الحدث- ترجمة براء بدر
نشرت مجلة جاكوبين Jaconbian مقالا لبيتر هوديس Peter Hudis * حول تأثير الثورة الجزائرية على فكر فرانس فانون، الطبيب والثوري الذي ألهمت كتاباته ومواقفه كثيراً من حركات التحرر في أرجاء العالم، والذي آمن بأن مقاومة الاستعمار تتم باستعمال العنف فقط من جهة المقموع، فما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة.
وفيما يلي ترجمة المقال:
لا تتصف رؤية فرانس فانون السياسية للجنوب العالمي بالتجريد: لقد صيغت بفعل النضال التحرري الجزائري. إذ أن هذا النضال كان له الفضل في إقناع فانون بأن الاستقلال الوطني سيكون أجوفًا دون ثورة اجتماعية.
دفعت الذكرى الستون لوفاة فرانس فانون في الخامس من ديسمبر من العام الماضي لظهور عدد من المحاولات لإعادة النظر في إرثه. وركز العديد منها على ما أسماه فانون "الوصية": وهي تقييمه الرائد للثورات الأفريقية في كتاب "معذبو الأرض"، والذي اكتمل قبل أسابيع فقط من وفاته بسرطان الدم عن عمر يناهز ستة وثلاثين عامًا.
وعلى الرغم من أن الكثيرين أشادوا بكتاب "معذبو الأرض" في وقت نشره باعتباره "الكتاب المقدس لثورة العالم الثالث"، إلا أن الكتاب يشير فقط بشكل عابر إلى التطورات في آسيا والشرق الأوسط وأمريكا اللاتينية، ولا يحاول تقديم تحليل شامل للعديد من حركات التحرر الأفريقية التي كانت نشطة في ذلك الوقت. النقطة المحورية في هذا الأمر هي بالأحرى تفصيل توسطه في الثورة الجزائرية التي شارك فيها مؤلف الكتاب مباشرة بعد وقت قصير من وصوله إلى الجزائر العاصمة في عام 1953.
كان لدى فانون سبب وجيه لرؤية الثورة الجزائرية كنقطة ارتكاز وطليعة للثورات الأفريقية الأوسع. وبينما كانت الإمبريالية الفرنسية والبريطانية على استعداد للتنازل عن الاستقلال السياسي لبعض مستعمراتها الأفريقية بحلول أواخر الخمسينيات من القرن الماضي، كانت الأمور مختلفة تمامًا في الجزائر. ضمت البلاد نسبة كبيرة من المستوطنين الأوروبيين الذين تربطهم علاقات وثيقة بفرنسا، وعارض كل تيار سياسي فرنسي رئيسي تقريبًا استقلالها - بما في ذلك الحزبان الاشتراكي والشيوعي. حشدت باريس عشرات الآلاف من القوات في محاولة لقمع الثورة. قتلت هذه الحرب الدموية ضد التمرد ما يقرب من مليون شخص.
رأى فانون أنه إذا هُزمت الثورة الجزائرية أو فشلت في جلب "إنسانية جديدة" ردًا على النزعة الاستعمارية الأوربية في الحط من إنسانية المستعمَرين، فإن الدول الأفريقية المستقلة حديثًا ستصبح خاضعة لسلطة الاستعمار الجديد الأكثر مكراً ومخادعة. إن "معذبو الأرض" هو في جزء منه احتفاء بفورة الإبداع والتنظيم الذاتي الذي انبثق عن الجماهير الجزائرية في سياق نضالها المسلح الذي دام عقدًا من الزمن.
وكما جاء فيما كتب فانون في الصفحة الثانية من الكتاب:
محو الاستعمار لا يمكن أن يعبر عبورا دون أن يلاحظه أحد، لأنه يتناول الوجود، لأنه يغير الوجود تغييرا أساسياً، لأن أناسا مشاهدين يسحقهم أنهم ليس لهم ماهية، يأتي محو الاستعمار هذا فيحيلهم أناساً فعالين ممتازين يدخلون تيار التاريخ دخولاً رائعاً.
في الوقت نفسه، أطلق فانون تحذيرًا صارخًا من أن الدول المستقلة حديثًا سوف تنكص نحو الاستبداد والشوفينية العرقية والقبلية إذا فشلت في التقدم نحو ثورة اجتماعية يمكن أن تقتلع الشكل "القائم" للعلاقات الإنسانية التي حددتها الرأسمالية العنصرية. كما تنبأ فانون بأنه: "إذا لم يتم تفسير القومية وإثراؤها وتعميقها، وإذا لم تتحول بسرعة كبيرة إلى وعي اجتماعي وسياسي، وإلى إنسانية، فإنها ستؤدي إلى طريق مسدود".
لم ينتقل فانون في الأصل إلى الجزائر ليصبح جزءًا من ثورة، بل عمل كطبيب نفسي في بيلدا جوينفيل، خارج الجزائر العاصمة. وُلِد في جزيرة مارتينيك الكاريبية الخاضعة للحكم الفرنسي، ولم يكن يعرف الكثير عن مجتمع شمال إفريقيا في ذلك الوقت، ولم يكن يتحدث العربية ولا الأمازيغية.
ومع ذلك، فقد كان سريع التعلم، وبعد أن أطلقت جبهة التحرير الوطنية (FLN) الثورة في 1 نوفمبر 1954، انخرط بفاعلية كمؤيد لها ومن ثم كمتحدث باسمها. وليس من قبيل المبالغة القول إنه منذ ذلك الحين وحتى نهاية حياته، كرس فانون نفسه تمامًا لقضية استقلال الجزائر، حيث خدم منذ عام 1959 كسفير متجول لجبهة التحرير الوطني في دول جنوب الصحراء الإفريقية، والتي تقاطع معها مرارًا وتكرارًا في محاولة منه لتجنيد الدعم للثورة.
ومع ذلك، كان لدى فانون أسباب تدعو للقلق بشأن اتجاه جبهة التحرير الوطني قبل وقت طويل من كتابته "معذبو الأرض". وعلى الرغم من أنها بدت وكأنها تقدم وجهًا عامًا موحدًا، إلا أنها قد ضمت، مثلها مثل جميع حركات التحرر، العديد من الميول السياسية. كان البعض يحب فانون كثيرًا، مثل قائد جبهة التحرير الوطني سليمان دهيليس (الملقب بالعقيد صادق). فقد أقام فانون علاقات وثيقة مع دهيليس، الذي كان يُنظر إليه على أنه جزء من الجناح الماركسي لجبهة التحرير الوطني، منذ عام 1955.
والأهم من ذلك كان رمضان عبان، وهو اشتراكي علماني أصبح المنظم الرئيسي لجبهة التحرير الوطني في الجزائر العاصمة في عام 1955 وكان مهندس معركة الجزائر الشهيرة في 1956-1957. تحالف فانون مع عبان واعتبره في كثير من النواحي معلمه السياسي.
وفي وقت ظهورها العلني في نهاية عام 1954، أصدرت جبهة التحرير الوطني بيانًا يوضح أهدافها، لكنه كان غامضًا بشأن أيديولوجية الحركة وهيكلها وأهدافها النهائية. كانت الانقسامات الداخلية حول شكل واتجاه جبهة التحرير الوطني تغلي. أدى ذلك إلى عقد مؤتمر سري في الصومام في أغسطس 1956 في محاولة لحل هذه الخلافات.
لم يحضر فانون المؤتمر، لكنه دعم بقوة المواقف التي اتخذت هناك بمبادرة من عبان. وتضمنت تلك المواقف التأكيد على أسبقية القيادة السياسية لجبهة التحرير الوطني على قادتها العسكريين وعلى أولوية "قواتها الداخلية" على تلك الموجودة خارج الجزائر. كما قرر المؤتمر أن جبهة التحرير الوطني يجب أن تتخذ قراراتها على أساس جماعي وديمقراطي، وأكد على الحاجة إلى كسب الدعم لقضيته في فرنسا، ووعد بحقوق متساوية للأقليات اليهودية والأوروبية في الجزائر بعد الاستقلال.
ومع ذلك، استمرت التوترات في التفاقم بين العناصر الراديكالية والعلمانية الاشتراكية التابعة لجبهة التحرير الوطني والقوى الأكثر محافظة، والتي فضل بعضها قيام دولة عربية إسلامية. ووفقا لفرحات عباس، قائد الحكومة المؤقتة لجبهة التحرير الوطني في المنفى من 1958 إلى 1961، فإن أباني قال للقادة العسكريين في مرحلة ما: "لقد خلقت قوة تقوم على القوة العسكرية، لكن السياسة هي أمر آخر ولا يمكن أن يديرها أميون وجهلة". وفي مناسبة أخرى قال: "إنهم يجسدون نقيض الحرية والديمقراطية التي نريدها لجزائر مستقلة… لا يمكن للحكام المطلقين أن يحكموا دون منازع ". وقد أيد فانون موقف أباني، لكن كثيرين في جبهة التحرير الوطني لم يفعلوا ذلك.
أحمد بن بلة، الذي أصبح فيما بعد أول زعيم للجزائر المستقلة من عام 1962 إلى عام 1965، كان خصمًا لأباني وعارض مؤتمر الصومام. وبحلول صيف عام 1957، أجبر أباني على الخروج من قيادة جبهة التحرير الوطني بمساعدة عبد الحفيظ بوصوف ولخضر بن طوبال. كره فانون بشدة آخر شخصيتين، وأخبر صديقًا له أنه لا يمكنهم "تصور أي شيء يتجاوز الاستقلال" وأنهم "يتنافسون باستمرار على السلطة".
"اسألهم عن الشكل الذي ستبدو عليه الجزائر المستقبلية، ليست لديهم أي إجابة. فكرة الدولة العلمانية أو الاشتراكية، فكرة الإنسان في هذا الصدد، هذه أشياء غريبة تمامًا عنهم… يريدون أن تكون لهم سلطة في هذه الجزائر الجديدة، لكن إلى أي غاية؟ هم أنفسهم لا يعرفون، ويعتقدون أن أي شيء لا يمثل حقيقة مجردة يشكل خطرا على الثورة".
وبالرغم من كل هذه الاختلافات، ظل فانون مخلصًا تمامًا لجبهة التحرير الوطني ولم يصرح مطلقًا بمثل هذه الانتقادات علنًا، حتى عندما تم إجبار أباني بشكل غامض على "الاختفاء"، وبعد وصوله إلى السلطة في عام 1962، اعترفت جبهة التحرير الوطني بأن بعض زملائه قد قتلوه.
طارد موت أباني فانون، حتى نهاية حياته، ومع ذلك، فقد فهم أنه إذا عبّر علنًا عن خلافات داخل جبهة التحرير الوطني، فإن الإمبريالية الفرنسية ستستخدم هذا لتقسيم الحركة، وقبل فانون الانضباط الذي تستتبعه العضوية في منظمة ثورية تشارك في الكفاح المسلح ضد عدو قوي.
تحدثت أليس شيركي، التي عملت عن كثب مع فانون لسنوات عديدة، عن أحد مخاوفه الرئيسية في السنوات الأخيرة من حياته، قائلة: "كان فانون قلقًا بشأن شكل المجتمع الجديد الذي سينشأ في الجزائر ما بعد الاستقلال، كانت الآفاق قاتمة - برجوازية جديدة مستعدة للاستمرار من حيث توقف الآخرون، أو صراع على السلطة بين مختلف العشائر، أو حركة دينية من شأنها أن تنجح في تحديد طبيعة الدولة".
أسست هذه المخاوف، بشكل مباشر، مجادلاته في "معذبو الأرض"، وكان النضال من أجل التحرر الوطني الجزائري حركة متعددة الطبقات تضم فلاحين وعمال حضريين و"اللومبنبروليتريا"* والبرجوازية الوطنية، على الرغم من الدور المهم الذي لعبه أعضاء الطبقة الأخيرة في الكفاح من أجل الاستقلال، رأى فانون أنها ستلعب دورًا رجعيًا عند الوصول إلى السلطة.
صور فصل مشهور في الكتاب، بعنوان "مطبات الوعي القومي"؛ البرجوازية الوطنية في السياق الأفريقي على أنها طبقة طفيلية تفتقر إلى القوة الاقتصادية أو الأفكار وغير آمنة سياسياً، فعند وصولها إلى السلطة، ستسعى إلى تحقيق مصلحتها الذاتية الضيقة على حساب الجماهير، "بالتالي، فإن المهمة التاريخية لبرجوازية وطنية أصيلة في بلد رجعي، حسب تفكيرنا، هي التنصل من وضعها كبرجوازية وأداة لرأس المال، وأن تصبح خاضعة كليًا للرأسمال الثوري الذي يمثله الشعب".
وكتب فانون أن "هذا أثار السؤال النظري، الذي طُرح على مدار الخمسين عامًا الماضية، عند تناول تاريخ البلدان الرجعية، أي ما إذا كان من الممكن تخطي المرحلة البرجوازية بشكل فعال".
وتشير "الخمسون سنة الماضية" هنا إلى الفترة التي أعقبت الثورة الروسية عام 1905، عندما ناقش الماركسيون بشدة ما إذا كان من الضروري وجود مرحلة من التطور الرأسمالي تحت قيادة البرجوازية الليبرالية بعد الإطاحة بالقيصرية، وكانت روسيا في ذلك الوقت دولة رجعية، ورأى العديد من الماركسيين أنها لم تكن مستعدة للانتقال الفوري إلى الاشتراكية، وقد وسعت القيادة السوفيتية والأممية الشيوعية لاحقًا المبادئ النظرية التي تم وضعها في السياق الروسي لتشمل دولًا أخرى رجعية مثل الصين.
جلب فانون هذا الجدل التاريخي للتأثير على الثورات الأفريقية في عصره، بحجة أن "المرحلة البرجوازية غير واردة".
كيف تصور حدوث ذلك؟ كان فانون قد تحدث عن هذا الأمر لأول مرة قبل عدة سنوات في مقال لصحيفة "المجاهد" التابعة لجبهة التحرير الوطني، نشر من المنفى في تونس.
كتب في "الثورة الديمقراطية": "في الجزائر، حرب التحرير الوطني لا يمكن تمييزها عن الثورة الديمقراطية". وتتكون هذه الثورة الديمقراطية من جزئين:
"من ناحية، فإنه يعتمد على القيم الأساسية للإنسانية الحديثة فيما يتعلق بالفرد الذي يتم أخذه كشخص: حرية الفرد، والمساواة في الحقوق والواجبات بين المواطنين، وحرية الوجدان، وحرية التجمع السلمي، وما إلى ذلك، كل ما يسمح للفرد بالازدهار ممارسة قراره الشخصي بحرية".
من الصعب تخيل دفاع أقوى من التعددية الديمقراطية، ومع هذا، ذهب فانون إلى أبعد من ذلك، قائلاً: "من ناحية أخرى، تُعرَّف فكرة الديمقراطية، التي تتعارض مع كل قمع واستبداد، على أنها مفهوم للسلطة، وفي هذه الحالة يدل على أن مصدر كل سلطة وسيادة ينبع من الشعب".
من الواضح أنه كان يعتقد أن الاستقلال الوطني يجب أن يأخذ شكل جمهورية ديمقراطية تكون تحت سيطرة الجماهير وليس البرجوازية. فقط مثل هذا الإطار السياسي هو الذي يمكن أن يمكّن الثورة من التطور إلى حد تقديم العطاءات إلى لا إنسانية المجتمع الرأسمالي.
كان فانون مدركًا تمامًا أن الانتقال من الوعي "القومي" إلى الوعي "الاجتماعي"، من السيطرة الاستعمارية إلى المستقبل الاشتراكي؛ لا يمكن تحقيقه بين عشية وضحاها. ومن أجل التقدم نحو هذا الهدف، يجب أن يقوم الاستقلال الوطني على ديمقراطية شاملة تظل راسخة تمامًا في الجماهير - الغالبية العظمى منهم في الحالة الجزائرية كانوا من الفلاحين (حسب تقدير فانون، 82 في المائة من السكان)، وقال إنه إذا لم يحدث ذلك، فسيكون تحقيق الاستقلال الوطني بمثابة "قوقعة فارغة".
فكيف يصور "معذبو الأرض" تحولاً ديمقراطياً "ينبع فيه مصدر كل سلطة وسيادة من الشعب؟"، لقد كانت اللامركزية محورية في ذلك، في معارضة النماذج المركزية للتنمية التي تبنتها جميع الحركات الاشتراكية والقومية تقريبًا في ذلك الوقت، وجادل فانون بأنه من أجل ضمان أن "الفاصل هو الشعب وأن السحر يكمن في أيديهم وحدهم"، يجب على الأمة أن تكون "لامركزية إلى أقصى حد".
وأضاف أنه "يجب تجنب تمركز كل شيء في العاصمة"، وأنه لا ينبغي للمسؤولين الحكوميين الإقامة في مكان واحد ولكن يجب عليهم التحرك في جميع أنحاء البلاد للبقاء على اتصال مع الجماهير الريفية والحضرية، وهذا لا يعني أنه عارض تأميم وسائل الإنتاج: "لكن من الواضح أن مثل هذا التأميم يجب ألا يأخذ جانب السيطرة الصارمة للدولة… إن تأميم القطاع الثالث يعني التنظيم الديمقراطي لتعاونيات البيع والشراء. إنه يعني تحقيق اللامركزية في هذه التعاونيات من خلال إشراك الجماهير في إدارة الشؤون العامة".
والأهم من ذلك كله، عارض فانون فكرة قيام حزب واحد بدور "طليعة" الثورة، لقد أعلن بشدة معارضته لدول الحزب الواحد على أنها "الشكل الحديث للديكتاتورية البرجوازية - مجردة من الأقنعة والتركيب والتشكيك، والتشاؤم من جميع النواحي". لم يعارض، بالطبع، الأحزاب في حد ذاتها، لكنه أصر على أن الحزب، مثل الأمة، يجب أن يكون "لا مركزيًا إلى أقصى حد".
وأدرك فانون تماما، بعد سفره على نطاق واسع في دوره كسفير لجبهة التحرير الوطني، أن الدول المركزية ذات الحزب الواحد حكمت العديد من الدول الأفريقية المستقلة حديثًا في ذلك الوقت، بما في ذلك تلك التي تتمتع بصورة أكثر راديكالية مثل كوامي نكروما في غانا وسيكو توري في غينيا.
كان يدرك أيضًا أن هذا النموذج السياسي هو بالضبط ما تطمح إليه جبهة التحرير الوطني، التي أعلنت نفسها "الممثل الشرعي الوحيد" للشعب الجزائري.
لم ينكر فانون أهمية حركة التحرر الوطني الموحدة أثناء النضال من أجل الاستقلال، على العكس من ذلك، فقد دافع عنها باستمرار، لكن الشكل السياسي الذي كان ضروريا في مرحلة معينة من النضال يمكن أن يصبح حبل المشنقة بعد تحقيق الاستقلال.
ناقش بشير أبو منة مؤخرًا بأن "المعذب"، هو حيث سيطور فانون نظرته السياسية البديلة للعالم، والتي تكون فيها السياسة الطبقية أساسية، ومع ذلك أصر الكتاب على أن النضال الوطني سيحتفظ بالأولوية طالما ساد الاستعمار.
وانتقد بشدة أولئك الذين اقترحوا أن الإنسانية تجاوزت مرحلة المطالب القومية، واعتقد على العكس من ذلك أن الخطأ الكبير مع العواقب سيكون فقدانا للمرحلة الوطنية.
من وجهة نظر فانون، فإن الانتقال من الوعي القومي إلى الوعي الاجتماعي لن يترك الأول وراءه، بل سيعمقه، بالأحرى: "الوعي القومي، وليس القومية، هو الشيء الوحيد الذي يمكن أن يمنحنا بعدًا دوليًا". إن تجاوز العنصرية التي حددت العالم المستعمر لا يمكن تحقيقه من خلال التجريد من الوعي القومي أو الكبرياء العنصري، ولكن بالمضي قدما من خلالهما.
ومع ذلك، لم يكن فانون أقل وعيًا بأن النخب السياسية سوف تسيء استخدام الهوية العرقية أو القومية لصرف الجماهير عن تحدي سلطتها وامتيازاتها، وقد كان "معذبو الأرض" تحذيرًا حادًا ضد أي من النهجين.
على الرغم من الاحتفال الكامل بعمل فانون، يتجاهل العديد من الكتاب عمق التزامه بالديمقراطية الشاملة، نظرًا لأنه طرح نقده للبرجوازية الوطنية على المستوى العام ولم يذكر أسماء المتهمين الفرديين أو التنظيميين في الجزائر أو دول أفريقية أخرى، فقد يكون من السهل رؤية هذا النقد على أنه ينطبق فقط على هؤلاء المتنازعين مع الاستعمار الجديد مثل السنغالي ليوبولد سنغور في السنغال أو فيليكس هوفويت بوانيي في ساحل العاج.
ومع ذلك، اعترض فانون أيضًا على الاتجاهات اليسارية الراديكالية داخل الثورات الأفريقية: "البرجوازية الوطنية، على المستوى المؤسسي، تتخطى المرحلة البرلمانية وتختار ديكتاتورية من النوع الاشتراكي القومي". في سياق هذه العملية، تعرض الذين اعترضوا "للضرب بالهراوات وسجنهم في صمت ثم دفعوا تحت الأرض".
إن التزام فانون بالحكم الديمقراطي الذي من شأنه أن يكون متجذرًا بشكل كامل في الجماهير كان بمثابة معلومات واقعية عن جميع جوانب "معذبو الأرض". فهم فانون، كما ماركس، أن الاشتراكية هي "الحركة المستقلة الواعية بذاتها للأغلبية العظمى، لصالح الأغلبية العظمى". ولكن، على عكس أوروبا، كان الفلاحون هم الذين شكلوا "الأغلبية العظمى" في أفريقيا وليس البروليتاريا (طبقة العمال)، وهذا هو السبب في أن فانون اختارهم كموضوع ثوري.
كانت الفكرة القائلة إن الطبقة العاملة الأقلية التي يقودها حزب طليعي "صحيح" قادرة على تشكيل مجتمع جديد، غريبة تمامًا عنه. كما الفكرة القائلة بأن الفلاحين الخاضعين للجيش "الثوري" الذي استغنى عن الحكم الديمقراطي يمكن أن ينجز نفس المهمة. ووضع فانون موقفًا جعله على خلاف مع العديد من الاتجاهات السائدة في كل من اليسار الماركسي والقومي الثوري.
هل كان فانون محقًا تجريبياً بشأن دور الطبقة العاملة في البلدان الأفريقية، وتشير الأدلة إلى أنه كان متسرعًا بشكل مفرط في استثنائها، على الرغم من أن العديد من منتقديه كانوا أيضا متسرعين جدًا في افتراض أن الفلاحين لا يمكنهم أبدًا لعب دور سياسي مستقل. ومع ذلك، فإن هذا ليس السؤال الحاسم الذي يجب معالجته في سياق عصرنا، ولكن يجب أن ننظر إلى الأهمية المعاصرة لمفهومه عن التحول الديمقراطي.
كانت السنوات الـ 60 الماضية مليئة بأمثلة على الميول السياسية الهرمية والسلطوية التي تجاهلت الحاجة إلى هذا النوع من الانتقال الديمقراطي إلى الاشتراكية الذي تصوره فانون، وأدى هذا النهج إلى فشل تلو الآخر. واستوعبت الحركات الاجتماعية اليوم دروس هذه التجربة، وتبنت باستمرار أشكالًا أفقية غير هرمية تتميز بنقاش عام حر ومفتوح حول جميع القضايا التي تواجه الحركة.
في ممارستها، أعادت هذه الحركات إلى الحياة الرؤى الموجودة في إنسانية فانون الجديدة، مما يجعل فكره أكثر إقناعًا من أي وقت مضى.
هذا لا يعني أن فانون قدم لنا أي نوع من المخططات لكيفية تجاوز المجتمع البرجوازي، وكان لا يزال يفكر في طريقه من خلال هذه المشاكل في عمله الأخير وترك العديد من القضايا دون أن يمسها.
وبالرغم من أنه، من الواضح، أن الجزائر كانت تدور في ذهن فانون في كل صفحة من كتاب "معذبو الأرض"، إلا أن الكتاب لم ينتقد بشكل صريح جبهة التحرير الوطني أو شخصياتها وتوجهاتها القيادية. وكان هذا مفهومًا، لقد كان الكفاح من أجل الاستقلال لا يزال مستمراً في ذلك الوقت، وكان فانون ملتزمًا بعدم فعل أي شيء من شأنه إضعافه. ومع ذلك، فقد عكس أيضًا ضعفًا في فترته التاريخية.
في حين أن تقليد المناقشة المفتوحة قد ميز الماركسية منذ سنوات تأسيسها حتى أوائل عشرينيات القرن الماضي، فإن صعود الستالينية ترك هذا التقليد مدفونًا ونسيًا إلى حد كبير. وأثر هذا على نهج الثوار في جميع أنحاء العالم، بما في ذلك، جبهة التحرير الوطني، التي لم يكن لها صلة مباشرة بالحركة الشيوعية التي يقودها السوفييت.
اليوم، لحسن الحظ، نواجه واقعًا مختلفًا، مما يجعل من الممكن فهم المحتوى التحرري لفكر فانون بطريقة جديدة تمامًا.
* بيتر هوديس أستاذ الفلسفة في كلية المجتمع في أوكتون ومؤلف كتاب فرانتز فانون: فيلسوف الحواجز.
* "اللومبنبروليتريا": أي ما دون أو تحت البروليتاريا، وهو مصطلح أطلقه كارل ماركس في بيان الحزب الشيوعي لوصف تلك الطبقة التي تكون في مرتبة دون الطبقة العاملة والذين لا يحظون بنوع من الوعي وغير مفيدين في العملية الإنتاجية أو اجتماعيا، ولا فائدة منهم في النضال الثوري، وربما يمثلون عائقا أمام تحقيق مجتمع لا طبقي.