تدوين- راما الحموري
صدرت حديثاً عن دار الشروق رواية «الحصيد» للكاتب والمفكر المصري يوسف زيدان وهي عمل روائي لا يركز على التجديد في الشكل الفني أو رسم الشخصيات أو تقنيات السرد بقدر انشغاله بـ «الرؤية الفكرية» العميقة متناولاً العلاقة الشائكة بين «الأنا» و«الآخر» في الثقافة العربية ومستكشفاً مدى قدرتنا على قبول المختلف عنا عرقياً ودينياً وفكرياً وسياسياً.
وتبدو الرواية للوهلة الأولى كبحيرة سطحها هادئ وباطنها يضطرب بقوة إذ تستعيد الأحداث ما جرى خلال العام السابق على انفجار الثورات العربية التي أودت بعدة بلاد وجعلتها حصيداً حسب رؤية المؤلف وقناعاته.
تتخذ الرواية من الأحداث التي سبقت وتزامنت مع تفجيرات كنيسة القديسين بالإسكندرية ليلة رأس السنة 2011 والممهدة لما عُرف بـ «الربيع العربي» خلفية درامية وفكرية ويقدم زيدان رؤيته القاتمة بأن تلك التحولات لم تكن سوى «حصيد» بمعنى الدمار والاضمحلال والرماد وليس «حصاداً» سعيداً وهو ما أوضحه الكاتب في إحدى الجلسات الحوارية مشيراً إلى أن «الحصيد» لفظ قرآني يعني الدمار على عكس معنى «الحصاد» السعيد.
قصة حب تتفجّر مع انشقاق المجتمع
تدور أحداث الرواية حول بهير الشاب المصري البهائي، وهو شاب ينحدر من أسرة متوسطة يلتقي بـ يارا الفتاة اللبنانية ذات الأصول الدرزية في شوارع الإسكندرية فيقع في غرامها على الفور لكن سرعان ما تعترضها الهواجس فيستبد ببهير القلق من احتمال رفض أهل يارا له بسبب تباين المستوى الاجتماعي والاقتصادي والديني بينهما وتتضاعف هواجسه مع ظهور صديقه المقرب أنو الذي يمثل النقيض التام لشخصية بهير الانطوائية والمنقادة. فـ أنو هو شخصية غاضبة ومتمردة مهووس بأفكار «الأنوناكي» التي تقدم تفسيراً غير مألوف لنشأة الحضارات والتاريخ الإنساني وتنجذب إليه يارا وتبدأ بالوقوع في غرامه وبينما يسعى بهير جاهداً لإنقاذ حبه يقع تفجير كنيسة القديسين الصادم ليلة رأس السنة 2011 ليُفجّر معه ليس فقط العلاقة بين الأبطال الثلاثة بل يكشف عن هشاشة التركيبة الاجتماعية والسياسية التي كانت تسود البلاد قبيل الثورة المصرية
التقطاع بين الرومانسية والفلسفة والتاريخ
تمزج الرواية بنعومة بين الرومانسية والتاريخ وتطرح أسئلتها الفلسفية العميقة في سمة بارزة لكتابات يوسف زيدان يدعو القارئ لإعادة التفكير في معنى الوجود الإنساني ودور القدر والتناقض اللافت بين وحشية الإنسان وروحانيته. ويدمج الكاتب السرد التاريخي للسنوات التي سبقت التحولات الكبرى مع الواقع المعاصر متطرقاً لأحداث وأفكار سياسية بأسلوب مبطّن ورمزي يمنح العمل عمقاً فكرياً.
وتتجلى قدرة زيدان في هذا العمل على تحويل قصة عشق عادية إلى مادة للتأمل الوجودي العميق فهو يستخدم الخلفية التاريخية الحاسمة التي سبقت الثورات كإطار لطرح أسئلة فلسفية حول الحرية والمصير والآخر هذا التداخل البنيوي يمنح الرواية طبقات سردية وفكرية ترفعها من مجرد حكاية إلى وثيقة فكرية
أسلوب زيدان السرد الجزل والرمزية العالية
ولا يكتفي يوسف زيدان بسرد الأحداث ولا يهتم بتسارع وتيرتها بقدر اهتمامه بـ التفاصيل اللغوية والمعاني المبطنة والسرد الجزل والقدرة الفذة على الوصف الشكلي والمكاني بصورة تمكن القارئ من الشعور بأنه يرى الأحداث بعينيه ويفسّر العواطف والمعاني المبطنة في دواخل الإنسان وعمقه الوجودي. ورغم مفرداته المنتقاة وأسلوبه الجزل في السرد يستطيع أن يقدم فكرته التي تتقاطع في معانيها بين الواقعية والخيال بين الحاضر والتاريخ كمادة سلسة لفكر القارئ دون مبالغة ولا غموض بل بكل شفافية ووضوح وسهولة.
وعلى الرغم من أن الرواية فلسفية بالدرجة الأولى ولكنه استطاع التواري برمزية عالية من خلال الشخصيات والسرد الروائي المثالي للكاتب ويعتمد زيدان في روايته «الحصيد» على مخاطبة القارئ الذي لا يقرأ للمعرفة فقط بل للفهم والبحث في العمق واكتشاف معاني الرمزية في الرواية لابد من التأمل والتفكير والفهم فالسطحية لا تعني أنك اكتشفت معاني الرواية الحقيقية بل أنت أمام سرد روائي بحاجة لفهم المستور وسماع المسكوت عنه
مقتطف من الرواية
من أجواء الرواية التي تمزج الرومانسية بالتأمل الوجودي نقرأ:
«كان ميقات الحب قد حان حينما رأى الشاب الحائر بهير للمرة الأولى الفتاة الرقيقة حريرية السمت والاسم يارا جرى لقاؤهما من دون قصد ولا تمهيد بعد ظهيرة اليوم الغائم المصادفة للجمعة الأولى من العام العاشر بعد الألفين بحسب ما يحسب الناس ويظنون فيعدون أيامهم وما كان بهير يدرك آنذاك أن كل حب هو في الأصل حب من طرف واحد وقد يلاقيه حب أو يقابله حرمان وحسرة يوم لقائهما الأول هذا لمحها مصادفة في الحديقة غير الغناء النائمة على الجانب الأيسر من بهو الفندق المنفرد مريب الحضور الواقف مبناه الأسطواني في غموض غير مخيف على يمين الطريق الساحلي الصحراوي الواصل إلى الساحل الشمالي الذي تمتد شواطئه من الإسكندرية إلى المدينة التي كان اسمها في القدم البلدة الآمونية نسبة إلى الإله المعبود ثم صار اسمها اليوم مرسى مطروح من دون تحديد لشخصية هذا الرجل المدعو مطروح أو للسبب الذي دعاه إلى الطرح أو الرسو هناك»
عن يوسف زيدان
تجدر الإشارة إلى أن مؤلف الرواية يوسف زيدان هو مفكر وروائي مصري مرموق حاصل على درجة الأستاذية في الفلسفة وتاريخ العلوم صدر له أكثر من سبعين كتاباً تنوَّعت أعماله بين الإبداع الروائي والمجموعات القصصية والبحوث التاريخية والفلسفية نالت أعماله جوائز دولية عديدة ونالت روايته الأشهر "عزازيل" عدة جوائز عالمية أبرزها الجائزة العالمية للرواية العربية/البوكر 2009 وجائزة أنوبي 2012 وجائزة بانيبال 2013.