هل البشر مسكونون بهاجس المؤامرة؟ وهل هذا هو قدرهم الذي لا يملكون منه فكاكاً؟ حقيقة أن نظرية المؤامرة Conspiracy Theory قديمة قِدم التاريخ ذاته، وهي تقوم على فكرة مركزية مفادها أن هناك مجموعة خفية وسرية من البشر تتحكم بالعالم في الخفاء وسوف تقوم بتدميره إن تُركت وشأنها، وفي أوروبا في عصورها المظلمة، وبحسب البعض، وُجِدت البيئة المثالية التي يتكاثر فيها فطر التآمر، حيث الفساد السياسي والصراعات الدينة والظلام العلمي والمعرفي، وأنه بمجرد أن انقشع الظلام وأشرق عصر التنوير والحريات الدينية والسياسية انهزم هذا الفكر التآمري.
غير أن فطر التآمر لا يزال متفشياً في كثير من المجتمعات التي لم تنتقل بعد لطور التحضر، فمجتمع التآمر يبرر إخفاقاته عبر التضخيم والتهويل من فكر المؤامرة ومن ثم أضحت لدى كثير من المجتمعات ذريعة أو عائق مركزي في الحول بين ما يطمحون إليه من تحضر وانعتاق من ارتهانات واقعهم، فيهرعون لاتهام الآخر بالتآمر عليهم لإفشال مشروعاتهم الحضارية والنهضوية.
فهي إذن تعني وضع اللوم على الأطراف الخارجية أو قوى الاستعمار في إنتاج هذا الواقع المتردي، صحيح إن هذا الواقع السلبي هو نتيجة لبعض الممارسات الشنيعة للاستعمار، إلا أن هذا لا يعني التنصُّل من المسئولية، كما لا يعني أيضاً الاستسلام لهذا الواقع والكف عن تطوير الذات للبحث عن سبل النهوض مرة أخرى.
وعليه يرى البعض أن المبالغة الكبيرة في تضخيم نظرية المؤامرة هو في حقيقة الأمر تبسيط مُخِل للأمور، وهو مخالف للتفكير الموضوعي والعلمي، لكنه لاينفي حقيقة وجود المؤامرات، ومع ذلك لا يجب التهويل من تلك المؤامرات ولا حتى التهوين منها فهي موجودة وستظل موجودة، إلا أنها، وفي التحليل الأخير، لا تحكم حركة التاريخ .
ونحن نعتقد أن اصطلاح (مؤامرة نظرية المؤامرة) هو الأكثر تفسيراً لما يقوم به الإعلام المؤدلج من توظيف لهذه النظرية، فهي في حقيقة الأمر مؤامرة على الجماهير تقوم الأنظمة السلطوية بحبكها عبر وسائل إعلامها (كما كان يفعل النظام النازي) ومن ثم الترويج لها بشكل واسع عبر تلك الوسائل الإعلامية من أجل إخضاع تلك الجماهير وضمان اصطفافها خلف المجموعة الحاكمة مهما بلغت بشاعة ممارساتها السياسية.
إذ عبر تلك النظرية يتم الإيحاء للمتلقي أن هناك مؤامرة كبرى ضده، وهى أكبر من أن يتصدى لها، فهي تفوق قدراته، وبالتالي يستسلم لها متبنياً الموقف السلبي من الأحداث.
واحدة من الملاحظات المركزية التي علينا أن نُنصت لها جيداً هي أن نظرية المؤامرة ليست نظرية بأية حال فهي لاترقى لذلك ولا تمتلك القواعد المنطقية للبرهنة على ما تطرحه من فرضيات، ومن ثم فالتوصيف الصحيح لها أنها ظاهرة التفكير التآمري، غير أنها راجت في عالمنا بهذا الإسم(نظرية المؤامرة).
تقول أستاذ علم النفس الاجتماعي كارين دوجلاس في معرض تفسيرها للطمأنينة المؤقتة والزائفة التي تصاحب الإيمان بنظرية المؤامرة :" قد يتوق الذين ينجذبون نحو نظريات المؤامرة، إلى الشعور بالأمن، لكنهم يحصلون في واقع الأمر على العكس تماماً، إذ تزيد نظريات المؤامرة من الشعور بالعجز والإحباط لديهم ، بدلاً من أن تُشعر المؤمنين بها بتحسن أوضاعهم".
ويرتبط رواج نظرية المؤامرة من عدمه بالمستوى الحضاري للشعوب، فنجدها تزدهر داخل المجتمعات المتخلفة في حين تكاد تتلاشى وتخفت داخل المجتمعات المتقدمة، أي أنه كلما ازدادت بنية التخلف في بلد كلما زاد بالمقابل لجوء أفراده لتبني الأطروحات التآمرية.
والإشكالية هنا أن انتشار فكر المؤامرة داخل تلك المجتمعات، وكما يذهب مجدي خليل، من شأنه أن يُظهر دُعاتها على أنهم وطنيون، في حين من يخطط لمجتمعه بأسلوب علمي واقعي يجري اتهامه بالعمالة والتواطؤ، وفي النهاية وفي ظل هذا المناخ ينتصر الفكر التآمري وتضرب الفوضى جنبات المجتمع.
والجدير بالذكر أن الحركة الصهيونية هي من أكثر الأيديولوجيات التي وظفت نظرية المؤامرة لخدمة مشروعها الاستيطاني ذو النزعة التوسعية المدبجة بالعنف، فهي تتغذّى على نظرية المؤامرة على مستويين:
المستوى الأول: إذ تروج لوجود مؤامرة كبرى ضدها، ومن ثم حقها في الدفاع عن نفسها ضد هذه المؤامرة، فيبدو عدوانها على الآخرين وكأنه ضربات استباقية لإحباط عدوان مستقبلي مُحتمل عليها.
المستوى الثاني: ويتمحور حول خلق قناعة دولية بوجود مؤامرة صهيونية عالمية والترويج لأكذوبة أن الصهاينة مسيطرون على العالم، وبالتالي لا أحد يستطيع التصدي لهم، فيصيب الجميع اليأس والإحباط، ويضربه العجز أمام المؤامرات الصهيونية المزعومة والتي جرى تضخيمها في الوعي العالمي بشكل بشع، وهي إستراتيجية نفسية من شأنها جعل الجميع يشعر بالانهزام والانكسار أمامها فيستسلم لواقعه البائس.
هي إذن تتآمر وتتهم الجميع بأنه يتآمر ضدها، إذ تتبع الحركة الصهيونية استراتيجية تضخم نظرية المؤامرة في الوعي الجمعي العالمي لتخويف الآخر منها من ناحية، ولابتزاز العالم عبر تقمُّص دور الضحية، ضحية هذه المؤامرات، من ناحية أخرى.
وتفترض مقولات المؤامرة دائماً، وكما يذهب محمد شومان، أن الصراع ونفي الآخر هما جوهر العلاقة بين الأفراد والشعوب، فهناك ثنائية تعيد إنتاج نفسها بشكل دائم وهي(متآمِر، ومتآمَر عليه) فهي علاقة صراعية، ومن ناحية أخرى فإن التسليم بأنك ضعيف ومفعول بك دائماً هما من أقوى أسلحة مقولات المؤامرة، كما أنها تقدم تفسيراً خرافياً ومبسطاً للأحداث والتطورات المعقدة التي تجري في العالم من شأنها خلق حالة من الارتياح النفسي الكاذب لدى المُتلقي بأنه أضحى يفهم كل شيء .
ويرى كثيرون أنه توجد علاقة وثيقة بين نظرية المؤامرة والاستبداد السياسي، إذ يلجأ إليها الحاكم المستبد أو السلطوي لحماية نظامه (كما في النظام الهتلري النازي الذي ادعى أن أصوات المعارضة ما هي إلا طابور خامس ممول من الخارج في إطار مؤامرة كبرى لتدمير ألمانيا) فخطورة هذا الفكر أنه يؤدي إلى الاستسلام والقبول بما هو قائم على اعتبار أن البديل سيكون أفظع وأخطر وهنا تكمن خطورته في تقويض قوة الدفع والتغيير الكامنة داخل البشر، ومن ثم تجري محاولة تحنيط الزمن عند لحظة تاريخية محددة فتسقط الأمم من التاريخ.
ومن أهم مظاهر التوظيف السياسي لنظرية المؤامرة التغاضي عن الأخطاء التي تقوم بها نُظُم الحكم السلطوي بذريعة أن المصلحة العامة تقتضي السكوت عن تلك الأخطاء في ذلك الوقت والتركيز على التصدي للمتآمرين، بل وتصوير كل من يعارض هذا النظام بأنه من قوى الشر أو أنه مُمولاً من العصبة المتآمرة، فإبادة هتلر لملايين من البشر هو أمر مبرر تماماً ويجب السكوت عنه طالما أن المصلحة الوطنية تقتضي ذلك، بحسب ما كان يروج له إعلام النازي.
كما أن تيارات العنف الديني والإرهاب تلجأ للفكر التآمري لتبرير عنفها ضد المجتمع بدعوى أن هناك مؤامرة كبرى على الدين، وأن العنف هو الطريقة الوحيد للتصدي لتلك المؤامرة.
وقد شهدت السنوات الأخيرة تفاقماً وانتشاراً غير مسبوق للتفسير التآمري للأحداث، فنحن إزاء موجة كبيرة من التفسير التآمري تجتاح الواقع، لعل أبرز سماتها بحسب البعض: أولاً:" أن موجة التفكير التآمري الحالية تتسم بطابع اكتساحي، إذ طالت كل القضايا، ثانياً: إن تلك الموجة تتسم بطابع وبائي، فهي تنتشر علي جميع المستويات من البشر، ثالثاً: إن تلك الموجة تتسم بالطابع المزمن، فلم تعد مجرد موجة مؤقتة ترتبط بالحروب أو الاضطرابات فقط" .
كذلك فمن العوامل التي تساعد على انتشار فكر المؤامرة هو أن الفرد الذي هو ضحية لنظرية المؤامرة نفسها قد يصبح بمرور الوقت واحداً من المروجين لها ونشرِها بين الجموع، ومن ثم تلتهم تلك الهواجس التآمرية المجتمع داخلها.
يقول مايكل باركون: " تنطلق نظرية المؤامرة من فكرة مركزية مفادها أن الكون محكوم بثلاثة مبادئ رئيسية: لا شيء يحدث بالصدفة، ولا شيء يكون كما يبدو عليه، وكل شيء مرتبط ببعضه، ومن ثم تتألف نظرية المؤامرة من مجموعة من القناعات المغلقة غير القابلة للدحض، هنا تصبح نظرية المؤامرة مسألة إيمان غيبي لا يتطلب دليل عقلي، وفي تلك الحالة يغيب العقل تماماً".
وفي ظل وسائل الاتصال الحديثة وما حدث من تقدم هائل في مجال الإعلام كان يُعتقد أنه سيجري القضاء على الفكر التآمري، غير أن ما حدث هو أن زادت الموضوعات غموضاً نتيجة سيل الأخبار المتناقضة واالتحليلات المتضاربة والأكاذيب التي تتواتر كل لحظة علينا عبر وسائل الاتصال، ومن ثم لم يعد أحد يعرف ماذا حدث بالضبط، وكيف حدث، ومن هو وراء الحدث وما هي الأهداف المرجوة من وراء ذلك؟ فهناك حالة من التشوش الهائل وقد ضربت الوعي الجمعي كإعصار مدمر، وهو ما أوجد بيئة خصبة لانتشار هذا الفكر التآمري.
لقد حاول المفكر العربي مالك بن نبي أن يجتث هذه النظرية من العقل العربي فصاغ مصطلح " القابلية للاستعمار" كبديل لمصطلح " الاستعمار"، أي أن مشكلة تخلُّفنا تكمن فينا نحن وليس في الآخر مؤكداً على حقيقة مفادها أن مناعة المجتمعات وقدرتها علي تجاوز التخلف من داخلها هما خط الدفاع الأول أمام الاختراق الخارجي.
والجدير بالذكر أنه عندما ظهرت جماعات داعش كان التفسير الأسهل للخطاب التآمري أنها نتاج مؤامرة صهيونية عالمية لتشويه الإسلام وتفكيك المنطقة، وهو تفسير، وكما يذهب خالد حنفي، قد تجاهل طبيعة العوامل البنيوية التي تحفز علي نشأة جماعات العنف في المنطقة مثل الصراع السياسي، والصراعات المذهبية، والفقر والتهميش وغياب العدالة الاجتماعية، وانعدام الأفق السياسي لدى الشباب نتيجة إغلاق المجال العام.
وهي أوضاع من شأنها أن تتفاقم في ظل قابلية العقل العربي لفكر المؤامرة، ورفضه الاعتراف بإخفاقات الذات ودور الصراعات الداخلية في تخلف الأمم ، وهو ما يؤكد عليه العلامة ابن خلدون بأن الغزو الخارجي لا يمكن له أن يتم إلا في حالة تفكك الجبهة الداخلية، وكما يقول المؤرخ الكبير أرنولد توينبي: " الأمم لا تموت قتلاً وإنما تموت انتحاراً "، فأسباب الانهيار داخلية أكثر منها مؤامرات خارجية، فقبل الانهيار هناك دائما القابلية للانهيار.
وفي التحليل الأخير يمكن القول أن العالم العربي لايزال أمامه الكثير من الجهد للخلاص من ذلك التفكير التآمري الذي يُحكم قبضته على عقله الجمعي مانعاً إياه من الانخراط في بناء ملامح مشروعه الحضاري، يقول أحد الباحثين الغربيين في عرضه لكتاب " اليد الخفية" للمؤلف الأمريكي دانيال بايبس واصفاً هذه الحالة في عبارة شديدة الدلالة: " في عالم اليوم فإن العرب والإيرانيين أكثر شعوب العالم إيمانا بنظريات التآمر وأشدهم حماساً في نشرها، وإلى حد ما، يرجع هذا إلى ثقافة هذه الشعوب، كما أن كلا الشعبين نظرياتهم التآمرية مليئة بالخيال، كما أن الخوف والجهل نتيجة غياب الشفافية وضيق الأفق السياسي يجعل الجماهير تعيش تحت رحمة الشائعات ذات النزعة التآمرية"، ومن ثم الخضوع التام لنظرية المؤامرة.
ومن دون شك فإنه في ظل هذا المناخ الذي سِمته الأساسية إقالة العقل وإحالته للتقاعد المبكر والقطيعة الكاملة مع المعرفة العلمية الحقة ستكتسب نظرية المؤامرة طابعاً اكتساحياً وبائياً فتنتشر انتشار النار في الهشيم لتلتهم أية نظرية عقلانية أو موضوعية تحاول التصدي لها.