الأربعاء  25 كانون الأول 2024

استشارات كانطية - التعالي الحرّ أو في -الحرية الموجبة-

2022-10-10 08:21:21 AM
استشارات كانطية - التعالي الحرّ أو في -الحرية الموجبة-

الحدث الثقافي- بقلم: فتحي المسكيني


كيف نحرّر عقلا ما من شكل "الما وراء" الذي يهدّده ؟ علينا أن نذكّر بأنّ "التعالي" هو المشكل الفلسفي بامتياز. إنّ عبارات من قبيل "حدود العالم" أو "وجود الله" أو "خلود النفس" هي إجراءات طوبيقية للإشارة إلى أشكال التعالي على عقولنا وحواسنا، أي على الطبيعة البشرية بما هي كذلك. ولو أخذنا بعض الاستشكالات التي طوّرها هيدغر حول "التعالي" انطلاقا من كانط غير كانطي، مأخذ الجد، لقلنا إنّ كلّ سلوكات الكائن البشري إزاء الكينونة هي سلوكات "متعالية" أي أنماط قبليّة من تخطّي الكائن إلى الكينونة نفسها ثاوية في طبيعة العقل البشري. ومن ثمّ فإنّ التعالي جزء لا يتجزّأ من طبيعة السلوك الأنطولوجي البدائي للبشر، وليس خطأ منهجيا أو نقصا في طبيعة آلتهم النظرية. كلّ بحث عن الحقيقة الأصلية أو الكلية أو الأولى أو الكونية أو المعيارية هو بحث ينطوي على قدر جوهري من "التعالي". بل كل مؤسسة رمزية وكل سلطة حاكمة وكل جهاز معنى أو أفق أخلاقي وكل قانون كلي وكل تصور للعدالة المحضة، ولكن أيضا كلّ فهم للحرية، هو ميدان لفرض نوع من التعالي أو الدفاع عنه والتقوّم والتذوّت في ضوئه ومن أجله.

ولذلك فإنّ ما لم تنتبه إليه الفلسفة إلاّ متأخّرة هو أنّ التعالي ليس له معنى واحد ومن ثمّ أنّه لا يوجد نوع واحد من التعالي. وبعبارة أكثر حدة: إنّ الخطوة العملاقة للفلسفة مع كانط إنّما تتمثّل في اكتشاف التعالي داخل طبيعة العقل المحض الذي يمكن للطبيعة البشرية أن تتمثّله.

يقول كانط: " أنا أسمّي متعالية كلّ معرفة لا تهتمّ عموما بالموضوعات بقدر ما تهتمّ بنمط معرفتنا للموضوعات من حيث هو ممكن بعامة."

أوصاف المتعالي هنا هي:
- "نقدي"- خاص بنقد قوى أو ملكات العقل البشري وعزلها وليس بأيّ موضوع أو مذهب..
- "قبلي" – أي سابق على أيّ تجربة ومتعلق بطبيعة العقل البشري، لكن القبلي بالمعنى الصوري يمكن ألاّ يكون متعاليا،
- "محض"- أي خالص من أيّ علاقة بالمحسوس كما هو متاح للحواس؛
- "شرط إمكان"- ما يجعل نوعا من المعرفة ممكنا بشكل قبلي ومحض، أي يحدد "الأصل" و"الامتداد" و"القيمة الموضوعية" لأي معرفة، بناء على فحص نقدي لقوانين العقل البشري من جهة ما تتعلق بالموضوعات على نحو قبلي.

علينا أن نسأل: ما الذي جعل كنط يعوّل على مصطلح لا يمكن ألاّ يحيلنا بشكل أو بآخر على "التعالي" بالمعنى اللاهوتي ؟ ومن ثمّ يؤدي اضطرارا إلى الخلط بين "المفارق" (transcendant) بالمعنى الديني – أي ما يفارق عالم الحس، وبمعنى ما ما هو "غيبي"- و"المتعالي" (transcendantal) بالمعنى الفلسفي، أي ما يتعلق بنمط معرفتنا القبلية، نحن الكائنات البشرية العاقلة والحرة والمتناهية والتي تتميّز بعدم امتلاكها لحدس عقلي قد يمكن من الدخول في اتصال مع عالم آخر، بل إنّ كل حدوسها حسية صرفة).

ما اكتشفه كانط هو أنّ ما يقود البشر إلى الدين ليس دعوة لاهوتية أو وحيا أو نداءا من عالم آخر، بل فقط طبيعة عقولهم: نعني الطبيعة المتعالية لعقولهم. - إنّ نمط معرفتنا لأنفسنا وللأشياء من حولنا هو نفسه يحتوي من نفسه على طابع "متعال" أي على قدرة على التعالي على المحسوس، وتطوير ملكات تعمل بشكل محض وقبلي وإمكاني. كل ملكة في طبيعتنا هي تملك القدرة على الذهاب فيما أبعد من المحسوس وإنتاج مستوى من الكينونة لا وجود له في الواقع، لأنّه ليس "شيئا"، بل نمطا من التمثيل أو التفكّر أو الوهم أو التشريع أو الحكم أو الذوق أو الحماس،الخ.. ورأس الخطورة في هذه السلوكات أنّها ليست مجرد ظواهر إمبريقية، بل هي أنماط قبلية ومحضة من قوى العقل البشري، تملك القدرة على الدخول في علاقة نظرية أو عملية أو جمالية أو دينية أو مدنية مع الموضوعات، هي تملك شروط إمكانها في طبيعتها، ولا تستمدّها من أيّ هيئة غريبة عنها، سواء كانت "الوجود" كما ظن اليونان أو "الإله" كما اعتقد التوحيديون أو "اللغة" كما يذهب إلى ذلك دعاة المنعرج الألسني المعاصرون.

من أجل ذلك يبدو لنا أنّ فكرة دولوز عن "صعيد المحايثة"(plan d’immanence) هو حكر على الفلسفة، يطرد خارجه نوعا من "صعيد المفارقة"(plan de transcendance)، يكون من شأن الدين، هي فرضية قابلة للنقاش. وذلك بقدر ما تسكت عن طرافة جملة المحاولات المثيرة التي قام بها كانط وهيدغر وبمعنى ما نيتشه، ثمّ دريدا، لتطوير أشكال محضة أو موجبة أو أصيلة أو حرة من "التعالي". وبعامة يمكن استشكال التعالي المحض أو الحر بوصفه علامة على مسطحات حرية حرة أو إثباتية أو منفتحة أو آتية دوماً، لا يمكن خلطها مع أيّة تقنية رجاء. ومن ثمّ لم يعد ممكنا بناء الفرق بشكل مطمئن بين الفلسفة والدين بوصفه تعارضا حادا بين فكر محايث وفكر مفارق. بل إنّ الفرق الحاسم إنّما يوجد في مكان آخر: في نوع التعالي الذي يفكّر به الفيلسوف أو يعتقده اللاهوتي. ومطلوب الفلسفة هو استكشاف معنى أيّ ضرب من التعالي الحر.

يقول كانط: "إنّ هذا التعيين [تعيين حقيقة العالم العقلي] الذي هو مفارق (فضفاض) من منظور نظري، هو محايث من منظور عملي".

بهذا المعنى كان كانط أوّل من طرح مشكل التعالي على نحو غير مسبوق بوصفه سلوكا محضا كامنا في طبيعة العقل البشري. ورأس الإشكال هو في الخلط بين المفارق اللاهوتي –أي التسليم بنوع من الوجود الخارج عن عالم الحس- وبين المتعالي الفلسفي- أي الإقرار بقدرة العقل البشري على العمل بشكل محض وقبلي وباعتباره شرط إمكان كل ما يمكن للبشر أن يعرفوه أو يفعلوه أو يتذوّقوه أو يؤمنوا به.

وهذا فإنّ المعركة الكبرى للفلسفة حسب كانط هي معركة الاستيلاء على آلة التعالي أو تحرير التعالي من المفارق. وذلك من خلال المهمة النقدية التالية: بيان كيف أنّ الذات الحرة هي مساحة الحقيقة الوحيدة المناسبة لعقولنا. ومن ثمّ أنّ مقولات الدين الأساسية مثل "الله" و" العالم" و"النفس"،الخ... والتي دخلت إلى حيّز الميتافيزيقا، في عصر اضطهاد الفلاسفة، - هي مجرد "أفكار متعالية" في صلب الذات، أي مفاهيم عقلية لا يقابلها أيّ موضوع يمكن أن يقع تحت حواسنا.

لذلك هي حسب كانط عبارة عن "مهمّة كلفتنا بها طبيعة العقل نفسها"، مهمّة التفكير في كيان أقصى لا يمكن أن نتمثّله في أيّة صيغة محسوسة، فهو مشكل محض بلا حل، لكنّ العقل البشري لا يمكنه أن يلغي الصعوبة التي تقود إليه، أي هو من طبعه يريد أن يضع "سببا" لكل شيء، وهكذا عليه أن يصطدم بفكرة الإله، وعليه أن يجمع الظواهر تحت وحدة تامة، ومن ثم عليه أن يصطدم بفكرة "العالم"، وعليه أن يعرف ذاته، ومن ثم عليه أن يصطدم بفكرة "النفس"، الخ...

لكنّ طرافة كانط تتعدى المهمة السالبة لتحرير العقل النظري من أوهامه الطبيعية في حقل يتجاوز حقل التجربة الممكنة للعلوم، ومن ثم ربما يكون الحل المنهجي فيه هو كما تجرّأ كانط على قوله "إلغاء المعرفة وترك مكان للإيمان". بل تكمن طرافته في رغبته الكبيرة في إيجاد حلّ موجب لمسألة التعالي، وهو ما أثبته من خلال مفهوم "الإيمان العقلي" أو "إيمان العقل".

علينا أن نذكّر أنّ عبارة كانط "كان عليّ أن ألغي المعرفة وترك مكان للإيمان" هي لا تنطبق إلاّ على العقل النظري وفي قضايا الميتافيزيقا فحسب، أي تلك القضايا التي دخلت الفلسفة في زمن كانت مطالبة فيه بإثبات نوع من حسن السيرة الأخلاقية أمام محكمة الملة، نعني قضايا الإله والعالم والنفس. ولذلك فإنّ قوة فلسفة الدين لدى كانط تكمن في البحث عن نمط من "الإيمان" لا يدين في شيء إلى جميع الأديان. وذلك لأنّه إيمان نابع من طبيعة العقل المحض الذي في مستطاع البشر، من حيث هم أعضاء في عائلة الكائنات العاقلة والحرة.

وإنّ المصطلح الحاسم الذي وجد فيه كانط طريقة لتخريج معنى هذا التعالي المحض الكامن في طبيعة الكائنات العاقلة والحرة والذي من شأنه أن يقود إلى صياغة مفهوم "إيمان العقل" هو مصطلح "الأوتونوميا" أو "الاستقلال الذاتي" ( Autonomie). هذه العبارة لم تدخل بعد في معجمنا الروحي. نحن لا نزال نتمثّل الاستقلال بوصفه معركة حدودية مع الآخر، والحال أنّها منذ كانط، أي منذ أن صار البشر "كوجيطو"، أي ذاتا توجد بقدر ما تستمد معنى وجودها من قوة التفكير المحضة، قد باتت المكسب الأقصى للمحدثين. الاستقلال الذاتي يعني فن التشريع الكلي لأنفسنا باعتبارنا نجسّد حرية الإنسانية في المفرد. ولذلك فالتعالي هو نمط الاستقلال الذاتي الأصلي لعقولنا، أي الحرية الموجبة . ليس الحرية السالبة عما هو عائق خارجي أو أجنبي أو آخري، بل الحرية الموجبة بما هي قدرة داخلية وقبلية على التعالي على كل ما من شأنه أن يعاملها بوصفنا أشياء أو وسائل، وليس كغاية في ذاتها. وكل من يحوّل الوجود إلى وسيلة لشيء آخر، حتى ولو كان الجنة السماوية، هو يعامل البشر كأشياء، وليس كأشخاص أخلاقية. ولكن ما الذي يحوّل الوجود البشري إلى غاية في ذاته ؟ - إنّ جواب كانط هو: الحرية. "إنّ الحرية ، إذا أُسندت إلينا، فهي ستنقلنا إلى نظام عقلي للأشياء".

إنّ نكتة الإشكال هنا هو افتراض كانط بأنّ الحرية هي الفكرة الوحيدة التي "نعرف قبليّا بإمكانيتها، ولكن من دون أن ندركها"، وذلك على خلاف فكرة الله أو فكرة الخلود: وحدها الحرية هي شرط إمكان أخلاقنا، أمّا الفكرتان الأخريان فهما شرطان للاستعمال العملي لعقولنا . لا رجاء من دون حرية أي من دون قدرة ("إشكالية" في العقل النظري لكنها "تقريرية" في العقل العملي) على التعالي على العالم المحسوس وقوانينه. التعالي تقنية حرية خاصة بالبشر، لا يمكن فهمها إلاّ "بموجب طبيعة المعرفة البشرية" ، أي بموجب تصوّر معيّن لعقولنا وحتى لواجباتنا، إذ لا ننس أنّ واجباتنا في الأخلاق أو في الدين هي محض "واجبات بشر" . هذا التصوّر المخصوص لعقولنا هو كونها تعمل بشكل "قبلي": وبالنتيجة "فإنّ المعرفة بالعقل والمعرفة قبليًّا هما شيء واحد".

إنّ الطابع "القبلي" لأخلاقنا متأتّ من الاستقلال الذاتي لإرادتنا. ولكن لأنّ "الاستقلال" هو "الحرية بالمعنى السلبي" فإنّ كلّ استقلال مطالب بالتحول إلى "تشريع خاص بالعقل المحض"، وهو بهذا المعنى فقط هو "عملي" أي متعلق بمعنى "الحرية بالمعنى الإيجابي" . إنّ الحرية الموجبة معركة وليس معطى، لأنّ طبيعتنا تعاني من ثنائية المحسوس والمعقول من دون أيّ مخرج. وهكذا لا يمكن لأيّ إنسان أن يبلغ في تقنية الرجاء إلى درجة "القداسة": لا يمكن لأيّ طبيعة فانية سوى أن "تقترب منها فقط اقترابا لا نهاية له" . القداسة فكرة نقترب منها بلا نهاية غير أنّه لا أحد يبلغها أبدا. وحده القانون الأخلاقي كلي، وهو ما لا يمكن لأيّ سعادة أن تبلغ إليه، فالسعادة تقف عند إرساء "قواعد عمومية" لكنها لا يمكنها أن تسنّ "قوانين كلية" .

إنّ الرجاء يتعلق بما فوق المحسوس. لكنّ ما فوق المحسوس ليس غريبا عن عقولنا. فإنّ "الطبيعة فوق-الحسية - بقدر ما نحن قادرون على تكوين مفهوم عنها- ليست سوى طبيعة تحت استقلالية العقل المحض العملي" . ذلك يعني أنّ ما فوق المحسوس هو في صلب طبيعتنا، وإن كان غير محسوس. إنّه فكرة "غير معطاة تجريبيا، لكنها مع ذلك ممكنة بواسطة الحرية" . إنّ ما فوق المحسوس نابع من إرادتنا أي من وعينا بحريتنا وليس تدخلا خارجيا في ذواتنا. يبقى أن نسأل : "كيف يكون هذا الوعي بالحرية ممكنا ؟" . ينبّه كانط إلى أنّ العقل النظري الذي في العلوم لا يمكن أن يساعدنا في شيء إلاّ بشكل إشكالي . ولذلك فإنّ فكرة الحرية تظل فكرة غير قابلة للتحقّق، "أي لا أستطيع أن أحوّلها إلى معرفة" بما فوق المحسوس. ورغم ذلك يصرّ كانط على أنّ الحرية إنّما تظل مفخرة الأزمنة الحديثة ومن ثمّ هي تبزّ على السعادة التي تباهى بها القدماء. إذ أنّ السعادة "ليست الشيء الوحيد الذي يُعتدّ به" . والقصد هو أنّ الدين التقليدي هو في الأغلب طمع في نوع من السعادة الأخروية، ومن ثمّ هو لا يرقى إلى مطلب الحرية الموجبة، تلك التي يشرّعها البشر لأنفسهم وفقا للاستقلال الذاتي المحض والكوني لجميع الكائنات العاقلة. ولأنّ "العقل المحض لا اهتمام حسي له على الإطلاق" فإنّ كل ما هو حسي لا يمكن أن يكون أخلاقيا محضا، حتى ولو كان دينيا.

من هنا ينبّهنا كانط إلى خطر سقوط العقل العملي في "التصوّف": فهذا الأخير ينتهي إلى جعل "ما كان بمثابة رمز فقط" يتحوّل إلى "شيما" أي "رسم" بحيث يعامل المفهوم الأخلاقي المحض وكأنّه "حدس" لشيء معطى في مكان ما من الكون (مملكة الله غير المنظورة) ويتيه في "الغلوائية المفرطة" . ولذلك فالحل حسب كانط هو إعادة كل مسألة ما فوق المحسوس إلى طبيعة العقل البشري. والبحث عن علاج مناسب لها داخل تلك الطبيعة حصرا.

لكن حذار من الخلط بين ما هو "شرعي" قانوناً وما هو "أخلاقي" عقلاً. لا يكفي أن نطبّق ما يقوله القانون حتى نفي بشرط الفضيلة. ينبغي أن يكون لنا "دافع" محض في صلب عقولنا، وهذا الدافع هو ما يميّز البشر عن الآلهة. إذ أنّه "لا يمكن أن تُنسب إلى الإرادة الإلهية أيّ دوافع على الإطلاق، أما دوافع الإرادة البشرية (وإرادة كل كائن عاقل مخلوق) فلا يمكن أبدا أن يكون شيئا آخر سوى القانون الأخلاقي" . القانون الأخلاقي يعني المبدأ الذي يعيّن إرادتنا بشكل محض وحر. لكن معرفة "كيف يمكن لقانون أن يكون من ذاته ومباشرة سببا معيّنا للإرادة" هو نفسه حسب كانط "معضلة مستعصية على الحل بالنسبة إلى العقل البشري" . ما الذي يجعل البشر يستجيبون إلى "شعور إيجابي" بالاحترام لقانون أخلاقي ؟ ولا يجدون في ذلك نوعا من "المذلّة" لإرادتهم، أي شعورا "باثولوجيا" أو مرضيا ؟