الأحد  22 كانون الأول 2024

رثاء خاتمة كِتَاب| بقلم: سعيد بوخليط

2023-01-17 11:09:58 AM
رثاء خاتمة كِتَاب|  بقلم: سعيد بوخليط
سعيد بوخليط

انتهيت مؤخرا من ترجمة إحدى كتب غاستون باشلار الشعرية، التي اهتمت أطروحاتها بالخيال الإنساني في علاقته بالعناصر الكونية الأربعة، الماء، الأرض، الهواء، والنار.

استغرق الاشتغال على الانتقال بمضامين هذا العمل إلى اللغة العربية، قرابة ثلاث سنوات. بداية، كنت متهاونا شيئا ما بخصوص الانكباب الجدي،أنجز صفحات ثم أغلق،  ليس كسلا ولا تلكأ أو غيابا للشغف أو الرغبة،على العكس من ذلك، يعود أصل السبب إلى أنِّي وضعت ورش هذا الكتاب إلى جانب أخرى،بحيث أعود إليه خلال فترات زمانية متقاربة.

بيد أنه خلال لحظة معينة، هزتني رَجَّة داخلية عفوية، فقررت ذات يوم وضع كل المساعي المعرفية جانبا بين طيات  دولاب منسي؛ غاية إشعار آخر، ثم الاهتمام فقط  بكتاب باشلار الجميل، المدهش، المختلف، والمبدع،على منوال باقي نتاجه المرتبط برافد النقد الأدبي وشعرية الخيال، مثلما اطلعت عليه طيلة سنوات، مقارنة مع باقي التأويلات النقدية الجامعية وكذا المؤسساتية.

هكذا، أضحت إشراقات باشلار عبر ومضات لغته الشعرية الفاتنة، بحجم موسوعيتها عن الهواء وأحلام ثم رؤى اللاَّزَوَرْدِ – تيمة الكتاب المقصود بالذكر- رفيقا يوميا، وجليسا مؤنسا يصعب عليَّ تفويت موعده اليومي مهما اختلفت أحوال الجو، وتغيرت مقاييس الحرارة والبرودة، وتباينت معطيات المزاج وأحوال النفسية، وغلبة مؤشرات التفاؤل أو التشاؤم، ودرجات الإقبال أو النفور.

ضدا على مجرى كل ذلك، لا بد لي من الإصغاء وإرهاف السمع، إلى مايقوله الحكيم وإعادة تدبيجها ضمن رحابة اللغة العربية،غاية بلوغي الصفحة الأخيرة،بل الجملة/ الصفعة، حينما كتب باشلار الجملة التالية: انتهى في   3 مايو  1943 ، ديجون. 

للإشارة، تحيل تسمية ديجون على مكان المنطقة الفرنسية التي أنجبت هذا العقل الجبار والعتيد، مهندس مرتكزات التفكير العلمي الجديد خلال القرن العشرين، فاكتشف سبلا ملهمة؛صالح من خلالها إجرائيا بين ثنائيات ظلت كلاسيكيا متنافرة للغاية : العلم/الفلسفة، العقل/الواقع، النظرية/التجربة، المفهوم/الممارسة.

أيضا،بناء على مقتضيات نفس الأفق الحالم، فقد وضع باشلار أو سقراط العصر الحديث، لبنات النقد الأدبي الجديد، حينما أحدث ثورة على مستوى تصورات الشعرية بدعوته قراء النصوص الأدبية كي ينتقلوا من القراءات الخارجية المشروطة كليا بمحددات سوسيو- بيبليوغرافية، صوب وجهة أخرى تحلم بالنص في ذاته ولذاته،ثم تكمن معايير القراءة النقدية اليقظة في تشريح النص داخليا،وفق متواليات جيولوجيته الضمنية البناءة عن طريق تخصيب تعدد دلالات المعاني البنيوية.

بقدر ماكنت، خلال تلك المدة، متلهِّفا قصد إكمال فصول الكتاب ليس ضجرا؛بل تطلعا صوب الاحتفال بالانجاز، ثم الانتقال إلى غيره. أودُّ الإقرار،على العكس من ذلك،غمرتني موجة يأس وقنوط، لم أدرك لها سببا حقيقيا،عندما وضعت نقطة نهاية،أقرب نوعها إلى حالة المزاج السوداوي وفتور الهِمَّة، كما تروي حكايات عدد من النساء بعد الوضع.

أحسست بفقد عظيم، وفراغ ذي وقع ملموس،كأني ودعت عزيزا لم أرغب قط في رحيله. تقاسم معي فترة معينة من سيرورة حياتي، بكل تفاصيلها، فأبان عن وفاء لايقدر. صار شاهدا موثوقا وموثِّقا أمينا لجانب من تاريخ أحزاني، أفراحي، خيباتي، انكساراتي، أفكاري، هواجسي، أحلامي، تطلعاتي، تعقلي، جنوني، إلخ. لقد شغل حقبة من يومياتي، وفق جل تضمينات حيثياتها.

فجأة توارى عن المشهد، غادرني وتركني وحيدا، لم يعد هنا، صار مجرد ذكرى حقا مختلفة ومتفرِّدة، ستتحول جراء فعل اتساع فجوة الزمن،إلى نوستالجيا ناعمة ولذيذة،عالقة بين تلابيب ذاكرة تترنَّح حيال الاضمحلال.

علمت بأنَّ بعض الروائيين، خاصة الذين يكتبون بحِبْر فؤادهم، قد استمر تعلقهم الوجداني طويلا بطيف أحد أبطال نصوص رواياتهم، حدَّ عجزهم أحيانا عن انتشال ذواتهم من براثن عوالمه الملهمة، بحيث استلبهم أيما استلاب خَلْقه بطريقة ماكرة، لم تكن منتظرة أبدا.

أيضا، ينساق حال بعض هؤلاء الكتَّاب،غاية تقمصه اللاواعي لنموذج بطله الورقي، رغم أنه صاحب فضل وجوده في هذا العالم.