الجمعة  01 تشرين الثاني 2024

غاستون باشلار: بعض دروس الشجرة/ بقلم: سعيد بوخليط

2023-01-02 09:32:50 AM
غاستون باشلار: بعض دروس الشجرة/ بقلم: سعيد بوخليط
باشلار

درس غاستون باشلار ضمن شعريته المنصبَّة على صور الكون، في بعدها الجواني؛ غير المادي، كينونة الشجرة إلى جانب موضوعات أخرى تنتمي للمجال نفسه. يتعلق الأمر بجوهر عنصر نباتي، احتشدت حول ألغازه وأسراره جملة أساطير ومجازات ونصوص تجاوزت كثيرا حدود معطيات النباتية والأداتية والخشبية، إلخ، كي تلامس أبعادا لانهائية للشجرة أكثر عمقا وإيحاء، توفر ثراء بلاغيا وفق منظور تحليل نفسي للحياة العمودية، لأنّ الشجرة بمثابة خطِّ تذكير يرشد ويوجِّه الحالم الهوائي.

يتأتى أفق من هذا القبيل، لحظة السعي إلى دراسة منهجية لتلك الصور الجوهرية، والقطع مع سيادة خيال الصور المرئية. بالتالي، تحقُّق استيعاب ارتباط عالم النبات بعالم تأملات شاردة مميَّزة تشكل محفزات صوب تأمل شارد خاص، يعتبر نوعها النباتي الأكثر بطئا وهدوءا وباعثا على الاسترخاء.

نعيش صدقا، أفراحنا الأولى، حين استعادة صور الحديقة، والمرعى والغابة وضفاف الأنهار.     

ترسم الشجرة، منظرا طبيعيا محوريا يمضي من خلاله الحالم وجهة الهوائي، وقد انتشل ذاته من ثِقل الأرضي. توقفت عن الاستسلام إلى سطوة النظرة الملوَّنة، كي تأخذ لدى شاعر كبير صورة مصير وجودي توحي بإغواءات متعدِّدة لتماثل هوائي. 

تلهمنا الشجرة، الكائن الأكثر انعزالا، بمختلف دلالات وإيحاءات معاني الفعل العمودي. أنْ تعيش حميما اندفاعها النباتي، يعني إحساسكَ على امتداد العالم بنفس القوة الشعرية.

تأمَّل باشلار الشجرة، ضمن سياق حُلُمية هادئة، متجرِّدة عن كل سيادة للأشكال أو محدِّدات الخيال المادي، بل تستدعي فقط أبعاد خيال ديناميكي، ينتقل من الواقعي إلى المتخيَّل، يمكنه التحليق بالشجرة كموضوعة لبلاغة المبالغة، حينها تبعثنا الشجرة نحو جهة أخرى من العالم. تساعد الإنسان العمودي عامة والشاعر النوعي أساسا، الخلاّق غير النمطي، كي ينتقل صوب ذاك الأعلى، يتجاوز القمم، يحيا حياة منعشة مفعمة بحيوية وترياق الهواء النقي.

الشجرة ملاذ حقيقي للحلم، يتيح أمام الإنسان المتأمِّل جملة وصايا ونصائح وجودية، مثل الاستقامة، الثبات، التماسك، الرحمة، الأمومة، العطاء، التطهير، والتطهُّر، الكبرياء، التسامي، المقاومة.

ينبغي فقط على شاعر أصيل، تبرَّأ تماما من يسر وطمأنينة قصيدة مكتظَّة بصور خاطئة، فاترة، استُنسخت ثم أعيد استنساخها ثانية، إدراك كيفية الوصول إلى منبع التأملات الشاردة الراهنة وكذا المبادئ الفتية للحياة المتخيَّلة، قصد تقويم الشجرة تبعا لمعانيها الشعرية الجديدة والمختلفة. حينها، نستدعي الشجرة باعتبارها كائن الإيقاع الكبير، الأكثر صفاء، دِقَّة، وثوقا، ثراء، ثم سخاء. 

الشجرة المستقيمة قوة بديهية، ترتقي بالحياة الأرضية صوب السماء الزرقاء، ولعل أبرز مثال جلي في هذا الإطار، مثال شجرة الصنوبر التي تشكِّل بالنسبة للخيال محورا حقيقيا للتأمل الشارد الديناميكي. كيف نتمثل بشكل أفضل الدرس الديناميكي لشجرة الصنوبر؟: ''هيَّا ! كنْ مستقيما على شاكلتي. قف منتصبا، تخاطب الشجرة الحالم المنبطِحِ''. إنها مستقيمة جدا، ترسخ الكون الهوائي.

الشجرة كائن ثابت بامتياز، قوية، متجلِّدة، غير مكترثة، بطيئة، هادئة. لكنها تحظى من لدن خيالنا بحياة ديناميكية رائعة، فتغدو اندفاعا لامتناهيا يستحيل إيقافه.

نموذج مستمر عن بطولات الاستقامة.

الشجرة كائن يسلم من التشويه الوجودي بفضل الحلم العميق، وتجليات رؤى حالمة، تقطع مع وضعية الشجرة المعتادة والمألوفة التي تمثل كائنا ضامرا بلا وجه أو ملامح مميزة.

الشجرة رمز للأمومة الكونية، أساسا جراء فعل الهَدْهَدة. وإن ظل الأخير خطيرا في أعالي الأغصان، نتيجة كل سوء تقدير من طرف الكائن إلى رشاقته وخِفّته وكذا مهارة التمسك بالأغصان. هكذا، تبدو الحياة بين أحضان الشجرة ملجأ، نحلم بها دائما ثم معها بنفس الكيفية، تحت رحمة عزلة خاصة وامتثالا لحياة هوائية ديناميكية.  

الشجرة عشٌّ ضخم تؤرجحه الرياح. ننجذب إليه تطلعا وجهة حياة دافئة نلتمسها، لكن أكثر بسبب وازع ارتفاعه وعزلته. ذلك، أن عشّ القمم، حلم بالقوة يعيدنا إلى كبرياء فتوة العمر.سنكتشف فوق شجرة أكثر علوا، من أعلى قمة، حياة هوائية حسب أقصى مستويات كمالها.

أيضا، جذع الشجرة على استعداد دائم، كي يضمنا ونستلقي بين أحضانه ثم الاستسلام إلى نوم عميق يسندنا ويدعمنا سلوى يقين استيقاظ مغاير تماما.

الشجرة المعذَّبة والمهتاجة والمتحمِّسة، يمكنها تقديم صور لمختلف العواطف الإنسانية، لذلك كمْ هي الأساطير التي أظهرت لنا الشجرة باكية ونازفة! بالتالي، رؤية شجرة في الجبل منهزمة أمام الرياح، تنتشل حضورنا من وضعية اللامبالاة حيال المشهد وتداعياته النفسية. مشهد يذكِّرنا بالإنسان وآلامه. تطرح الشجرة المتوجعة منتهى الفشل. 

الشجرة ذخيرة للتحليق، فأن تعيش في الشجرة الكبيرة بين طيات الورق الضخم، يعني دائما بالنسبة للخيال، أنك طائر أيها الإنسان.