الأحد  22 كانون الأول 2024

"العَلاقة الخلّاقة بين الكتابة والبحث والإبداع" لــ محمد محسن

2023-02-26 12:15:26 PM
محمد محسن

الحدث الثقافي

في هذه المساحة التي ننشر فيها نصوصاً ذات قيمة ثقافية اخترنا مقالاً بعنوان "العَلاقة الخلّاقة بين الكتابة والبحث والإبداع" لعميد المعهد العالي للدّكتوراه في الآداب والعلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة في الجامعة اللبنانيّة الاستاذ الدكتور محمّد محسن.

وجاءت المقالة كما يلي:

لا شكّ في أنّ عالم الإبداع هو عالم قائم بذاته، وهو يتطلّب الكثير من الدّراية بالواقع والثقافة والاتّجاهات الفكريّة والحسّ النقديّ والخيال، والأهمّ القدرة على التعبير عن المشكلات، والقضايا، والاجتماع الإنسانيّ، في سرد أدبيّ وتحليل علميّ يخرجان من المألوف، ويحلّقان في فضاءات الكتابة المُبتكرة والفريدة والجذّابة؛ لتضفي -من ثَمّ- هالة على الكاتب الجادّ، وبُعدًا جديدًا في جوهر النصّ يساهم في عمليّة التطوّر والتغيير الفرديّ والمجتمعيّ.

لا يمكن بناء النصوص الّتي تُصنَّف إبداعيّة على أنقاض نصوص إبداعيّة أخرى سبق أن تناولت الموضوع نفسه، أو عالجت الفكرة نفسها

الإبداع ليس إبداعًا إذا سَجن الخيال وأعاق نموّه وتقوقع في شرنقة التحجّر؛ وهو في الأصل، ليس تقليدًا أعمى لإبداعات الآخرين؛ إذ لا يمكن بناء النصوص الّتي تُصنَّف إبداعيّة على أنقاض نصوص إبداعيّة أخرى سبق أن تناولت الموضوع نفسه، أو عالجت الفكرة نفسها مع اختلاف الزّمان والمكان والظروف الموضوعيّة الحاكمة. يصبح الأمر أجدى وأمتع إذا تجاوزنا حرفيّة النصّ، ثمّ راعينا تغيّر الأحوال والبيئة، ليتحقّق الارتقاء إلى مصاف التجديد والحداثة والخروج على المألوف وأنماط التفكير السائدة.

في عالم السّينما، تفشل الأفلام الّتي تعتمد في إنتاجها حرفيّةَ الرّوايات العالميّة، وتنجح عندما يجري تفكيكها وإعادة تركيبها وإخراجها بأسلوب يرتكز، بصورة أساسيّة، على الثّراء الدلاليّ لهذه الأعمال، كما على العِبَر والمعاني الكامنة والدّروس المستفادة.

إذًا، تقديم النصّ القديم برؤية عصريّة، كما فعلت السينما الأمريكيّة الجادّة بروايات شكسبير: "العاصفة"، و"هاملت"، و"الملك لير"، الّتي استطاع روّاد الفنّ السّابع تحويلها إلى تراجيديا معاصرة. والأمر نفسه يُقال عن روايات همنغواي: "لمن تدقّ الأجراس"، و"وداعًا للسلاح"، و"العجوز والبحر"، الّتي هي إبداعات سينمائيّة مضافة، ولا تخلو من الطرافة والرّقيّ والرّصانة.

مسرحية وليام شكسبير "هاملت"

إشكاليّات الإبداع في الشعر والأدب والفنون تلقي بظلالها أيضًا على إشكاليّات الابتكار في البحث العلميّ. إنّ عالم العلوم الإنسانيّة هو عالم إبداعيّ بذاته؛ ليس لأنّه يتطرّق إلى الإنسان وبيئته ورفاهيّته فحسب؛ بل لأنّه يقدّم جديدًا في اكتشاف العلاقة الشائكة في ما بين الإنسان والإنسان، وما بين الإنسان ومحيطه الاجتماعيّ، وما بين الإنسان وخالقه. الإنسانيّات ترصد الأزمان المتلاحقة في الاجتماع والسّياسة والاقتصاد والثقافة والحروب والكوارث الطبيعيّة والأوبئة الّتي تُصيب الإنسان وتجترح الحلول.

البحث في الإنسانيّات، يمنحنا المقارنة في ما بين مشاريع بحثيّة متشابهة، يمكن توصيف نتائجها في دراساتنا وأبحاثنا؛ ولكن لا يمكن الرّكون إليها بالمطلق؛ لأنّها خُلقت في زمان غير زماننا، وترعرعت في بيئة غير بيئتنا، وذهبت في اتّجاهات فكريّة قد لا تتلاءم مع سيرورة تطوّر مجتمعاتنا. هذا، مضافًا إلى الوقوع في فخّ التكرار وعدم المواءمة، والأهمّ الابتعاد عمّا يحقّق الجِدّة والصّفة الإبداعيّة للبحث؛ فمثلًا، إذا تعمّقنا في الأثر السياسيّ والنفسيّ للرّسومات الكاريكاتوريّة، في وسائل الإعلام، في أثناء المراحل التاريخيّة للصراع العربيّ – الإسرائيليّ، والّتي كانت تُصنَّف إبداعيّة في الشكل والمضمون، في ذلك الزمان، وتلقى تأثيرًا إيجابيًّا كبيرًا في الرأي العامّ العربيّ؛ فإنّه الآن يختلف عن معالجة الأثر نفسه في زمن التحوّلات الكبرى في منطقة الشّرق الأوسط، وفي الاصطفافات والاستراتيجيّات الإعلاميّة المستجدّة للإعلام العربيّ.

قد نرى إبداعات جديدة في الشكل الفنّيّ للكاريكاتور كنتيجة للتطوّر التكنولوجيّ؛ ولكنّنا فقدنا، في خضمّ المواجهة، الرّموز الدلاليّة لأيديولوجيّة الصراع مع العدوّ.

الأمر ليس بهذه السهولة كما يظهر؛ فالموضوع يصبح إبداعيًّا في العلوم الإنسانيّة عندما يلتزم الباحث بالضّوابط والأعراف المنهجيّة للبحث العلميّ، والأهمّ من ذلك كلّه عندما يُستخدم التنوّع في المقاربات والنظريّات الّتي تغرف من سلّة العلوم الإنسانيّة المكمّلة، والتي تتداخل وتتشابك مع متطلّبات معالجة موضوعه، ليفتح بذلك مسارًا فكريًّا جديدًا، ما يمكّنه من الخلق والابتكار والمعالجة الخلّاقة للواقع المَعيش أو المأزوم.

إنّ الكتّاب والباحثين المُجيدين يستطيعون وحدهم أن يتناولوا، بعمق، أفكار الآخرين، ويخلقون البدائل. هم يؤتمنون على المساهمة في حلّ مشكلات المجتمع، وهم قادرون على التواصل الفعّال مع الطبقات الاجتماعيّة والشرائح المتعدّدة والمتنوّعة، وهم سادة السّهل الممتنع في الترفيه المفيد.

الفائدة العامّة ومصلحة البشر هي في النهاية الغاية السامية للعمليّة الإبداعيّة.

 

المصدر: دورية " نشر بحث"، مركز البحوث والتنمية المستدامة، لبنان، شتاء ٢٠٢١.