنسان وتمركزه في بؤرةِ المنظومة المكونة للوقائع التي تحيطُ به؛ أم أنه قصد الجمع بينهما؟

وللخروج من تعالقية المصطلحات، يمكنُ الالتجاءُ إلى الطريقة ذاتها التي اتبعها سعيد في مجادلاته المعرفية المركزية المتعلقة بضرورة تفكيك العلاقات الداخلية للنص كما العلاقات الخارجية المتعلقة بالمعرفة وبالسلطة، بما فيها سلطةُ المؤلف. ورغم أنه من الصعوبة بمكان فصلُ سعيد (المؤلِّف) عن النص (المُؤلَّف)، لأن سعيد، يحضُرُ بتجاربه الشخصية، وسرديته الذاتية، ومخزونة المعرفي داخل نصوصه -وتحديداً مقالاته الصحفية التي تأتي انعكاساً لتجارب وأحداث عاشها وعلق عليها- فلا تحلُّ وصايةُ القارئ على النص محل المؤلف الوصي الأول كما نظر لذلك رولان بارت، بل يصبحُ الادعاء بـ "موت المؤلف" سعيد أكثر استحالةً، لأن سعيدُ يحاولُ دائما التماهي مع أفكاره التي يربطها خيطُ الإنسانية/الإنسانوية ببعضها البعض لتشكل قيمة "الأنسنية" بما هي صفة وممارسة، ولتشكل فضاءً ما تحت نصي يقبعُ كالظل الملازم للنص الأصلي ويمكن استشعارُ وجوده أينما حاول سعيد التنظير لضرورة تفكيك منظومة العنف والسيطرة والاستغلال والاستعمار وإساءة البشر للبشر ولإنسانيتهم.

فإذا ما تخلصنا من سلطة سعيد على نصه الأخير هذا، ووضعناه كتذييلٍ لكتابيه الأساسيين "الاستشراق" و"الثقافة والإمبريالية" وتمكنا من أخذه في قراءة طباقية -كما يفعل- يمكنُ الادعاء بأن هدف سعيد النهائي كما يطرحُ في مقالته هذه الدفاع عن الإنسان ضد الهمجية بما هي صفةٌ تنزع عن الإنسان إنسانيته وتحوله إلى "لا إنسان" قادر على ارتكاب البشاعةِ والتسبب في الألم. فكلما كان الإنسان قادراً على ارتكاب "الهمجية"، كلما كان أبعد عن إنسانيته. ولأن "الهمجية"، غير مقتصرة على الإنسان بما هو فاعلٌ بحد ذاتهِ، وإنما تأتي أيضاً ضمن منظومةٍ تتبناها أو تبتكرها، تكون هذه المنظومة أبعد عن "الأنسنية"، بما هي مجموعة من البنى والتراكيب تحافظُ على إنسانية الإنسان. إذ من الصعب في المجتمعات الحداثية، وشبه الحداثية، التي نعيش في كنفها، أن نضمن تحقيق الإنسان لإنسانيته، دون أن تحيط به منظومة "أنسنية" لا يمكنُ إحتواؤها في مكان أو اقتصارُها على فئة من البشر أو تحويلها إلى هبة. فالسعيُ إلى الإنسانية عبر الإنسانوية لتحقيق منتهى الأنسنية ما هو إلا سعيٌ نحو فهم مجادلةِ سعيد بأن أساس الأنسنية هو تقديرُ الاختلاف من منظور ينطلق من عدم ادعاء معرفة الآخر معرفة جوهرية. وتقبل هذه الحقيقة يعني تقبل فكرة محدودية الإنسان وبالتالي محدودية سلطته وقوته. وهذا الإدراك العقلاني، لمحدودية القوة والفاعل والفعل، هو أساس الخروج من مأزق السقوط في هاوية الهمجية، بل والطريق نحو الأنسنية.

كما يلاحظُ القارئ، فإن ما أحاولُ القيام به هو الجمع ما بين مفهومي "الإنسانية والإنسانوية" في مصطلح ثالث هو "الأنسنية"- الذي صكه فواز طرابلسي- بادعاء أنهما يكملان بعضهما البعض، وباعتبار عملية جمعهما قد تمنح القارئ والمؤلف حيزاً أرحب في التنقل بين فكرة سعيد المقتضبةِ في كلمة “Humanism”، بكل حمولاتها الدلالية والمعرفية، هنا يُصبحُ مفهوم "الأنسنية"، لفظة تحمل صيغة تحول في الصيرورةِ التي يبتغيها سعيد:  فكأنما هي صيغةُ الانتقال نحو الإنسانية بما هي قيمة عليا تتحقق فيها معاني الكرامة والفردية الذاتية ضمن المجموع الكلي من الذوات الكريمة المضيافةِ التي تهيئ مجالاً في حيزها الروحي والثقافي لاستيعاب الآخر واستضافته داخلها دون أن يُشكل هذا الآخر تهديداً لها. وهذه الصيرورة لا تتحقق دون أن تكون محتواةً ضمن منظومةٍ تحميها في مقابل أخرى تكافحُ ضدها.

من هنا، كان لا بد من استصلاحِ مفهوم ثالثٍ قادر على الجمعِ ما بين "الإنسانية والإنسانوية"، وهو ما فعله فواز طرابلسي في ترجمته لكتاب إدوارد سعيد "الأنسنية والنقد الديموقراطي"، الصادر عن دار الآداب بنسخته العربية عام 2005، مشيراً فيه إلى أنه اعتمد تعبير "الأنسنية" للدلالة على المذهب الفكري الذي يقول، إن الإنسان هو أعلى قيمة، أما "الإنسانيات" فهي مادة الدراسة الجامعية التي تُعنى باللغات والفنون والآداب والتاريخ. أما "الإنسانوية" فتستخدمُ في ترجمة فواز طرابلسي للدلالة على الميل أو النزوع إلى الإنسانية وادعائها.

من هنا تصبح "الأنسنية"، كما يشرحها إدوارد سعيد نفسه في كتابه المذكور، وفي مقالته المترجمة أدناه، باعتبارها ممارسة مستدامة وفعلا وممارسة نقدية وليس مجرد عملية استحواذ، وهي تفكر في ماهية النشاط الأنسني بديلا من تقديم لائحة بالصفات المرغوب توافرها في الملتزم بالحركة الأنسنية. ليكون ما يبتغيه سعيد متمثلاُ في ممارسة التدقيق النقدي للأمور بما هي نتاج للعمل البشري وللطاقات البشرية نحو التنوير والتحرر، تحرر الإنسان.

مقالة سعيد

قبل تسع سنوات، كتبت تذييلا لـ كتاب "الاستشراق": ركزتُ فيه، ليس فقط، على السجالات العديدة التي أثارها الكتاب منذ صدوره في عام 1978، بل أيضًا على حقيقة أن دراستي لتمثلات "الشرق" كانت موضوعًا لسوء التفسير المتزايد. أما الآن فردةُ فعلي هي أقرب إلى السخرية منها إلى الغضب، بما يظهر أن التقدم في العمر يدركني. لقد جلبت علي وفاة ناصحيَّ على المستوى الثقافي والسياسي والشخصي، إقبال أحمد وإبراهيم أبو لغد، حزنًا وأسى، ولكنها جلبت معها أيضًا عزماً على المضي قدمًا.

تصف سيرتي الذاتية، "خارج المكان"، العوالم الغريبة والمتناقضة التي نشأت فيها، وتعطي فكرة عن التأثيرات التي عشتها خلال شبابي في فلسطين ومصر ولبنان. لكن هذه القصة تنتهي قبل بدء مشاركتي في الحياة السياسية عام 1967، بعد حرب الأيام الستة. أما كتاب الاستشراق فأقرب بكثير إلى اضطرابات التاريخ المعاصر، فهو يبدأ بوصف، كتب في عام 1975، للحرب الأهلية في لبنان - التي انتهت عام 1990. بيد أن العنف وحمامات الدم ما زالت مستمرة حتى يومنا هذا، كما وفشلت عملية السلام التي انطلقت في أوسلو، واندلعت الانتفاضة الثانية، ويكابد الفلسطينيون معاناة رهيبة في الضفة الغربية المحتلة كما في قطاع غزة.

وبرزت ظاهرة التفجيرات الانتحارية، بكل ما ترتب عليها من نتائج بشعة، لا تقل فظاعةً وترويعاً عن أحداث 11 أيلول (سبتمبر) 2001 وما تلاها من حروب اندلعت ضد أفغانستان والعراق. وبينما أكتب هذه السطور، يستمر الاحتلال الإمبريالي غير الشرعي للعراق من قبل الولايات المتحدة وبريطانيا الذي كانت له عواقب وخيمة. بحيث يتم التعاطي مع كل ذلك على أنه جزء من "صدام الحضارات" الذي لا ينتهي ولا هوادة فيه ولا رادَّ له؛ لكنني أخالفُ هذه الفكرة.

كنتُ أود لو أنني أستطيع التأكيد على أن الفهم العام الذي كونه الأمريكيون عن الشرق الأوسط والعرب والإسلام قد تحسن قليلاً، لكن للأسف ليس هذا واقع الحال. ولأسباب عديدة، يبدو الوضع في أوروبا أفضل بكثير. ففي الولايات المتحدة الأمريكية، ينعكس تصلُّبُ المواقف وتزايد نفوذ التعميمات المتعالية، وكليشهات الانتصار، وهيمنة سلطة فجة تحتقر المعارضين و"الآخرين"، في نهب وتدمير المكتبات والمتاحف العراقية.

وعلى ما يبدو فإن قادتنا وأتباعهم من المثقفين غير قادرين على فهم أن التاريخ لا يمكن محوه مثلما نمحو السبورة كي نتمكن "نحن" من كتابة مستقبلنا عليها وفرض أسلوب حياتنا على الشعوب "الدنيا".

وكثيرًا ما نسمع كبار المسؤولين في واشنطن، أو في أية أماكن أخرى، يتحدثون عن إعادة رسم حدود الشرق الأوسط، كما لو أن مثل هذه المجتمعات العريقة وشعوباً بمثل هذا التنوع يمكن خلطها في وعاء مثل حبات الفول السوداني. ومع ذلك، كان ذلك هو ما يحدث غالباً لـ "الشرق"، ذلك البناء الشبه الأسطوري الذي أعيد تشكيله مراراً منذ غزو نابليون لمصر في نهاية القرن الثامن عشر. وفي كل مرة، يتم تبديد بقايا التاريخ التي لا تعد ولا تحصى، والحكايات التي لا نهاية لها، والتنوع المذهل للثقافات واللغات والشخصيات، ويتم نسيانها، وترمى في الصحراء مثل الكنوز التي نهبت من بغداد ليتم تحويلها إلى قطع مبعثرة فاقدة لكل معنى.

إن التاريخ، في نظري، هو من صنع الرجال والنساء، ولكن يمكن أيضًا التراجع عنه وإعادة كتابته بفعل الصمت، والحذف، والصيغ المفروضة والتشوهات المسموح بها، بحيث يصبح شرقـــ "نا" ، أو "شرقنا" ، حقًا "لنا" ، يمكننا امتلاكه وقيادته. ويستوجب علي تكرار قولي ثانيةً بأنه ليس لدي شرق "فعلي" أدافع عنه. لكنني في المقابل، أكن احتراما عظيماً لمقدرة هذه الشعوب على الدفاع عن رؤيتها الخاصة لما هي عليه وما تريدُ أن تكونه.

لقد شُنت هجمات واسعة النطاق، بعدوانية مدروسة، ضد المجتمعات العربية والإسلامية المعاصرة بتهمة التخلف وانعدام الديمقراطية والاستخفاف بحقوق المرأة، لدرجة جعلتنا ننسى أن مفاهيم مثل الحداثة والتنوير والديمقراطية ليست بأي حال من الأحوال مفاهيم بسيطة ولا لبس فيها، وأنه سينتهي الأمر بالجميع دائمًا إلى اكتشافها، مثل بيض عيد الفصح المخبأ في الحديقة. إن الانعدام المذهل للوعي لدى هؤلاء الناطقين الرسميين الاستعلائيين الشباب، الذين يتحدثون باسم السياسة الخارجية دون امتلاك أدنى فكرة حية (ولا أدنى معرفة بلغة الناس العاديين)، جعل المشهد مهيأ وجاهزًا للترحيب بالقوة الأمريكية لـ "ديمقراطية" السوق الحرة المبتذلة، ودون حاجةٍ إلى معرفة اللغة العربية أو الفارسية أو حتى الفرنسية للتبجح بأن ديموقراطية أحجار الدومينو هي أكثر ما يحتاجه العالم العربي.

ولا علاقة لإرادة فهم الثقافات الأخرى بغرض التعايش وتوسيع آفاق المرء بإرادة الهيمنة. إن هذه الحرب الإمبريالية - التي دبرتها مجموعة صغيرة من المسؤولين الأمريكيين غير المنتخبين وشنت ضد دكتاتورية العالم الثالث المدمرة أصلاً، لأسباب أيديولوجية مرتبطة بالرغبة في الهيمنة على العالم والسيطرة الأمنية والسيطرة على الموارد الطبيعية النادرة في العالم الثالث- هي بالتأكيد إحدى الكوارث الفكرية في التاريخ، لا سيما لأنه تم تبريرها والحث عليها من قبل المستشرقين الذين خانوا رسالتهم كباحثين. لقد مارس خبراء في العالم العربي والإسلامي مثل برنارد لويس وفؤاد عجمي تأثيرًا كبيرًا على البنتاغون ومجلس الأمن القومي التابع لجورج دبليو بوش، حيث ساعدوا الصقور على التعاطي مع أفكار مضلِّلة مثل "العقل العربي" و"الانحطاط الإسلامي المستمر منذ قرون".

وتمتلئ المكتبات الأمريكية اليوم بأعداد ضخمة من العناوين الصارخة التي تستثير الصلة بين "الإسلام والإرهاب" و "كشف الإسلام" و "التهديد العربي" و "المؤامرة الإسلامية"، والتي كتبها منظرون سياسيون يدعون أنهم استمدوا معلوماتهم من خبراء يزعمون أنهم سبروا أغوار هذه الشعوب الشرقية الغريبة. وقد استفاد دعاة الحرب هؤلاء من دعم القناتين التلفزيونيتين CNN و Fox News TV ، بالإضافة إلى عدد لا يحصى من الإذاعات التبشرية والمحافظة والصحف الصفراء وحتى بعض الصحف المحترمة، التي انشغلت جميعها باجترار نفس التعميمات المغلوطة من أجل تعبئة "أمريكا" ضد الشياطين الأجنبية.

ولولا هذا الانطباع الذي نشأ بعناية عن كون هذه الشعوب البعيدة ليست مثلنا "نحن" ولا تقبل "قيمنا"، وهي الكليشيهات التي تشكل جوهر العقيدة الاستشراقية، لما قُدر لهذه الحرب أن تحدث. أحاط كل الأقوياء أنفسهم بمثل هؤلاء الباحثين المأجورين، من الغزاة الهولنديين لماليزيا وإندونيسيا، والجيوش البريطانية في الهند وبلاد ما بين النهرين ومصر وغرب إفريقيا، والوحدات الفرنسية في الهند الصينية وشمال إفريقيا. ويستخدم أولئك، الذين يقدمون النصيحة للبنتاغون والبيت الأبيض، نفس الكليشيهات، ونفس الصور النمطية المزعجة، ونفس التبريرات التي تبيح استخدام القوة والعنف. وتكرر الجوقة عبارة: "بعد كل شيء، هؤلاء الناس يفهمون لغة القوة فقط". ويضاف إلى هؤلاء المستشارين، في العراق، جيش حقيقي من رجال الأعمال الرياديين من القطاع الخاص الذين سيوكل إليهم كل شيء، من نشر الكتب المدرسية إلى صياغة الدستور وإصلاح الحياة السياسية، إلى إعادة تنظيم صناعة النفط.

ودائمًا ما تدعي كل إمبراطورية جديدة أنها مختلفة عن تلك التي سبقتها، وتؤكد أن الظروف استثنائية، وأن مهمتها هي إيصال الحضارة، وإقامة النظام والديمقراطية، وأنها لا تلجأ إلى القوة إلا كملاذ أخير. أما الجزء المحزن، فهو هذا التواجد الدائم للمثقفين الذين باستطاعتهم استخدام كلمات منمقة للحديث عن إمبراطوريات الخير أو الإيثار.

بعد خمسة وعشرين عامًا على صدور كتابي، يدفعنا "الاستشراق" للتساؤل عما إذا كانت الإمبريالية المعاصرة قد اختفت يومًا ما، أم أنها في الواقع ما تزال مستمرة منذ دخول بونابرت إلى مصر قبل قرنين من الزمان. لقد قيل للعرب وللمسلمين إن لعب دور الضحية في ظل إصرار الإمبراطوريات على النهب ما هو إلا وسلية للتهرب من مسؤولياتهم الحالية، فيما يقول المستشرق المعاصرُ:" لقد فشلتم، لقد أخطأتم".

كل ما بدأ مع بونابرت استمر مع تطور الدراسات الاستشراقية وغزو شمال إفريقيا؛ وفي بدايات القرن العشرين، تطورت أبحاث شبيهة حول كل من فيتنام ومصر وفلسطين بالتزامن مع السعي من أجل السيطرة على نفط وأراضي الخليج والعراق وسوريا وفلسطين وأفغانستان. بعد ذلك، ظهرت مختلف القوميات المناهضة للاستعمار، وبعد حقبة وجيزة من عهد حركات الاستقلال التقدمي، جاء عهد الانقلابات العسكرية، والانتفاضات، والحروب الأهلية، والتعصب الديني، والمعارك اللاعقلانية، وعودة الوحشية المطلقة ضد آخر جماعات "السكان الأصلانيين". وستؤدي كل مرحلة من هذه المراحل إلى الدفع باتجاه ظهور النظرة المشوهة للآخروالصور الاختزالية والسجالات العقيمة.

من خلال كتاب الاستشراق، كنت أود الاعتماد على النقد الأنسني من أجل توسيع مجالات النضال المحتملة. وعلى المدى الطويل، كنت أرغب في الاستعاضة عن اندفاعات الغضب اللاعقلاني الذي يأسرنا وأن أستبدله بفكر وتحليل أكثر عمقاً. وأطلقت على ما أحاول القيام به مصطلح "الأنسنية"، وهي الكلمة التي ما زلت مصرا على استخدامها على الرغم من الازدراء الرافض لها من قبل نقاد ما بعد الحداثة المتمرسين في مجالهم.

وعند حديثي عن "الأنسنية"، فإن أول ما أفكر فيه هو تلك الإرادة التي دفعت ويليام بليك إلى تحطيم القيود المفروضة على تفكيرنا بغية توظيفها في نطاق تفكير تاريخي ومنطقي. وتُصان الأنسنية برعايتها عبر الشعور بوجود علاقة تواصل مع باحثين آخرين ومجتمعات آخرى وأزمنة أخرى: فلا وجود لما هو أنسني بعيدا عن العالم، فكل مجال مرتبط بالمجالات الأخرى، ومن غير الممكن أن يحدث أي شيء في العالم بمعزل وبعيداً عن أي تأثير خارجي. وعلينا أن نعالج الظلم والمعاناة، ولكن في سياق متجذر بعمق في التاريخ والثقافة والواقع الاجتماعي-الاقتصادي، فدورنا هو توسيع مجال النقاش.

على مدى السنوات الخمس والثلاثين الماضية، قضيت جزءًا كبيرًا من حياتي في الدفاع عن حق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير، لكنني حاولت دائمًا القيام بذلك مع المراعاة الكاملة لمعاناة الشعب اليهودي، من الاضطهاد إلى الإبادة الجماعية. وما يهمني هو أن النضال من أجل المساواة بين إسرائيل وفلسطين ينبغي أن يكون له هدف أنسني فقط، ألا وهو التعايش، وليس السعي إلى الإقصاء والرفض.

وليس من قبيل المصادفة أنني قد بَّينت أن الاستشراق ومعاداة السامية الحديثة لهما جذور مشتركة. بالتالي، وبالنسبة لأي مفكر مستقل، يصبحُ تطوير نماذج بديلة للعقائد الضيقة والمبسطة القائمة على العداء المتبادل التي سادت في الشرق الأوسط وأماكن أخرى لفترة طويلة هي ضرورة ملحة.

كأنسني، يعمل في مجال الأدب، فأنا متقدم في العمر لدرجة أنني تلقيت، منذ أربعين عامًا، تعليمًا في الأدب المقارن، تعود أفكاره التأسيسية إلى ألمانيا في نهاية القرن الثامن عشر ومطلع القرن التاسع عشر. كما ينبغي علينا أن نستحضر المساهمة الأساسية التي قدمها جيامباتيستا فيكو، الفيلسوف وعالم اللغة النابوليني الذي مهدت أفكاره الطريق أمام المفكرين الألمان مثل هيردر وولف – واستعان بها جوته وهومبولدت وديلتاي ونيتشه وجادامير، وأخيراً استفاد منها علماء لغوييون كبار في القرن العشرين كإريك أورباخ ، ليو سبيتزر وإرنست روبرت كورتيوس.

بالنسبة للجيل الحالي من الشباب، يعتبر فقه اللغة علمًا قديمًا عفا عليه الزمن، ومع ذلك فهو منهج تفسيري أكثر أساسية بين كل مناهج التفسير وأكثرها إبداعًا. وأفضل مثال يثير الإعجاب في هذا الصدد هو الاهتمام الذي أولاه جوته للإسلام، وبشكل خاص للشاعر "حافظ" - حيث سيقوده هذا الشغف إلى كتابة "الديوان الشرقي للمؤلف الغربي"، فأثر بأفكاره على  Weltliteratur (الأدب العالمي)، وعلى دراسة جميع آداب العالم باعتبارها سيمفونية متكاملة يمكن للمرء فهمها نظرياً باعتبار أنها تحافظُ على فردانية كل عمل دون أن تفقد رؤيتها له ضمن المجموع.

ومن المفارقات أن عالمنا في ظل العولمة يتجه نحو هذه المعيارية، وهو التماثل الذي تهدف أفكار جوته إلى الحيلولة دونه. وقد حذر إريك أورباخ، في مقالته عام 1951 « فقه لغة الآداب العالمية»  Philologie der Weltliteratur، من هذا الاتجاه في بداية فترة ما بعد الحرب والتي كانت أيضًا بداية الحرب الباردة. وكان كتابه العظيم Mimesis - الذي نُشر في برن عام 1946، ولكنه كتب أثناء الحرب، عندما كان لاجئًا في اسطنبول حيث كان يدرس اللغات ذات الأصل اللاتيني- بمثابة شهادة على التنوع وعلى الواقع وتَمَثُّلاتهما في الأدب الغربي، من هوميروس إلى فرجينيا ولف. ومع ذلك، عند إعادة قراءة مقال عام 1951، يدرك المرء أن كتاب أورباخ العظيم كان احتفاء بعصر تم فيه تحليل النصوص بمصطلحات فيلولوجية/لغوية، وبطريقة متماسكة ومرهفة وبديهية؛ وهو العصر الذي ساهمت فيه المعرفة والإتقان المتمرس لعدة لغات في إنتاج نمط من الفهم كان بطله غوته وفهمه المتميز للأدب الإسلامي.

لقد كانت هذه المعرفة باللغات والتاريخ ضرورية، ولكنها لم تكن كافية أبدا، تمامًا كما، وعلى سبيل المثال، أن مجرد مراكمة الوقائع ليس طريقة ملائمة لفهم ما يمثله مؤلف مثل دانتي. كان المقصد الأساسي للمنهج الفيلولوجي/اللغوي الذي تحدث عنه وحاول تطبيقه أورباخ وأسلافه هو الدخول بشكل ذاتي ومعرفي إلى داخل المادة الحية للنص ومن منظور عصر النص ومؤلفه (Einfühlung).

وبينما يتعارض المنهج الفيلولوجي المطبق على الأدب العالمي (Weltliteratur) مع فكرة الإقصاء والعداء تجاه عصر آخر وثقافة مختلفة، فإنه يشتمل على فكر أنسني حق يتكشف بسخاء وكرم- إذا جاز لي استخدام هذه الكلمة. ويجب على فكر الباحث أن يفسح، بفاعلية، حيزا في ذاته للآخر الأجنبي. وهذا العمل الإبداعي المتمثل في الانفتاح على الآخر، هو البعد الأكثر أهمية في مهمة الباحث، وما عداه إنما يعني أن يظل الآخرغريبا وبعيدًا.

في ألمانيا، سوف يتخلخل هذا كله بالطبع، ومن ثم سيتم تدميره من قبل الاشتراكية القومية. وبعد الحرب، يشير أورباخ بأسى إلى أن معيارية الأفكار وتنامي التخصص المعرفي باضطراد قد ضيَّقت بشكل تدريجي إمكانات هذا النوع من العمل الاستقصائي الدؤوب الذي مثله أورباخ نفسه. أما الأمر الأكثر إثارة للإحباط منذ وفاة أورباخ في عام 1957، هو فقدان البحث الإنساني لمركزيته، فكرة وممارسة. فبدلاً من القراءة، بالمعنى الحقيقي للكلمة، يتشتت انتباه طلابنا باستمرار بسبب المعرفة المجتزأة المتوفرة على الإنترنت والمنشورة عبر وسائل الإعلام.

وثمة ما هو أخطر، فالتربية اليوم مهددة من قبل الأصوليات القومية والدينية التي تروج لها وسائل الإعلام، والتي تركز بطريقة لا تاريخية وتشويقية على الحروب الإلكترونية البعيدة، والتي تخلف لدى المشاهدين انطباعًا عن "الدقة الجراحية"، وتتستر بالتالي على ما تسببه الحرب الحديثة من معاناة مرعبة ودمار. وبغية تأجيج غضب الجمهور من خلال شيطنة عدو مجهول وتصنيفه بأنه "إرهابي" ، تركز الصور الإعلامية الانتباه على موضعٍ واحد يمكن توظيفه بسهولة في أوقات الأزمات وانعدام الأمن، كما حدث بعد هجمات 11 سبتمبر.

بصفتي أمريكيا وعربيا، ينبغي أن أطلب من القارئ ألا يقلل أبدا من شأن هذه النظرة التبسيطية للعالم التي ابتدعتها حفنة من المدنيين العاملين في البنتاغون للتعريف بالسياسة الأمريكية تجاه العالم العربي والإسلامي. إذ أصبح ممكنا، وبفضل أكبر ميزانية عسكرية في التاريخ، اعتبار الإرهاب والحرب الوقائية وفرض عمليات تغيير النظام، هي الأفكار الوحيدة التي ناقشها الإعلام دون توقف منتجاً ما يسمى بـ "الخبراء" بغية تبرير الخط العام للحكومة.  وتم استبدال الانعكاسية، النقاش، الجدال العقلاني، والمبادئ الأخلاقية المتأصلة في الفكرة العلمانية بأن البشر يصنعون تاريخهم الخاص، بأفكار تجريدية تمجد الاستثناء الأمريكي، أو الاستثناء الغربي، وتنكر أهمية السياق وتنظر إلى الثقافات الأخرى بازدراء.

خطاب علماني وعقلاني عالمي

ربما يتهمني القارئ بالقيام بانتقالات مفاجئة للغاية فيما بين التفسير الأنسني وبين السياسة الخارجية، وذلك من خلال تأكيده تحديداً على فكرة أن المجتمع المتقدم تقنيًا، والذي يمتلك قوةً غير مسبوقة، متمثلة في امتلاكه للانترنت ولمقاتلة F-16، هو مجتمع يجب في المحصلة أن تتم قيادته من قبل خبراء تقنيين وسياسيين كبار مثل السيد دونالد رامسفيلد أو السيد ريتشارد بيرل. لكن ما فاتنا على طول الطريق هو ذلك الإحساس بكثافة الحياة البشرية وترابطها، والتي لا يمكن اختزالها إلى صيغة مبسطة، أو إقصاؤها خارج السياق.

هذا أحد جوانب النقاش العالمي، وليس الوضع في الدول العربية والإسلامية أفضل بكثير، فكما أوضحت ذلك الصحفية رولا خلف في مقال ممتاز، تبنت المنطقة موقفاً معادياً للولايات المتحدة ينم عن قلة فهم للمجتمع الأمريكي بما هو عليه فعلا. ولأنها غير قادرة على التأثير على موقف الولايات المتحدة تجاهها، تكرس الحكومات كل طاقاتها لقمع شعوبها والسيطرة عليها. ومن هنا مصدرُ تنامي مشاعر الاستياء والغضب واللامبالاة التي تتسم بالعجز والتي لا تساعد على انفتاح المجتمعات التي دُمرت فيها الرؤية العلمانية لتاريخ البشرية وتطورها بسبب الإخفاقات والإحباطات المتتالية وبسبب تيار الإسلاموية المستندة على التعليم بواسطة التلقين ومحو كل ما يُنظر إليه على أنه أنماط أخرى من المعرفة الحديثة المتنافسة معها.

لقد كان الاختفاء التدريجي للتقليد الإسلامي المتمثل في الاجتهاد أو التفسير الشخصي أحد أكبر الكوارث الثقافية في عصرنا، ما أدى إلى اختفاء التفكير النقدي وجميع المواجهات الفردية مع الأسئلة التي يطرحها العالم المعاصر.

ولا أدعي أن العالم الثقافي قد تراجع بكل بساطة، سواء من خلال الوقوع في العدوانية الجديدة للاستشراق من ناحية، أو من خلال التعصب المطلق، من ناحية أخرى. ففي نهاية آب / أغسطس 2002، كشفت قمة الأمم المتحدة في جوهانسبرغ، على الرغم من كل محدوديتها، عن بروز حيز واسع من الاهتمام العالمي المشترك، معلنة عن ظهور "دائرة انتخابية كونية" قادرة على منح دفعة جديدة لمفهوم "عالم واحد" والذي تم الإفراط في استخدامه. لكن، ولمرة أخرى، يجب أن نعترف بأنه لا يمكن لأحد أن يدرك الوحدة المعقدة غير العادية لعالمنا في ظل العولمة، حتى لو كان الطابع المتكامل المتزايد لكل جزء من أجزائه يجعل من الصعب الآن عزل بعضه عن بعض.

ولا يمكن لهذه الصراعات الرهيبة التي تثار هنا، والتي تجمع الشعوب تحت رايات موحدة مضللة مثل "أمريكا" أو "الغرب" أو "الإسلام" وتبتكر هويات جماعية لأفراد مختلفين في الواقع، أن تستمر في نهجها التدميري. يجب أن نعمل على مناهضتها ومواجهتها. فمازلنا نمتلك قدراتنا التفسيرية العقلانية، وإرثنا من تعليمنا الإنساني. ولا يتعلق الأمر هنا بالصلاح الوجداني الذي يحثنا على العودة إلى القيم التقليدية والكلاسيكيات، بل هو استئناف لممارسة الخطاب العالمي العلماني والعقلاني.

لا يخضعُ العقل الناقد للإيعاز بالانضمام إلى ركب الصفوف والخوض في حرب ضد عدو رسمي أو ضد آخر. فبعيدًا عن فكرة صدام الحضارات المصطنعة، يجب علينا التركيز على العمل المتأني للثقافات التي تتداخل فيما بينها، وتستعير من بعضها البعض، وتتعايش بطرق أعمق بكثير مما توحي به أنماط الفهم المختزلة والمزيفة. لكن هذا الشكل الأرحب من الفهم يتطلب وقتًا وصبرًا وبحثًا نقديًا دائمًا، يغذيه الإيمان بمجتمع فكري يصعب الحفاظ عليه في عالم يعتمد على سرعة الفعل ورد الفعل.

تتغذى الأنسنية على المبادرة الفردية وعلى الحدس الشخصي، وليس على الأفكار المسبقة واحترام السلطة. ويجب قراءة النصوص على أنها نتاجات تعيش في التاريخ بطريقة محددة.

أخيرًا وليس آخرًا، الأنسنية هي متراسنا الوحيد، بل أود أن أقول متراسنا الأخير في مواجهة السياسات اللاإنسانية والمظالم التي تشوه تاريخ البشرية. لدينا الآن مجال ديمقراطي مشجع للغاية يمثله الفضاء السيبراني، المفتوح أمام الجميع على نطاق لم تكن للأجيال السابقة ولا لأي مستبد أو لأي رأي متشدد تصوره.  إذ لم تكن الاحتجاجات العالمية التي سبقت الحرب على العراق لتتحول إلى حقيقة لولا المجتمعات البديلة الموجودة في جميع أنحاء العالم، والتي تسقيها معلومات متنوعة، وعلى إدراك بقضايا البيئة وحقوق الإنسان وكذلك التطلعات التحررية التي تجمعنا جميعًا معًا على هذا الكوكب الصغير.