السبت  15 تشرين الثاني 2025

خطاب عزمي بشارة اللامتوازن لما بعد الحرب

2025-11-15 12:24:38 PM
خطاب عزمي بشارة اللامتوازن لما بعد الحرب

تدوين- فراس حج محمد

 لماذا أصف خطاب د. عزمي بشارة لما بعد الحرب بأنه غير متوازن؟

لقد استمعت إلى خطاب بشارة في مؤتمر" "فلسطين وأوروبا: عبء الماضي والديناميكيات المعاصرة" المنعقد في باريس يومي( 13 و14/11/2025) بمشاركة باحثين وأكاديميين، مكث يتحدث حوالي أربعين دقيقة بلغة عربية أكاديمية بحثية غاصة بالمصطلحات المتجاورة لغويا (عربية- فرنسية- ألمانية- إنجليزية- عبرية)، هذا التجاور المصطلحي المحكوم بطرفيه اللغويين؛ العربية- العبرية ربما يعني أكاديميا أنه يجتمع مع باحثين تلتبس عليهم تلك المصطلحات والدلالات في أذهانهم، لكن يبدو لي من خلال الحديث أن ثمة فهما عاما مشتركا ينطلق منه د. عزمي بشارة في كلمته الموصوفة بأنها "افتتاحية المؤتمر".

هل يؤثر المكان على الخطاب وطبيعته؟

استمعت إلى د. عزمي بشارة كثيـرا، طوال فتـرة حرب غزة الأخيـرة، يتحدث عن الحرب من الدوحة، ويتحدث لجمهور عربي، في وسيط إعلامي- فضائية العربي- مناصر للفلسطينيين ولقضيتهم، ويدافع عنهم ضد تلك الحرب الهمجية التي شنت عليهم، كان الخطاب فلسطينياً متوازنا جدا، على الرغم من أنه خطاب إعلامي، بمعنـى أنه بعيد في طبيعته عن الخطاب الأكاديمي، إلا أنه كان يقول المعنـى الأكاديمي نفسه بلغة إعلامية تصل الجمهور العربي واضحة دون أن تُغلّف بالمصطلحات "الفرط لغوية"، كان ثمة تركيـز على الوجه الأبشع للغرب ولأمريكا وللسياسة الدولية المناصرة للكيان الغاصب دون الحاجة إلى التأطير المنهجي أو التاريخي والعودة إلى المسألة الشرقية ومنابت المسألة اليهودية، كان النقاش منصبا على الحدث ودلالاته الإنسانية والأخلاقية، أما خطاب الرابع عشر من نوفمبر عام 2025 فقد كان خطابا باريسيا بحثيا أكاديميا يسعى إلى التوازن البحثي بلغة تبدو مهندسة منهجيا، لكنها غير متوازنة مع مآلات الأحداث على أرض الواقع وإن كانت متسقة مع الظرف السياسي لما بعد الحرب.

مسألتان مزعجتان جداً في هذا الخطاب، الأولى أنها توطّن العقلية البحثية على مسألة البحث التاريخي الصرف الخالي من مفردات الحق والأخلاقية، وجعلت الصراع على فلسطين صراعاً طبيعيا في ظل الصراع الاستعماري الذي سار بخطوات منهجية مدروسة، ليكون ذا صبغة تشبه الاستعمار الأمريكي والكندي والأسترالي والنيوزلندي، وكأنه يمهد لمسألة تتصل بهذا النموذج من الاستعمار الذي يعني في ما يعنيه أن تتحول فلسطين برمتها إلى نسخة "شرق أوسطية" أمريكية المآل أو كندية أو أسترالية، لا جنوب أفريقية، بمعنى أمركة فلسطين سياسيا وقانونيا، لتصبح كلها دولة واحدة تحت حكم المستعمرين الذين هم يهود بالمناسبة وصهاينة، وتتحول أفكار د. عزمي بشارة غيـر المعلن عنها في هذا الخطاب من الدولة الواحدة الديمقراطية للشعبين على غرار ما حدث في دولة جنوب أفريقيا بعد تفكيك نظام الفصل العنصري إلى دولة واحدة يهودية يحكمها الاستعمار الصهيوني ولكن بشرط أن تكون دولة لجميع مواطنيها عربا ويهوداً وتزول القوانين العنصرية، وتصبح مثل أمريكا التي لم تفرّق بين العربي وغيـر العربي، والإفريقي والآسيوي والأوروبي، فكلهم "أمريكيون"، فهي دولة مهاجرين والقانون يحمي الجميع بوصفهم جميعا مهاجرين، لهم الصفة ذاتها ولهم الحقوق ذاتها، ولكن تبقي الدولة "دولة استعمار وتوطين" حق للمهاجرين الذي غيروا سماتها وطبيعتها، لا حق سياسي لمواطنيها الأصليين الذين سيحصلون على حق مدني بالتساوي مع بقية القادمين والمتوطنين، وليس حقا سياسياً.

إن تركيـز خطاب عزمي الباريسي على الوجه العنصري وتبيان منشأه الطبيعي من طبيعة مستخدميه ولماذا هو عنصري، يعطي انطباعا مختلفاً عما كان يطرحه أيام الحرب، كانت طموحاته أعلى وخطابه أكثر تفاؤلا، لكنه الآن أكثر تصالحا مع نتائج الحرب الكارثية من احتلال قطاع غزة، والسيطرة على الجنوب اللبناني والتدخل في سوريا وقصفها متى أرادوا، لمجرد التسلية والعبث، وحجّموا إيران، إنهم يشعرون بالنشوة الغارقة في رقصة المنتصر على الشاطئ أو في ملاهي قمار الدم والموت.

هل غيّـرت هذه الظروف منهجية الباحث الأكاديمي وفكره إلى هذا الحد؟ إنه لأمر مرير أن يصبح التفكير على هذه الشاكلة، وفلسطين بقيت كما هي، بل لم تنتصر، لكنها لم تهزم كذلك، بقيت تصارع وحش الاستعمار، وصارت مهمتها أكثـر صعوبة، الآن فلسطين لا تدخل مرحلة جديدة كما كنا نظنّ، الآن يترسخ لفلسطين واقع أشد سوداوية من ذي قبل، دخلت أكثر في السياق الاستعماري، لتعود قضيتها إلى منشأ الاستعمار حيث القرن التاسع عشر، وبدلا من أن تتحرر فلسطين من فم الغول الذي كانت واقفة على بابه، ابتلعها الغول لتصبح في أحشائه، بمعنى أنها أصبحت ملتهمة، كانت قاب قوسين أو أدنى من أن تفلت من ذلك الفم، الآن انزلقت إلى معدة الغول! وخطاب بشارة الأخير يعترف بذلك ضمنياً.

هذا التوصيف الذي ذكره بطريقة أو بأخرى عزمي بشارة، وكأنه يعيد المستمعين إلى الخطوة الأولى للاستعمار الأوروبي الحديث، ويقول ها هي النهايات متسقة تماماً مع البدايات، وكل ذلك يضعه في الخط الآخر من المسألة أو المسألة الثانية الخطيـرة والمهمة، وهي حادثة السابع من أكتوبر.

لأول مرة أسمع بشارة يقول بهذه الصراحة "حدث جرائم في 7 أكتوبر" وكررها، لكنه ينفي أن تكون هولوكوست، كان يتجنب أن يتحدث بهذه الصراحة خلال الحرب، كان يرفض أن يتم التعامل مع المسألة بدءا من السابع من أكتوبر وكأنه بداية التاريخ، كان يقول هناك تاريخ من الاستعمار والقتل يمتد إلى أكثر من خمس وسبعين عاماً، في هذا الخطاب لم يعد سوى لعشرين عاما من حصار غزة، مع تأكيده لجرائم السابع من أكتوبر، وعلى ما يبدو كان مضطرا لهذه العودة قصيرة المدة، ليضع حدا زمنيا يمكن أن يُتفق عليه من الباحثين المشاركين له في المؤتمر، وفي هذا السياق، كأنه أخذ يتقبل جرائم الكيان الغاصب في غزة، لكن مع احتراسه بأنها قد بالغت في نزعة الانتقام، فقتلت أطباء وصحفيين وقصفت مدارس ومستشفيات. غاب عن هذا الخطاب القتلى الغزيون من الأطفال والنساء والمدنيين، هذا غير متوازن إطلاقا مع ما كان يصر عليه دائما في خطاب الحرب بأن المدنيين لا ذنب لهم، "واحد مدني في بيته شو دخله بما حدث بسبعة أكتوبر" هكذا كان يقول خلال الحرب أما بعد الحرب، فالأمر مختلف، لا حضور للمدنيين ولا لمعاناتهم.

هل لأن المؤتمر ذو طبيعة أكاديمية باريسية يجب أن تغيب مفردات المعاناة ويصبح الحديث أكثر بمفردات لا علاقة لها بالجوانب الإنسانية؟ ولذلك خفت الجانب الأخلاقي الفلسفي ومر عليه بشارة مرورا عابراً، لكن بشارة ما زال مؤمنا بالأخلاق الكونية مستخدما هذا المصطلح " Universal Values"، هل ثمة فرق بينه وبين مصطلح: "Global Values"" ليس لي خبرة في ذلك، لكنني أعتقد أن د. عزمي بشارة يعلم الفرق جيدا بين Universal وبين Global، فقد قصد القيم العالمية، وليس القيم الكونية، ولكل مصطلح مآلاته الفلسفية بطبيعة الحال، وهذا يختلف بطبيعة الحال عن مصطلح القيم الإنسانية " Humanistic values ".

لقد أشار أن هذه المنظومة القيمية قد انهارت الثقة فيها في بلادنا نحن العرب، وحتى عند الغربيين، ويقتبس بشارة من فلاسفة فرنسيين يجدون هذه القيم "مجرد خطاب غربي، هي عبارة عن نتاج لعلاقات القوة والسيطرة مثل أي خطاب آخر". وهذا يعني أن هذا الخطاب القيمي الغربي الفلسفي خطاب غير حقيقي حتى عند من أنشأه ودعا إليه، ومع ذلك يصرّ بشارة على أن انهيار الثقة فيه في بلدنا أمر كارثي. لقد سبق وناقشت هذه المسألة والفرق بين القيم الإسلامية والقيم الغربية، ودعوتُ بشارة إلى أن ينفضّ عن تلك القيم التي استخدمت استخداما استعماريا إلى منظومة قيم أخرى إنسانية، لا عالمية، ولا كونية، مرتبطة بالإنسان أينما وجد بغض النظر عن جغرافيته وعرقه ودينه، كما بشّر في نهاية كلمته عندما أشار إلى وجود جيل يؤمن بهذه القيم خارج نطاق الاستعمار ومفاهيمه، واستعمالات تلك القيم في السيطرة على الشعوب المقهورة، جيل ليس له إلا قناعاته التي أنشأها وحده دون تدخل من سياسي أو فيلسوف.

وأخيراً، لقد استمعت إلى الدكتور عزمي بشارة وأنا أفكر بيوم الخامس عشر من نوفمبر، هذا اليوم الذي أطلقتُ عليه اسم "نكتة نوفمبر البلهاء"، حيث تحتفل "جمهورية رام الله الوهمية" به كأنه يوم استقلال، ليكون يوم عطلة رسمية لا معنى له، سياسيا ولا وطنيا، بل إنه يوم يحمل ذكرى تثير الاشمئزاز والقرف بالنسبة لي- بنفس الدرجة من اجتراح لغة أكاديمية بحثية في توصيف "المسألة الفلسطينية- اليهودية" في خطاب عزمي بشارة هذا- لا سيما وأنا أرى القوم صرعى الفساد الإداري والسياسي والأمني، ويتسابقون من أجل تقديم خدمات جليلة ولا نهائية للاحتلال، فتنازلوا عن "الاستقلال الشكلي" ليرتضوا بالتبعية العمياء التي أصبحوا فيها أجراء بلا ثمن، وبلا أجر؛ لتحقيق أحلام الصهيونية الدينية والقوة اليهودية، والمتطرفين اليهود قاطبة، وكل ما يريدونه هو "المقاطعة" فقط، وليس مدينة رام الله حتى، فكيف يطيب لهؤلاء القوم الاحتفال بمهرجان التعذيب الوطني ليصبح بازرا لتصفية القضية على حساب الشعب والوطن.

لقد انطبق عليهم قول إبراهيم طوقان تماماً: "وطن يباع ويشترى وتقول فليحي الوطن"!

هل من علاقة بين الخطابين، خطاب السلطة في يوم الاستقلال الأبله، وبين خطاب عزمي بشارة غير أنهما نوفمبريان، أحدهما يثيـر الاشمئزاز والقرف وكل معنى التفاهة، والثاني يثيـر الحفيظة؟ إنهما في اعتقادي خطابان لا يضعان "المسألة الفلسطينية- اليهودية" في نصابها الصحيح، وتوصيفها الفلسفي السياسي المتين، الأول يغرقها في الوهم ولغة سياسية تافهة جداً ولا معنى لها، والثاني يغرقها في متاهات البحث المنهجي الأكاديمي الغاصة بالمصطلحات والإحالات التاريخية، المحلية والإقليمية والدولية، دون أي طائل يُذكر، والنتيجة واحدة؛ الصفر المؤوّل اعترافاً بضياع فلسطين، وكلا الخطابين يفلسفان هذا الضياع الذي ربما صار أبدياً إذا ما أمعن المرء النظر جيدا جداً في ما وراء خطاب عزمي بشارة، وأما ظاهر خطاب السلطة الفلسطينية فهو أوضح من أن يشرحه المحلل السياسي، وهذه استعارة من خطاب عزمي بشارة في وصفه للغة ترامب وتصريحاته المكشوفة.