الأحد  24 تشرين الثاني 2024

استعادة الإنسانية في تجربة الإضراب عن الطعام في فلسطين: الذات الثورية وإنهاء استعمار الجسد

2022-12-05 08:37:25 AM
استعادة الإنسانية في تجربة الإضراب عن الطعام في فلسطين: الذات الثورية وإنهاء استعمار الجسد

من ناشطة ميدانية مناصرة للأسرى إلى حائزة على جائزة أفضل بحث علمي حول قضاياهم

الباحثة أشجان عجور تروي لصحيفة الحدث تفاصيل كتابها 

الحدث- سوار عبد ربه

عرف الأسرى الفلسطينيون الإضراب عن الطعام كوسيلة للاحتجاج السياسي وكطريق يسلكونه بأمعائهم الخاوية إلى الحرية، في ظل وجود محتل يمعن في تعذيبهم داخل الزنازين جسديا ونفسيا، ورافق هذا الفعل من الحركة الوطنية الفلسطينية الأسيرة تضامنا شعبيا واسعا محليا، عربيا وعالميا، الأمر الذي سلط الضوء على قضية الأسرى، وحقق لهم واحدا من مبتغيات أهدافهم في الالتفات إلى قضيتهم وما يخوضون من معارك في هذا الحيز الصغير.

وكان العام 2012، العام الذي تركزت فيه ظاهرة الإضراب عن الطعام، إذ شهدت معظم فصوله إضرابات فردية وجماعية أدت إلى الانتباه بشكل أكبر إلى قضية الأسرى، والخروج في مظاهرات إسنادية لهم في معركتهم التي عرفت باسم "الأمعاء الخاوية"، ماراثون الإضراب هذا وما رافقته من مظاهرات، شكل النواة الأولى للباحثة الفلسطينية أشجان عجور التي كانت واحدة ممن نشطوا في المظاهرات الإسنادية للأسرى المضربين عن الطعام آنذاك، الأمر الذي دفعها إلى التعمق في فهم هذه التجربة، ودراستها.

تقول الباحثة أشجان عجور في لقاء خاص مع صحيفة الحدث إن هذه الموجة وظاهرة الإضرابات عن الطعام الفردية والجماعية في سجون الاحتلال التي تصاعدت عام 2012، "وكوني كنت منخرطة كما كل فلسطيني في الفعاليات والنشاطات الشعبية والمسيرات الداعمة للأسرى المضربين في حينه؛ دفعني للتعمق في فهم تجربة الإضراب والمعاني التي يعطيها الأسرى لمقاومتهم وتجربتهم".

رحلة البحث.. 85 مقابلة وقصة

بدأت عجور في البحث وجمع المعلومات من أسرى خاضوا تجربة الإضراب وذويهم، ووثقتها ما بين عام 2014 إلى العام 2021 بين دفتي كتاب حمل عنوان "استعادة الإنسانية في تجربة الإضراب عن الطعام في فلسطين: الذات الثورية وإنهاء استعمار الجسد".

وأجرت الباحثة 85 مقابلة في الفترة الواقعة ما بين 2015 حتى عام 2018، استهدفت بشكل أساسي من خاضوا تجربة الإضراب احتجاجا على الاعتقال السياسي.

وأوضحت الباحثة في لقائها مع صحيفة الحدث أن السبب الرئيسي الذي دفع الأسرى لإجراء المقابلات هو أن البحث يشهد على معاناتهم، وتوقعوا منه أن ينقل أصواتهم وقصصهم لفضح ممارسات الاحتلال، لاعتقادهم أن روايتهم قد تم إسكاتها وتشويهها، فقد قال أحد الأسرى الذين قابلتهم الباحثة إن "الدعاية الإسرائيلية جعلتنا إرهابيين، عنصريين، وانتحاريين، ومن خلال قصصنا نريد أن نظهر من هو الإرهابي الحقيقي".

واعتبرت عجور أن هذا النوع من الأبحاث يسهم في توثيق النضال الفلسطيني ونقل الرواية الفلسطينية للعالم، لأن المشروع المعرفي جزء لا يتجزأ من المشروع التحرري الأوسع.

ويقع الكتاب في 14 فصلا، ويتناول تسليح الجسد، وتقنيات المقاومة التي طورها الأسرى لمقاومة عمليات السلب، واستخدام الجسد في المقاومة، وتشكل الذات الثورية في التجربة، وصمود الأسرى، ومفهوم الانتصار والسيادة على الجسد، وعلاقة الذات الفردية بالجماعية، والمفاوضات التي اعتبرتها الكاتبة معركة داخل معركة.

ويتمحور الكتاب حول دراسة تفاعل الأسرى مع عمليات السلب والتجريد من الإنسانية التي يقوم بها المستعمر في سجون الاحتلال، وكيف أن مقاومة الإضراب هي عملية استعادة للإنسانية التي يهدف مشروع المستعمر إلى مصادرتها.

وتجادل الدراسة أن المضربين عن الطعام في مقاومتهم لآليات السلب، ابتكروا تقنيات للمقاومة واستراتيجيات لتحدي الآلة الاستعمارية، لتشكيل ذواتهم الثورية.

وبحسب الباحثة، يسعى الكتاب لتوضيح فلسفة المضربين عن الطعام الخاصة بتسليح الجسد ويقدم سردا تحليليا تفصيليا لعملية المقاومة وكيفية مواجهة آلة الاستعمار من خلال تحويل أجساد الأسرى إلى سلاح.

وحول المساهمة التي يقدمها الكتاب ترى عجور أنه يأتي لسد فجوة موجودة في الأدبيات، وذلك من خلال تطوير سرد للمعاني التي يعطيها الأسرى الذين هم فلاسفة المعركة لهذه التجربة، مشيرة إلى أنها عندما بدأت البحث لم تجد أي دراسة أكاديمية مخصصة عن تشكل الذات الثورية في الإضراب عن الطعام كتجربة حية، وهذا الغياب دفعها للتركيز على ظاهرة كانت معاصرة ومستمرة في الواقع الفلسطيني ومتواجدة تاريخيا منذ الستينات.

وتضيف: "توجد أدبيات هائلة عن الأسرى فلسطينيا، لكن لا توجد دراسة متخصصة حول التجربة الحية المعاشة، في المقابل توجد أدبيات عالمية مهمة، تحمل تنظيرا عال عن استخدام الجسد والإضراب في حالات مختلفة حول العالم".

وعلى المستوى النظري، ترى عجور أن الكتاب يقدم مساهمة نقدية لنظريات الذات السياسية من خلال دراسة الحالة وهي الذات الثورية للمضربين عن الطعام بالاعتماد على أطروحات نظرية منها كتابات فانون حول العنف الثوري ضد الاستعمار وميشيل فوكو لتكنولوجيا الذات، وفلسفة آلان باديو عن الذات السياسية. كما توجد مساهمة منهجية، لأنها قامت بتوسيع الأطر المنهجية لتشمل بحث المعاناة الإنسانية للمضربين، وذلك بالاستناد إلى الإثنوغرافيا النسوية ومنهجيات إنهاء الاستعمار، بغية إنصاف التجربة الحية للإضراب عن الطعام.

وترشح الكتاب لجائزة فلسطين للكتاب العالمية للعام 2022، إلى جانب مجموعة من الإنتاجات الفكرية التي أعلن عنها موقع ميدل إيست مونيتور (MEMO).

أفضل بحث أكاديمي

وفي 4 تشرين الثاني 2022 وفي حفل خاص أقيم بلندن أعلنت مؤسسة ميدل إيست (مونيتور) عن فوز البحث الأكاديمي الذي يحمل عنوان "استعادة الإنسانية في تجربة الإضراب عن الطعام في فلسطين: الذات الثورية وإنهاء استعمار الجسد" بجائزة فلسطين للكتاب 2022، للباحثة في علم الاجتماع د. أشجان عجور.

وفي لقاء خاص مع صحيفة الحدث وصفت د. عجور لحظة الفوز بأنها لحظة رائعة، وقالت: "تفاجأت عندما تم الإعلان عن اسمي وكتابي للفوز بالجائزة عن فئة الكتاب الأكاديمي، شعرت أنه إنجاز رائع لهذا الكتاب الذي قام بتوثيق نضال الأسرى الفلسطينيين في تجربة الإضراب عن الطعام بعد أن أمضيت رحلة طويلة في البحث وإجراء 85 مقابلة والإعداد للكتاب منذ العام 2014 حتى العام 2021".

وأضافت: "شعرت أن هذا شرف كبير أن يحصد الكتاب جائزة "الكتاب الفلسطيني العالمية" إلا أن الشرف الحقيقي هو للأسرى الذين يخوضون تجربة معركة الإضراب عن الطعام فلا يمكن كتابة هذا الكتاب دون كرمهم، وشجاعتهم، ونضالهم من أجل الحرية وتقرير المصير".

وعلى المستوى الشخصي اعتبرت الباحثة أن لحظة الفوز كانت مميزة، خاصة بوجود عائلتها (زوجها وأولادها) معها على نفس الطاولة عندما تم الإعلان عن اسمها، "وكان شعورا خاصا عندما كانوا يصفقون بفخر لهذا الإنجاز بعد أن عاشوا معها تجربة البحث وقاموا بمساندتها في وجه التحديات والصعوبات التي واجهتها، معبرة عن امتنانها وحبها لهم ولكل الرفاق والرفيقات الذين دعموها خلال العمل على الكتاب.

وتقدم للمسابقة 51 كتابا عبر موقع ميدل إيست مونيتور (MEMO)، وتم اختيار تسعة منها للترشح للمرحلة النهائية، وهي الكتب التي تقاسمت جوائز مسابقة العام الحالي.

وقالت عجور إن الفوز لم يكن متوقعا لأن الكتب التي تم اختيارها للقائمة القصيرة النهائية من بين 51  كتابا، كتب قيمة وقوية ولها مساهماتها المعرفية، لكن لجنة التحكيم لديها معايير لا يعرفها الكتاب.

وقالت لجنة التحكيم لحظة الإعلان عن الجائزة، "إن الباحثة تروي روايات المضربين عن الطعام الذين خاضوا التجربة وتتعمق في رواياتهم ومفاهيم فعلهم السياسي المقاوم وإنها دراسة رائدة، وصفت بحجر الأساس لهذا الشكل من المقاومة".

وكانت قد ترشحت للجائزة إلى جانب كتاب د. عجور مجموعة كتب وهي: "الحركة الوطنية الفلسطينية في لبنان لإرلينج لورنتزن سوج، سامباك تحت سماء غير محتملة، لهبة حايك، وسائل إنهاء الاستعمار: النقل العام في الضفة الغربية الفلسطينية (نظرية عرقية نقدية، والأصلانية، ونظرية الإطار العلائقي) لمريم س. غريفين،  التحليل النفسي تحت الاحتلال: ممارسة المقاومة في فلسطين (نظرية التحليل النفسي السياسية) للارا شيهي، وستيفن شيهي، الحق: تاريخ عالمي لأول منظمة فلسطينية لحقوق الإنسان للين ولشمان، قوة مولودة من الأحلام: قصتي هي فلسطين لمحمد سباعنة، أشياء قد تجدها مخبأة في أذني: أشعار من غزة، لمصعب أبو توحة وأخيرا، التسامح أرض قاحلة: فلسطين وثقافة الإنكار لساري مقدسي".

وأهدت الباحثة فوزها إلى الأسرى الذين اعتبرتهم فلاسفة المعركة، وجاء الكتاب لينقل أصواتهم، روايتهم، ومفاهيهم، وفلسفتهم في الحرية والتحرر من خلال استخدام الجسد في المقاومة، معتبرة أن الفوز هو تقدير لعملها وجهدها الأكاديمي.

الإضراب عن الطعام فلسطينيا وعالميا

تطرق الكتاب أيضا إلى تاريخ الإضرابات كاستراتيجية مقاومة منذ عام 1967، حيث يضع الإضرابات في السياق التاريخي للاستعمار الاستيطاني بشكل عام، وفي تاريخ الحركة الأسيرة بشكل خاص.

وفي ظل غياب أدبيات عالمية تختص بتجربة الإضراب عن الطعام في الحالة الفلسطينية، استفادت الباحثة من مراجعة أدبيات عالمية لحالتين دراسيتين هما شمال إيرلندا وتركيا، لمقارنتهما بالحالة الفلسطينية، حيث خاض الأسرى في الجيش الجمهوري الإيرلندي احتجاجا على السلطات البريطانية إضرابا عن الطعام عام 1981، كما خاض المعتقلون السياسيون في تركيا إضرابا عن الطعام خلال الفترة 2000 – 2003.

وفي نقاش بشأن الإضراب عن الطعام في فلسطين من خلال علاقته بالأدبيات العالمية، توصلت الباحثة إلى أن تجربة الإضراب عن الطعام لمواجهة عنف منظومة السجن في الحالتين الدراستين السابقتين، تناولها المنظرون من علماء الاجتماع والأنثروبولوجيا، على أنها عمل عنيف يستخدم لغة العنف الموجه ذاتيا والعنف السياسي، وأنه أسلوب "تدمير ذاتي" من خلال الإضراب السياسي المميت، وبذلك فإنهم لا يرون سوى صورة جزئية لتجربة الإضراب عن الطعام كنموذج للعمل السياسي والذات السياسية التي تتشكل خلاله، بخلاف ما وجدته في تجربة الإضراب الفلسطينية الذي يتجاوز ثنائية العنف واللاعنف.

وتوصلت الباحثة إلى أن تجربة الإضراب عن الطعام لا تقتصر على تسليح الجسد كاستراتيجية سياسية فحسب، بل تتعلق أيضاً بروحانية المقاومة (أي بإضفاء الروحانيات على السياسة)، ذلك من خلال المفردات التي انبثقت من خطاب المضربين الفلسطينيين  والتي تتضمن: استعادة الإنسانية؛ الكرامة والحرية؛ الطاقة الكامنة؛ القوة غير المادية لتحدي الألم؛ الإرادة وتقرير المصير؛ انتصار الروح؛ الروحية والتعالي؛ الحب والأمل؛ إلخ.

وفيما يتعلق بالذات الجماعية في تجربة الإضراب عن الطعام، توصلت الباحثة إلى أنه في الحالة التركية، توسع مجتمع المضربين عن الطعام ليشمل ليس فقط الأسرى السياسيين في السجون في تركيا، بل الناشطين خارج السجن أيضا لتتحول تركيا بأكملها إلى سجن، في حين أنه في الحالة الإيرلندية مثل جسد بوبي ساندز الذي حضر جنازته عشرات الآلاف مؤشرا رمزيا إلى إحياء الجسد الاجتماعي الإيرلندي ولا يزال الناس يحتفلون ويحيون ذكراه ورفاقه في جميع أنحاء إيرلندا.

أما في الحالة الفلسطينية، فيمارس المعتقلون السياسيون تجربة الإضراب عن الطعام ويفهمونها على أنها تجسيد للذات الفلسطينية الجماعية، وكمقاومة مستمرة لنزع عمليات السلب من الإنسانية، والتي تمارسها الدولة الصهيونية منذ النكبة حتى الآن وفقا للباحثة.

تحديات ومصاعب

"على الرغم من خلفيتي كفلسطينية من غزة وإدراكي لطبيعة العنف الذي نعيشه تحت الاحتلال، لكنني لم أتوقع هذا المستوى من العنف والسلب والمعاناة الإنسانية في المعتقلات الصهيونية وأيضا مستوى المقاومة والصمود العالي الذي تحدى من خلاله المضربون بطش الماكنة الاستعمارية" هكذا اختارت الباحثة أن تعبر عما شعرته أثناء رحلة البحث والكتابة، التي كانت مليئة بالمصاعب والتحديات.

وفي هذا الجانب تقول عجور إن موضوع البحث "صعب وشائك ومرهق عاطفيا بالنسبة لي كباحثة وبالنسبة للأسرى الذين قابلتهم بعد أن خاضوا التجربة الحية والتي عاشوا فيها على حافة الموت لأنه ينبع من القصص المؤلمة ومعاناتهم الإنسانية وصمودهم في هذه التجربة الإنسانية الوجودية التي تأخذ شكلا من أشكال المقاومة الثورية الراديكالية".

كما أن البحث اعتمد على ساعات طويلة من الاستماع إلى رواياتهم وتفسيراتهم لتجربتهم خاصة وأن هذه المقابلات تموت بعد وقت قصير من تحرر المضربين من معتقلات الاحتلال، الأمر الذي تطلب منها مستوى عال من الصلابة للتعامل مع الجانب الإنساني المؤلم، وفقا لعجور.

وشكلت الكتابة تحديا آخر بالنسبة للباحثة، حيث أن التجربة الإنسانية في هذا البحث غنية ومعقدة، واللغة الأكاديمية لا تنصفها لأنها تتطلب التحكم في المشاعر، لذا قدمت مساهمة منهجية عبر توسيع الأطر المنهجية بدراسة المعاناة الإنسانية، وطورت ما يسمى لغة القلب عن المعاناة الإنسانية، بالاعتماد على الاثنوغرافية النسوية غير الاستعمارية، لإنصاف التجربة الحية ونقل التجربة بلغتهم وبكلماتهم.

كما واجهت الباحثة بعض التحديات المتعلقة بالوصول والتنقل، حيث يحرم العديد من الفلسطينيين من الوصول إلى الدراسة في الخارج، وقد واجهت صعوبة في العودة إلى بريطانيا بعد بحثها الميداني في عام 2017.

يشار إلى أن الباحثة تطمح لترجمة هذا الكتاب كاملا إلى العربية، بالإضافة لعملها على كتابة بعض المقالات البحثية حول الموضوع باللغة العربية.