الأحد  22 كانون الأول 2024

ألبرت غلوك مؤسس علم الآثار الفلسطيني في مواجهة علم الآثار التوراتي| بقلم: نبهان خريشة

2023-02-27 01:00:18 PM
ألبرت غلوك مؤسس علم الآثار الفلسطيني في مواجهة علم الآثار التوراتي| بقلم: نبهان خريشة

في مساء يوم ماطر في كانون ثاني 1992، أطلق شخص مجهول مقنع بكوفية فلسطينية، ويرتدي سروالا من الجينز وحذاءً رياضياً، النارعلى عالم الآثار الأمريكي "ألبرت غلوك" أمام بيته في بلدة بيرزيت شمال رام الله، وأصابه برصاصتين بالرأس وبالقلب بما يسمى في علم الجريمة بــ (Double Tag)، فخرصريعا على الفور..

لم تتبن أية جهه فلسطينية عملية إغتياله، وخلصت لجنة تحقيق فلسطينية (كنت أنا عضوا فيها)  لنتيجة مفادها، أن المخابرات الإسرائيلية هي من اغتالته، لأن منفذ العملية كان على درجة عالية من الإحتراف، بإصابته والقلب والرأس، وشوهد وهو يهرب من بيرزيت بسيارة فورد بيضاء تحمل لوحة إسرائيلية (هذا النوع من السيارات كان يستخدمها ضباط المخابرات الإسرائيليين)، كما أن الشرطة الإسرائيلية لم تحضر الا بعد 3 ساعات على إغتياله، ولم تهتم بالتحقيق في موقع الجريمة،  بالإضافة الى ذلك، فقد أفادت مصادر مقربة من غلوك أنه كان ينقب في موقع أثري في نابلس، وسط تقديرات بأنه كان على أعتاب اكتشاف أثري كبير في الموقع، قد يكشف عن عدم الشرعية التاريخية لإسرائيل.    

وألبرت غلوك المؤسس لمعهد الآثار الفلسطيني في جامعة بيرزيت، كان قد وصل الى فلسطين عام 1962 كعالم آثار توراتي، الا أنه إكتشف بعد الأعوام السبعة عشرالتي عاشها في فلسطين قبل التحاقه بالجامعة عام 1979، أن ما تعلمه في أيام شبابه على أنها أرض التوراة، ما هي في الحقيقة الا أرض صراع عربي-إسرائيلي، مليئة بالظلم وسفك الدماء، وتحول بشكل عميق من عالم آثار توراتي الى عالم من نوع آخر، إستخدم فيه علمه ومهارته في الكشف عن تاريخ بديل لفلسطين، يستمده من الوقائع الأثرية لا من مرويات التوراة.

 إن علم الآثار كان ولا يزال أحد الركائز التي استندت إليها الحركة الصهيونية بمساعدة مستشرقين، في استدراج مخيلة العالم المسيحي، والعمل على محو الفلسطينيين من حاضر وماضي بلادهم، فعمل غلوك على التنقيب في المواقع الأثرية الفلسطينية، وأضاف اليها الدراسات الأناسية والتاريخية للمجتمع الفلسطيني، منها كتابه الذي ساهم في إعداده الدكتوروليد الخالدي (ذاك كل ما يتبقى: القرى الفلسطينية التي احتلتها إسرائيل في العام 1948 واقتلعت سكانها)، كرس فيه نهجه ونقده لما يدعى بعلم الآثار التوراتي، والإختلافات الجذرية بين علم الآثار الفلسطيني والعلم اللاهوتي المختلق. ويمكن اعتبار مقالته (التحامل الثقافي في علم الآثار)، ومقالة (علم الآثار وسيلة نجاة ثقافية: مستقبل الماضي الفلسطيني)، الأكثر أهمية، شرح فيهما أسباب التحيز الغربي ضد فلسطين العربية، وخاصة منذ بداية حملات التنقيب عن الآثار في منتصف القرن التاسع عشر، كما حدد فيهما الخطوط المنهجية لمواجهة وفضح التحيز ضد الفلسطينيين .

وجاء في دراسة للباحثة "كاترين لايمي" صدرت عن دائرة الأنثروبولوجيا في جامعة نبراسكا الأمريكية في العام 2007، بعنوان (الآثار في فلسطين: حياة وموت ألبرت غلوك)، أن غلوك يرى أن علم الآثار ثقافة حية، وبناء على ذلك إنصبت تنقيباته الأثرية وجهوده البحثية على كشف عيوب علم الآثار التوراتي، كما عمل على تأسيس علم آثار فلسطيني لمعالجة المهمل من تاريخ فلسطين، متصديا بذلك لما عمل الأثريون التوراتيون عليه من دراسات لسنوات طويله، تفسر التاريخ الثقافي الفلسطيني على أنه "ثقافة منخفضة تعتمد اعتمادا كليا على الواردات الثقافية"، كما أنه جادل طويلا بأنه ما لم يتم تحريرعلم الآثار في الشرق الأوسط من "الأسطورة التوراتيه"، فإن هذا العلم لا يمكنه أن يدرس تاريخ فلسطين بشكل كاف،  وعليه فقد وضع الأسس لعلم آثار يركزعلى الماضي الفلسطيني، بما في ذلك أكثر من 1400 عام من التوطن الإسلامي، لتطوير صورة أثرية أكثر واقعية للمنطقة.

وعند مراجعة مؤلفات غلوك من كتب ومقالات، تتضح رؤيته بأن علم الآثار لا ينحصر في دراسة الماضي البعيد فقط، وإنما القريب أيضا، ولهذا عمل على دراسة مخيمات اللاجئين الفلسطينيين والقرى العثمانية، والتقويم النقدي للمواد المكتوبة، وقضى غلوك الأشهرالأخيرة من حياته، باحثاً بدقة في الوثائق التاريخية والصور الفوتوغرافية لنحو 418 قرية فلسطينية دمّرت عند قيام إسرائيل عام 1948، كما ربط منهجه الإثني الأثري والتاريخي، الناس الأحياء بالتقاليد الثقافية المحفوظة في السجل الأثري، وساعدت دراساته على تفسير بناء التلال الشرق أوسطية، التي تطورت من بقايا وخرائب التوطن المستمرعلى مدى مئات وآلاف السنوات.

لقد وضعت رؤية غلوك المتعددة التخصصات، علماء الأنثروبولوجيا والمؤرخين والمهندسين المعماريين والمصورين، للعمل جنباً إلى جنب مع علماء الآثار، كما أنه سعى أيضا إلى استقصاء الجوانب التي لا تزال حية من الماضي الفلسطينيي في أنماط المستوطنات القروية التقليدية، وهياكل المباني المحلية والعامة، ونظم الكفاف، والتنظيم الاجتماعي،  ومن شأن هذا المنهج في علم الآثار، أن يساعد الفلسطينيين على التفاعل مع ماضيهم، ومواصلة تقاليدهم الثقافية في المستقبل.