تدوين- إصدارات
بمناسبة الذكرى المئوية لميلاد الفيلسوف الفرنسي الكبير جيل دولوز (1925-1995)، زفّت "دار مينوي" الباريسية بشرى سارة إلى محبي الفلسفة والفكر بطباعتها مجلّدين جديدين من الدروس التي ألقاها دولوز بين عامَي 1979 و1980 في جامعة فانسين، قبل أن تغلق أبوابها. حمل المجلدان عنواني "عن جهاز الدولة وآلة الحرب" و**"الخطوط التي تتكوّن منها حياتنا"**.
في قلب "مدرّجات فانسين" التي وصفها دولوز بـ "دراكولا في أنقى حالاته... أشبه بضريح"، كرّس الفيلسوف دورةً دراسية كاملة لأحد الأسئلة المركزية التي طرحها مع زميله فيليكس غاتاري في كتابهما "ألف هضبة": لغز أصل الدولة وتحوّلات آلة الحرب في ظل الرأسمالية الحديثة. وقد استلهم دولوز في تحليلاته من الاستراتيجي البروسي في القرن التاسع عشر، كارل فون كلاوزفيتز، والفيلسوف والمنظّر بول فيريليو، متسائلاً عمّا آلت إليه فكرة الحرب وممارستها منذ الحرب العالمية الثانية.
جهاز الالتقاط المدني: الدولة ليست وليدة الحرب
تكشف الدروس المكتوبة أن التحليل العميق لدولوز ينطلق من تمييز حاسم بين "جهاز الدولة" و "آلة الحرب". فالدولة، في نظره، لم تنشأ كوليدة مباشرة للحرب، بل هي في الأساس "جهاز التقاط مدني" (appareil de capture civile). يستمد جهاز الدولة سلطته الأصلية ليس من الجيوش والأسلحة، بل من أدوات مدنية كـ الشرطة والسجّانين، ومادته الأساسية هي "العمل" (Travail) و**"الكتابة"** (Écriture). ويرى دولوز أنه لا يمكن لجهاز دولة أن يتكوّن دون "جهاز كتابة"، لأن الكتابة هي الوسيلة التي يتم بها "تشفير" (surcoder) القوانين والعلاقات الاجتماعية الجماعية القديمة وتحويل نشاط البشر إلى عمل خاضع للضريبة، أي السيطرة على الأرض والعمل والثروة.
بناءً على هذه الفرضية، فإن آلة الحرب، التي يربطها دولوز في الأصل بالتنظيمات غير الدولتية مثل الرحّل، يكون هدفها الجوهري هو تدمير أجهزة الدولة. لكن الدولة تنجح في البقاء عبر "الاستيلاء" على هذه الآلة (s'approprier la machine de guerre) وتحويلها إلى "مؤسسات عسكرية" (armées et institutions militaires)، جاعلةً منها أداة لخدمتها. ومن هنا ينشأ التناقض الأساسي الذي يحدّد عمل الدولة في سعيها الدائم للسيطرة على القوة المدمرة للآلة التي استولت عليها.
سلام الرعب والفاشية الانتحارية
انطلاقاً من جملته الشهيرة: "الدولة الفاشية هي دولة انتحارية"، يطرح دولوز تساؤلات عن كيفية تحوّل أجهزة الدولة الحديثة إلى الفاشية أو الشموليّة. كانت تلك الدروس مناسبةً ليعود دولوز إلى تفكيك الحرب عبر نقيضها: السلام. لكنه سلامٌ من نوعٍ خاصّ: "سلام الرعب"، المصحوب برؤية أمنية على مستوى العالم، حيث يمكن لأيّ فرد اليوم أن يصبح "عدوّاً محتملاً"، ويحكم عليه بالموت عبر اقتران "جهاز الدولة وآلة الحرب" الذي وُلِدَ من الاستيلاء.
في زمن تتصاعد فيه آلة الموت الصهيونية والغربية ضد الفلسطينيين، يتردد صدى دولوز القوي مجدداً. فالفيلسوف الذي تعاطف مع محنة الفلسطينيين وخصّ القضية بثلاثة مقالات في كتابه "نظامان للمجانين" (1983)، منها مقابلة مطولة بعنوان "هنود فلسطين الحمر"، كأنه استشرف الموت الذي تفرضه دولة العدو على أهل غزة بوصفه "انقطاعاً يأتي دوماً من الخارج". وفي وجه كل من "يشمت بموت أهلنا، ومدننا وقرانا وزيتوننا وأرزاقنا"، تسترجع كل حيوية الجملة التي يطلقها دولوز في دروسه في فانسين:
"كلّ من يقول: يحيا الموت! هو فاشيّ. أنا على يقين أنه لا يمكن لأيّ جمال أن يمرّ عبر هذا الطريق. الحياة، لا شيء غير الحياة".