الأحد  22 كانون الأول 2024

راشد حسين وحضوره في المقرّرات الفلسطينيّة

2023-02-09 12:19:13 PM
راشد حسين وحضوره في المقرّرات الفلسطينيّة
راشد حسين

الحدث- فراس حج محمد

مقدّمة: نظرة عامّة حول المناهج الفلسطينيّة

أصدرت وزارة التربية والتعليم الفلسطينيّة في المرحلة الأخيرة من تطوّر المنهاج الفلسطينيّ كتباً متعدّدة، مقرّرة على الطلّاب في المدارس الفلسطينيّة، الحكوميّة والخاصّة ومدارس الأونروا، وتمّ تعديل هذه المقرّرات عدّة مرّات منذ أوّل مرّة تُصدر فيها الوزارة كتباً خاصّة بعد أن استغنت عن كتب المناهج الأردنيّة، تبعا لاتفاقيّات أوسلو التي أعطت الإذن للفلسطينيّين بإعداد مناهج خاصّة بهم، ذات ارتباط منهجيّ بالثقافة الفلسطينيّة وأفكارها وأعلامها، لكنّها كانت خاضعة للمراقبة الدولية، ومموّلة من بعض الجهات الدوليّة. وبناء على ذلك صدرت بالتدريج كتب المقرّرات لكلّ المباحث حتّى عمّت ضمن استراتيجيّة مرحليّة كلّ الصفوف من الأوّل حتّى الثاني عشر.

ربّما كان للاحتلال- أوّل أن أنشئت المناهج الفلسطينيّة- حقّ التدخّل فيها والإشراف عليها، بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، ورفض ما لا يتوافق وأساليبه الاحتلاليّة تحت مزاعم بناء ثقافة السلام ونبذ العنف ومكافحة الإرهاب، هذه السيطرة التي بدأت تضعف، ويتفلّت منها واضعو تلك المقرّرات بحكم كثير من الظروف السياسيّة والاقتصاديّة، إذ رفضت الدول الراعية للمناهج الفلسطينيّة تمويل طباعة الكتب الفلسطينية الأخيرة؛ لأنّ قد تضمّنت العديد من الدروس التي لا تتوافق وسياسة تلك الدول، فقد تضمّنت أفكاراً وطنيّة مقاومة، تعدّ في نظرها تحريضيّة، وسبق لوزارة التربية والتعليم أن أخرجت كتب "التربية الوطنيّة" من سلسلة الكتب التي تشرف على طباعتها، وأوعزت للمعلمين والطلّاب بشراء كرّاسات خاصة من المكتبات، سمحت بتدريسها في المدارس في حصص "التربية الوطنيّة"، قبل أن يتمّ إلغاء هذه الكتب نهائيّاً، وتضمين محتواها في مادّة الدراسات الاجتماعيّة.

ما يعنيني في ذلك كتب اللغة العربيّة في مرحلتها الأخيرة المعتمدة حاليّاً في المدارس الفلسطينيّة من الصفّ الخامس الأساسي وحتّى الثاني عشر، واعتمدتُ الطبعة الثانية الصادرة عام 2020، وبلغ مجموع كتبها المقرّرة ثمانية عشر كتاباً لثمانية صفوف، إذ لكلّ صفّ من الصفّ الخامس الأساسي وحتّى التاسع الأساسي كتابان، وللصفّ العاشر الأساسي كتابان أحدهما للفرع المهني، وأما كتب الصفّين الحادي عشر والثاني عشر فهي ستّة كتب، شاملة فروع هذين الصفّين الأكاديميّة والفرع المهني.

أولت المناهج الفلسطينيّة الكتّاب الفلسطينيّين أهمّيّتها، فأوردت نصوصاً لكثيرين منهم، توزّعت على تلك الكتب المقرّرة على طلّاب هذه الصفوف، من أمثال محمود درويش، وسميح القاسم، وفدوى طوقان، ووليد سيف، ومحمود شقير، وتميم البرغوثي والمتوكّل طه، وكتّاباً آخرين أقلّ شهرة وحضوراً في سياق الثقافة الفلسطينيّة، وأهملت آخرين ممّن لهم دور بارز في حركة الأدب الفلسطيني، سواء أكانوا باحثين أم أدباء.

لكنّ المهم في هذه المسألة هنا هو حضور الشاعر راشد حسين في هذه المقرّرات، ضمن سياق التأليف المنهجي الذي جاءت عليها تلك المقرّرات، فقد حضر راشد حسين أوّلاً في كتاب الصفّ التاسع الأساسي للفصل الدراسي الأوّل، وأعيد ذكره في الصفّ الثاني عشر، على ما سأوضح فيما يأتي.

راشد حسين في كتاب الصفّ التاسع الأساسي:

اعتمد الكتاب قصيدة راشد حسين "هي وبلادي" التي جاءت في ديوانه الأوّل "مع الفجر" الصادر عام 1957، والقصيدة مكوّنة من (19) بيتاً، حذف المؤلّفون منها بيتاً واحداً، لتستقرّ القصيدة في الكتاب بثمانية عشر بيتاً، والمحذوف هو البيت الثالث عشر، كما جاء في الأعمال الشعريّة، القائل فيه:

للحبّ نحو القلب درب واحد

ولموطني في القلب مائة مدخلِ

(الأعمال الشعريّة، مركز إحياء التراث، الطيبة، 1990، ص 90)

ولا أجد سبباً منطقيّاً لحذفه، بل إنّ هذا البيت هو لبّ لباب الفكرة، وبيت القصيدة فيها، لما فيه من عموميّة في توضيح الفكرة، تعمّق شرح التفاصيل التي سبقته أو لحقت به، فهل للقصيدة رواية أخرى اعتمدها المؤلفون؟ لا أظن ذلك.

يُعرّف الكتاب ضمن منهجيّته المعتمدة في التأليف بالشاعر راشد حسين، فيكتب تحت عنوان "بين يدي النصّ":

"راشد حسين إغبارية أحد أبرز شعراء المقاومة الفلسطينيّة، ولد في قرية مصمص قرب أمّ الفحم سنة 1936، وتعلّم فيها، عمل مدرّساً لثلاث سنوات، قبل أن يُفصل أمنيّاً، عمل بعد عام 1967 ممثلاً ثقافيّاً لمنظّمة التحرير الفلسطينيّة في الولايات المتّحدة الأمريكية، وقد اغتيل إثر حرق منزله في نيويورك، ودفن في مسقط رأسه". (الكتاب، ص 65)

وفي هذا التعريف مغالطات، تدلّ على أنّ من اختار هذه الفقرة فقير في المعلومات، ولم يعد إلى المصادر المعتبرة، فراشد حسين لم يعمل ممثّلاً لمنظّمة التحرير في الولايات المتّحدة، بل كان ممثّلاً للمنظّمة في الأمم المتّحدة، وفرق كبير في الدلالة السياسيّة بين أن يكون ممثّلاً للمنظّمة في الولايات المتّحدة وبين أن يكون ممثّلاً للمنظّمة في الأمم المتّحدة التي مقرّها نيويورك في الولايات المتّحدة، بل إنّ هناك الكثير من الالتباسات السياسيّة في علاقة الولايات المتّحدة مع المنظّمة ومع "دولة فلسطين" إلى الآن، على الرغم من اتّفاقيّات أوسلو. (راجع مثلاً: مقال كريم سرحان في موقع صحيفة الحدث الفلسطيني، القصّة الكاملة لمكتب منظّمة التحرير في واشنطن).

وثاني هذه المغالطات أنّ راشد حسين "اغتيل" في نيويورك، وكثير من المصادر لا ترى أنّه قد اغتيل، والموساد ليس له علاقة بموته لا من قريب ولا من بعيد، بل إنّ الرواية التي يذكرها أصدقاؤه ومعارفه ومنهم صليبا خميس ومحمود درويش تقول ربما إنّه انتحر نتيجة لسوء أوضاعه الماديّة والنفسيّة في نيويورك بعد أن طلّق زوجته اليهودية آن إليف، وهي يهودية أميركية، وزوجة ضابط إسرائيلي، انفصلت عنه.

لم يحقق الشاعر راشد حسين نجاحاً في الدراسة الجامعيّة، وكان دون عمل ثابت. ويعتمد في معيشته على ما يقدّمه للصحف من موادّ وترجمات عن العربيّة إلى العبريّة أو العكس. على الرغم من أنّني أرى أنّ سيناريو الانتحار ضعيف، فما أودى به مجرّد حريق عرضي نشب في العمارة التي كان فيها، فاحترقت بما فيها شقّته، على ما جاء في بعض المصادر أو حريق نشب في غرفة نومه بسبب سيجارة.

كما أنّ هذا التعريف غائم وقاصر، فلا يذكر شيئاً من مؤلّفاته، وفصله من عمله يبنيه للمجهول، ولا يذكر بصريح العبارة أنّ من قام بذلك سلطات الاحتلال التي كانت في ذلك الوقت تطبق على العرب داخل مناطق الاحتلال الأولى (1948) الأحكام العرفيّة والحكم العسكري التعسفي، ففصلته لنشاطاته التي كان ينظر إليها في ذلك الوقت على أنّها معادية، علماً أنّه كان عضواً في حزب "مابام" اليساري "الإسرائيلي"، ولم يكن على خلاف "وجودي" مع الكيان الغاصب، شأنه في ذلك شأن أغلب المثقّفين اليساريّين الفلسطينيّين من أمثال محمود درويش وسميح القاسم وإميل حبيبي وتوفيق زيّاد وغيرهم.

أمّا في التعريف بالقصيدة فيشرح الكتاب الفكرة العامّة، فأشير إلى وقوع المؤلّفين بمخالفة القاعدة في التذكير والتأنيث فيقول: "حيث أدار حوار مع محبوبته الإنسانة"، ومن النادر والشاذّ أن يتمّ تأنيث لفظ الإنسان، لأنّ هذا اللفظ اسم جنس شامل للذكور وللإناث، وهو ممّا لا يفرّق بينه وبينه واحده بالتاء المربوطة أو بالياء. على أيّة حال ليس هذا النقاش محلّه هنا. ثمّ تتبع القصيدة بتسع عشرة فقرة تقويميّة منوعة؛ أسئلة حول النصّ.

وقبل الانتقال إلى الكتاب الثاني لا بدّ من طرح هذا السؤال: ما الذي سيستفيد منه الطلّاب من دراسة هذه القصيدة؟

لا شكّ في أنّ هذه القصيدة مهمّة، لما فيها من توازن العاطفة بين الوطن والمرأة، لاسيّما والطلّاب المستهدفون تتراوح أعمارهم بين 14 و15 سنة أو أكثر قليلاً، وهذه مرحلة تفتّح عقلي ووجداني وغرائزي لدى الطلّاب، فترشدهم إلى أنّ ثمّة ما هو أولى في الحياة، ففلسطين وطبيعتها الجميلة هي الأولى بالملاحظة والتأمّل، مع أنّ القصيدة لا تهمل العاطفة تجاه المرأة بل تجعلها في المقام الثاني تهذيباً لنفوس الطلّاب وتربيتهم التربية المتّسقة مع أهداف التربية والتعليم في خطوطها العريضة التي اعتمدتها الوزارة.

كما أنّ لغتها سهلة، ومعانيها قريبة، وعميقة وليست ساذجة، ما يجعلها مؤهّلة تربويّاً وتعليميّاً لأن تكون نصّاً مدروساً في المقرّرات للطلّاب والطالبات على حدّ سواء، متوافقة مع ما يفكّرون وما يشعرون به، وما يُطمح إليه من بناء منظومة القيم لدى هؤلاء الطلّاب.

أمّا الأسلوب فقد اعتمدت الأسلوب القصصي، وأخذت منه الحوار والوصف، فجاءت القصيدة بطريقة غير مألوفة، ممّا يجعلها قريبة من الطلّاب وأمزجتهم، لما تبنيه في عقولهم وأنفسهم من سماع الحجج المنطقيّة والتعليلات الذهنيّة. وكان ينبغي على المؤلّفين أن يشيروا إلى معالم هذا الأسلوب المختلف عن قصائد الكتاب المدروسة، ما يعزّز فكرة التنوّع الأسلوبي في التدريس وفي الإنشاء، ويساهم في تخلّق الأساليب غير المعتادة لدى الطلّاب، إذ إنّ الخروج عن المألوف بطريقة جماليّة لافتة أحد شروط الإبداع ومؤشّراته.

راشد حسين في كتاب الصفّ الثاني عشر:

أمّا في الصفّ الثاني عشر فحضر راشد حسين في كتاب "اللغة العربيّة 2- الأدب والبلاغة"، وهو مقرّر على الطلّاب في الفرعين الأدبي والشرعي، وجاء ضمن الوحدة الرابعة المخصّصة لدراسة الشعر الفلسطينيّ الحديث.

ورد ذكر الشاعر في هذه الوحدة مرّتين، الأولى في عداد شعراء فلسطين في المرحلة الثانية التي أطلق عليها الكتاب "شعر النكبة" وجاء اسمه آخر الأسماء، بعد "معين بسيسو، وفدوى طوقان، وأبو سلمى، وتوفيق زياد، ويوسف الخطيب، وهارون هاشم رشيد". (الكتاب، ص 33)

ومن الجدير بالذكر أنّ ورود هذه الأسماء بهذه الطريقة يومئ إلى اللامنهجية وإلى عدم المعرفة، فليس كلّ هؤلاء الشعراء شعراء نكبة، لأنّ شعراء النكبة أو الذين كتبوا شعرا غلب عليه اليأس والهزيمة بعد قيام الكيان المحتلّ لم تكن منهم على سبيل المثال فدوى طوقان التي دخلت إلى حلبة الشعر المقاوم بعد عام 1967، وكان من الأولى ذكر محمود درويش الذي أصدر في هذه الفترة التي يحدّدها الكتاب (1948-1967) ثلاثة دواوين: أوراق الزيتون 1964، وعاشق من فلسطين 1966، وآخر الليل 1967.

ويعود الكتاب إلى الاستشهاد بشيء من شعر راشد حسين عندما درس موضوعات الشعر الفلسطينيّ، فيكتب في الموضوع الأوّل المخصّص لتصوير الثورات، كيف صور راشد حسين مجزرة صندلة التي راح ضحيتها (15) تلميذاً، ويستشهد بثلاثة أبيات من قصيدة "الغلّة الحمراء"، من ديوان "صواريخ" الصادر  عام 1958: (الأعمال الشعريّة، ص 184-189)

مرج ابن عامر هل لديك سنابل

أم فيك من زرع الحروب قنابل؟

أم حينما عزّ النبات صنعت من

لحم الطفولة غلّة تتمايل

أحسبت أقلام الرصاص بنادقاً

وبأنّ صبيتنا الصغار جحافلُ

(الكتاب، ص 34)

ولعلّ هذا الاستشهاد غير موفّق، فالبند معنون بـ "تصوير الثورات"، ثمّ يأتي المؤلّفون بذكر مجزرة صندلة، ولعلّهم أرادوا تصوير المجازر. ربّما لم ينتبه المؤلّفون والمعلّمون والتربويّون ذوو الصلة إلى هذا الخطأ.

ومهما يكن من أمر، فإنّه لأمر حسنٌ التفات المؤلّفين إلى راشد حسين وهو أحد شعراء المقاومة الأوائل، لكن هذا الالتفات ليس منهجيّاً، وليس مبنيّاً على قواعد صحيحة، فلا بدّ من أن يكون هناك استراتيجيّة واضحة لورود شعراء فلسطين في كلّ مفاصل المنهاج الفلسطينيّ بمقرّراته الثمانية عشر، وألّا تظلّ خاضعة للحظّ والذائقة الشخصيّة.

عدا أنّه يجب إخضاع هذا كله إلى مراجعة علميّة دقيقة، فالمقرّرات التعليميّة لا تكتب بطريقة الحدس والتخمين، بل لا بدّ من العودة إلى المصادر المعتبرة ذات الصلة، وأن يقوم بها متخصّصون أكاديميّون ونقّاد، ذوو اطّلاع ومعرفة واسعة بخريطة الأدب الفلسطينيّ وغيره من الموضوعات التي يطرحها المنهاج الفلسطينيّ في مقرّراته، فلا بدّ من مراجعة شاملة، لأنّ الأخطاء كثيرة وكبيرة، بل قاتلة في بعض الأحيان.