الحدث للأسرى
"أما قرار اللجنة فهو قرارك الذي كتبته بقدمك في المطاردة، مطارَدا ومطارِدا، قبل أن تكتبه بيدك، وقرارك الذي نتشرفُ في النطقِ فيه كلجنة إشراف على رسالتك للماجستير بعنوان (الصياد والتنين: المطاردة في التجربة الفلسطينية من 1968-2018)، هو نجاحُك بامتيازٍ عالٍ في الممارسة، وامتيازٍ عالٍ في النظرية" بهذه الكلمات نال اليوم السبت، الفدائي الأسير زكريا الزبيدي درجة الماجستير من جامعة بيرزيت بعد أن نوقشت رسالته غيابيا.
وقال عبد الرحيم الشيخ مشرف الرسالة في تقديمه للعرض: "حين ينهي الطالب رسالته في العرف الأكاديمي يعقد النقاش ويقدم الطالب الحاضر خلاصة بحثه للجنة الممتحنين من الأساتذة هذه هي القاعدة، أما الاستثناء فهو غياب الطالب وحضور المطلوب، والطالب اليوم زكريا الزبيدي والمطلوب معرفة فلسطين، وفي علاقة العشق الصوفية التي يغيب فيها المريد ويحضر المراد، تغيب الحقيقة عيانا وتحضر قصتها، ويا لقصتها كم تطول، يغيب زكريا جسدا في سجن العدو، أما قصته فعصية على الغياب".
في الثالث والعشرين من أيلول 2017 غادر زكريا مخيم جنين ليلتحلق ببرنامج الماجستير في الدراسات العربية المعاصرة في جامعة بيرزيت، ويبدأ رحلة جديدة في المعرفة المقاتلة.
وعرضت جامعة بيرزيت رسالته في مقطع فيديو تضمن مشاهد من مسرحية "على الهاوية" للزبيدي، وصورا للأوراق التي دون عليها رسالته، ومشاهد متنوعة له ومكالمات مسجلة مع الأستاذ المشرف على الرسالة عبد الرحيم الشيخ.
وكان في أعضاء لجنة النقاش كل من أستاذ الفلسفة في جامعة بيرزيت جمال ظاهر، وأستاذ الإعلام وليد الشرفا.
وتطرق ظاهر في تعقيبه على رسالة الزبيدي إلى تعريف المطارِد والمطارَد اللذان أعاد تعريفهما الأخير في رسالته، حيث قال: إن زكريا يرغب في بحثه في تبيين كيف أن الصياد ويرمز إلى المستعمِر يجهد ليس ليأكل بل ليقضي على حياة، وبتبين كيف أن التنين ويرمز عنده إلى المستعمَر المطارد، ليس فريسة، ويرغب بموضعة المطارد الفلسطيني في حركة تاريخ نضال الشعوب ضد مستعمريها من ناحية، وبتمييزه عن مستعمره من حيث المنظومة الأخلاقية التي يأخذ بها في نضاله من ناحية أخرى.
وبحسب ظاهر، اعتمد زكريا في ذلك على قصته الشخصية، جاعلا منها حالة ممثلة، وفي هذا توظيف للسرد القصصي لما فيه من خصائص وإمكانات بتبيان ما لا يبين بلغة العلم، وبين الخط الناظم لبحثه بالوقوف على مفاهيم المشكلة للمعاني عنده، وفي بحثه بنى الزبيدي المعاني الخاصة بمفهوم المطاردة في السياق الاستعماري، بالعلاقة مع جهتيها المتصارعتين المطارِد والمطارَد، لتأخذ كل جهة منها معكوسا عما هو في الأبيات المتناولة.
ويستهل الزبيدي بحثه بالحديث عن صورة القديس جريس والتنين، وبتوضيح المعاني المتضمنة فيها، يقول: "نشأ الأطفال الفلسطينيون في طفولتهم على صورة أيقونية للقديس جريس الفلسطيني، فارسا على ظهر حصانه وهو يسند الرمح إلى فم التنين لكي يوقظ العروس الجميلة، وفيما بعد يقول زكريا: "فهمنا أن رمزية هذه الأيقونة المستمدة من المخيلة الدينية الإنجيلية في تراثنا الفلسطيني تكمن في انتصار الإيمان الخيّر المتمثل بالخضر على الوثنية الشريرة المتمثلة بالتنين، ثم بعد أن يوضح المعاني المتضمنة في صورة القديس جريس ورمحه والتنين، ينوه إلى أن المعاني هذه لم تتغير حتى يومنا هذا، عندنا نحو مستعمرين، كما عند المستعمر أيضا، وفقا لعضو لجنة النقاش.
ومن أجل التأكيد على فعالية المطارد في المطاردة يأتي زكريا بأسماء من حركة تاريخ المقاومة الإنسانية كـ: تشي جيفارا وعلي بن أبي طالب والحسين بن علي، وباستخدامه للأمثلة هذه يقول إن المطاردة هي حالة مقاومة وإن المطارَد بالتالي لا يركض هربا أو خوفا على حياته من الموت بل مواجهة لعدوه المستعمِر من أجل أن يتمكن من ضربه بحسب جمال ظاهر.
بدوره، قال وليد الشرفا إن أطروحة الزبيدي تعيد السؤال الأزلي حول المعرفة بصفتها استيهاما ظاهراتيا وحالة عبور ذهنية للتاريخ، بداية من الأسطورة إلى الجماليات وما تراكم عبر كل ذلك من اجتهاد علاماتي سيميائي، متشابك ومعقد من قراءة وراثة الصدمات عبر التاريخ.
وتابع: "يعبر الزبيدي التاريخ بوعي مسبق، وقرار مراقب ومرصود، لكنه يؤسس ظاهريته الجديدة بالعبور من الاستيهام أو التأمل إلى إدراك أكثر صدمية يتجاوز ترف التأمل وحوار الجماليات والتشكيل والحبكة الأسطورية، وحتى سؤال الجدوى والحقيقة إلى حوار تاريخي بالجسد أيضا، وهو المكانية الروحية النفسية القابلة للتحقق.
ويرى الشرفا أن الزبيدي عبر ضمن هذا الحقل التاريخ بتأريخ خاص ذهني وجسدي، فهو ابن تصور فلسطيني تحرري، وعلى مستوى الجسد يعرف الزبيدي جيدا ألم الإصابة والشظايا والنوم بجانب جثث الشهداء.
كما يرى الشرفا أن الزبيدي اختبر الانفصال والألم واختبر المعرفة بجسده ووضع قوانين معمدة بالمكامدة فهو يعرف طعم التعذيب والجوع وغياب الجسد عن بيت عزاء الأب والأم والأخ الشهيد، وعبر كل ذلك يؤسس الزبيدي سيميائيته الخاصة فهو يعبر العلامات بعقله كما يعبرها بجسده ويعرف تزامنها وتعاقبها وتمثيلها.
واستكمالا للاستثناء، فإن لجنة الإشراف على زكريا الزبيدي اتسعت كما اتسعت رؤياه لتضم 3 أعضاء آخرين، فلجنته 6، تماما كما كانت لجنة التحرر من سجن جلبوع في بيسان المحتلة، وفقا للأستاذ المشرف على رسالة زكريا، عبد الرحيم الشيخ.
وبالإضافة إلى اللجنة الأكاديمية من داخل الجامعة، لزكريا لجنة معرفة وحرية من خارجها، تمتد إلى الأسر والشتات ومكونة من: مروان البرغوثي، وليد دقة، وإلياس خوري.
حضر الأسير مروان البرغوثي بصوت زوجته التي قرأت تعقيبه على رسالة الزبيدي، وقال فيها: "ليس من السهل أن تكتب عن حالة نضالية وطنية رمزية وفي نفس الوقت عن رفيق السلاح والخندق والكتائب ورفيق القيد والزنزانة، وعندما تكتب عن الأخ والصديق ورفيق الدرب القائد الوطني الفتحاوي زكريا الزبيدي فإنك تستحضر سجلاً طويلاً وسيرة نضالية متميزة، فهو ليس نموذج نضالي ورمز كفاحي بذاته بل أيضا تجسد سيرته وسيرة أسرته نموذجا فريدا من التضحية والفداء، فهو شقيق شهيدين كبيرين وأمه شهيدة، وتعرض جميع أفراد الأسرة طوال العقود الماضية للاعتقال والتعذيب وقضوا سنوات طفولتهم وشبابهم الأول في الزنازين والسجون حيث عاش معي عدة سنوات شقيقيه يحيى وجبريل.
وأضاف البرغوثي في رسالته التي بعثها من سجن هداريم زنزانة رقم ٢٨ أن المناضل زكريا عبّر عن نموذج المناضل الذي يجسد الانتماء للوطن والقضية والشعب، فالانتماء ليس وظيفة وإنما مهمة وطنية جوهرها التضحية والفداء، وزكريا نموذج منفرد، فهو القائد في الكتائب وقائدها في جنين وهو المصاب والجريح وهو المطارد الذي كان عصيا على الاستعمار الصهيوني وأجهزته الاستخبارية، وهو الذي حرم من التعليم وعندما أتيحت له الفرصة حصل على البكالوريوس وتقدم للماجستير، وبذل جهدا فريدا في تطوير نفسه والأهم بقي فدائيا شجاعا لم تثنيه أو تغيره أيّة امتيازات بل ظلت المقاومة للمستعمر تسري في شرايين دمه.
وتابع: حمل زكريا السلاح عندما كانت الغالبية الساحقة من الكوادر والقيادات تلهث وراء المصالح الذاتية والمكتسبات الصغيرة، وعندما اعتقل زكريا مرة أخرى أظهر عزيمة وصمود كبيرين وفور دخوله السجن باشر في الإسهام في العملية الثقافية والتعليمية والنضالية وأكّد عزمه على إتمام مساقاته ورسالة الماجستير في جامعة بيرزيت رغم كل الظروف القاهرة إلى أن جاءت عملية نفق الحرية التي عبّرت عن إرادة شجاعة قلّ نظيرها من قبل الأخ زكريا وإخوانه الأبطال الذين رفضوا الاستسلام لواقع الأسر، ونحتوا في الصخر وحفروا في التراب لبلوغ نور الحرية.
وأكد الأسير البرغوثي أن زكريا نحت اسمه بين رموز الجيل الجديد ليكون الأبرز والأشجع وليؤكد على مبدأ لطالما دعونا ولا زلنا له، وهو مبدأ المقاومة الشاملة الذي يتقدم فيه القادة الشجعان الأوفياء الصفوف في معركة التحرر الوطني ويرفضون العيش عبيدًا لدى المستعمرين ويوفوا بقسمهم لشعبهم ووطنهم.
وكان في اللجنة غير الرسمية أيضا الأسير وليد دقة بمكالمة من داخل الأسر جاء فيها: "لم أتعرف على زكريا الزبيدي من قبل، كنت أعرفه كما عرفه كثيرون من الفلسطينيين من خلال الإعلام الإسرائيلي، أو من خلال ما كان يرشح لنا من الإعلام الفلسطيني غير الرسمي، الشائعات وربما الوشاية على موقع التواصل الاجتماعي، التي غالبا علقت إما على تقرير نشره الإعلام الإسرائيلي أو على خبر اعتقاله من قبل السلطة الفلسطينية".
وأضاف: "إذا كان الإعلام الإسرائيلي هدفه شيطنة زكريا، فإن الشائعات الفلسطينية قد حولته، إلى كاريكاتير لرجل خارج عن القانون، وبين هاتين الصورتين أطل عليّ أبو محمد مبتسما في قسم ٤ جلبوع زائرا، وبعد بضع دقائق من لقائنا استطاع أن يبدّل صورته المنمطة وأن يستبدلها في ذهني وأذهان الأسرى المستمعين إليه إلى صورة المثقف المشتبك، وأصبحت صداقتي له ليست مكسبا فحسب وإنما من أهم الصداقات التي كونتها على مدار الستة والثلاثين عاما داخل الأسر.
وأكمل: أول ما لفتني قدرة زكريا على قصّ حكاية مهما كانت بسيطة بأسلوب مشوّق ومتغيّر دائما، بحيث تتلاءم مفرداتها والتقديم والتأخير فيها وطبيعة جمهور المستمعين، يجعلك مشدودا له وتنتظر بلهفة الجملة اللاحقة التي سينطق بها، هذه الميّزة وهي كاريزما قيادية تحمل في طياتها قدرة أهم يمتلكها زكريا وهي التحرك دون تكلفة أو تصنّع.
وتابع دقة: قلة من بين المناضلين ممن حملوا السلاح مالوا نحو التسلح بالكلمة، وزكريا فعل ذلك باعتقاد منه بأن السلاح قد انتهى دوره وإنما أيقن ومن عمق تجربته النضالية ضرورة الارتقاء بالسلاح من موقع القوة إلى موقع القدرة.
وعن بحثه قال الأسير وليد دقة: إن بحثه الصياد والتنين المطاردة في التجربة الفلسطينية من عام ٦٨ حتى عام ٢٠١٨، هو محاولة منه للإسهام في مراكمة التجربة في هذا الاتجاه، اتجاه امتلاك القدرة، وإذا كانت القدرة ليست غاية وإنما أداء، وأحسست ذلك من خلال نقاشاته بعمق قناعته بأن الحرية هي القيمة "بـ الـ التعريف" فهو القادم من مسرح الحرية طفلا ومن ثم شابا قد تتلمذ على هذه القيمة على يد أستاذه وصديقه جوليانو مير خميس الذي دفع حياته ثمنا بغية تحقيقها، مردفا: أن تكون أخا لشهيد وابنًا لشهيدة ورغم ذلك أن تبقى قادرا على أن تحافظ بأن ترى عدوك ليس من خلال المهداب، فأنت تملك فرصة أخلاقية لا يمكن حرفها، وأن تحمل سلاحا وتبقيه نظيفا دون أن يسكنك الإحساس بالقوة فهذا فهمٌ عميق للعلاقة الجدلية، بين قيم الحرية وأهداف التحرر. هكذا هو زكريا الزبيدي الذي حاورته وناقشته وناقشنا سويا عشرات الدراسات و الكتب بحثا ليس عن الإجابة وإنما على السؤال الصحيح.
وأخيرا، قال رئيس تحرير مؤسسة الدراسات الفلسطيني الياس خوري في تعقيبة على رسالة الماجستير للزبيدي: "في سيرة التنين والصياد التي تشكل متن أطروحة الماجستير التي تناقش اليوم في جامعة بيرزيت يكتب زكريا الزبيدي كلاما يقع تحت الكلام، اللغة لا تتسع لكل هذا النور الذي ينفجر كالماء من جوف التجربة فيصير الفدائي ملح الأرض ويرسم صورته بالكلمة التي كانت في البدء فعلا.
ويتابع: يعيدنا زكريا الزبيدي الى كلام الفدائيين كلام التغاني والشجاعة والحلم وإلى المعنى الأخلاقي الذي تجسده كلمة فدائي حين تستعيد معناها هكذا تعرفت إليه من خلال صديقنا المشترك جوليانو مير خميس فبعد لقائي القصير بزكريا في فيلم أولاد آرنا، اتخذت علاقتنا شكل حوارات هاتفية متقطعة لكنها في كل مرة كانت تعيدنا إلى مخيم جنين الذي صار مسرحا للحرية والبطولة والموت.
ويضيف: لم أكن أدري حينها بأن زكريا ورفاقه يخبئون في أضلعهم ووجدانهم قلقا ثقافيا ورغبة في تحويل تجربتهم إلى رؤية فكرية هذا ما قام به جمال حويل في كتابة أطروحته معركة مخيم جنين الكبرى ٢٠٠٢ التاريخ الحيّ. وهذا ما يقوم به اليوم زكريا الزبيدي الذي حفر نفقا تحت الكلمات قبل أن يحفر مع رفاقه نفق الحرية في سجن جلبوع.
يكتب زكريا تجربته كمطارد ومقاوم وفدائي فيعيد لكلمة فدائي معناها، الفدائي يحول تجربته النضالية إلى فعل ثقافي تماما كما فعل باسل الأعرج الذي حوّل موقعه كمثقف إلى فعل نضالي.
لم يتمكن الزبيدي من كتابة خاتمة لهذه الرسالة لكنه في آخر تواصل معه طلب حذف النقطة من آخر الرسالة بالقول: "في الخاتمة في نقطة أنا بفضل تقيمها، النقطة الأخيرة قيمها"، ليوضح فيما بعد عبر محاميته، أنه يرغب في أن تبقى قصة الصياد والتنين مفتوحة.