الجمعة  31 تشرين الأول 2025

الكاتبة آية نصر: كتابي صار حرًّا أكثر مني

بين شهادة وفاة وشهادة ميلاد..الكاتبة آية نصر تصدر كتابها "في غزة نجا من مات ومات من نجا"

2025-10-31 03:50:02 AM
الكاتبة آية نصر: كتابي صار حرًّا أكثر مني
آية نصر

تدوين- مثنى النجار

بين ركام البيوت ودفاتر الذاكرة وخيام النزوح، تولد الحكايات التي لا تموت وتكتب الشابة آية نصر ابنة بيت لاهيا فصولًا من الضوء وسط العتمة، تصوغ آية وجع مدينتها بحبر الصبر، وتوثّق النبض الأخير للحياة في أرضٍ تأبى أن تموت.

درست الإدارة الصحية وتفوّقت بامتياز، لكنها لم تنفصل عن شغفها الأول — الكتابة — التي صارت نافذتها على العالم وصوتًا لمن صمتوا تحت الركام.

وخلال الحرب، تطوّعت بين المخيمات ومراكز الإيواء لتقدّم الدعم النفسي والتثقيف الصحي للسيدات، فجمعت بين الإنسانية والمقاومة في صورة امرأة واحدة.

في هذا الحوار، تفتح آية أبو نصر قلبها وتحدّثنا عن كتابها "في غزة نجا من مات ومات من نجا"، وعن الرحلة التي جمعت بين الألم والتوثيق، بين الذاكرة والنجاة، بين المرأة الكاتبة والإنسانة التي تحاول أن تلتقط أنفاسها بين الرماد.

تدوين: من هي آية أبو نصر بعيدًا عن الكتابة؟

نصر: آية إنسانة قبل أن تكون كاتبة، اسمي آية فرح بركة أبو نصر، عمري 29 عاماً، من مدينة بيت لاهيا شمالي قطاع غزة. تخصصت في الإدارة الصحية وتخرجت بامتياز، وأعمل في مجال تخصصي دون أن أتخلى عن موهبتي في الكتابة يوماً.

ولكن منذ بداية الحرب، تطوعت في مجال التثقيف الصحي والدعم النفسي للسيدات في المخيمات ومراكز الإيواء في شمال غزة.

وبعيدًا عن الكتابة، أحب الزوايا الهادئة، رائحة القهوة، وصوت البحر.

فقدت خلال الحرب أخواتي الخمس بأزواجهن وعائلاتهن وأولادهن: محمد، ومروان، ومنار، وصابرين، وسحر، كما فقدت عمي الكبير وأولاده الستة بعائلاتهم، زوجاتهم، وأولادهم، وأحفادهم.

وفقدت أيضًا عمتي وأولادها بعائلاتهم وأحفادهم، وأولاد خالي الأربعة بعائلاتهم وأولادهم، بالإضافة إلى عدد من الأقارب.

تدوين: بدايةً، من أين وُلدت فكرة هذا الكتاب؟ وهل كان الألم هو الدافع الأول أم الرغبة في الشهادة والتوثيق؟

نصر: الفكرة لم تولد بقرار، بل من رحم الوجع.

لم أكن أكتب لأخفف عن نفسي فقط، بل لأمنح صوتًا لمن صمتوا إلى الأبد.

الألم الذي رأيته في عائلتي لقد فقدت 150 فردًا من عائلتي في أكبر مجزرة في الشمال كان هو الشرارة الأولى، لكن الرغبة في الشهادة والتوثيق كانت النبض الذي أبقى القلم حيًا.

تدوين: عنوان الكتاب "في غزة نجا من مات ومات من نجا" يحمل مفارقة موجعة؛ كيف اخترت هذا العنوان وما الرسالة التي أردت إيصالها من خلاله؟

نصر: العنوان خرج من قلب المفارقة التي نعيشها في غزة؛ الموت أحيانًا رحمة، والنجاة عبء ثقيل.

أردت أن أقول إننا نعيش بين الرماد كأننا موتى مؤجلون، وأن النجاة لا تعني الحياة بالضرورة.

تدوين: هل شعرت أثناء الكتابة أنكِ تكتبين عن الآخرين أم عن نفسك أيضًا؟

نصر: كنت أكتب عن الآخرين، لكنهم جميعًا يسكنون داخلي.

كل قصة كنت أسمعها كانت تعبرني أولًا.

لم أستطع الفصل بين ما أرويه وما أعيشه؛ كل حكاية كانت مرآة لوجهي الذي تبدلت ملامحه من الحزن.

تدوين: كيف استطعت توثيق تجارب النساء وسط ظروف الحرب، الحصار، والنزوح؟

نصر: بالتقاط التفاصيل الصغيرة التي لا تلتقطها الكاميرا، لقد كنت أستمع إليهن في الظلام، على ضوء شمعة، أدوّن الارتجافات والدموع قبل الكلمات ولم يكن التوثيق مهمة صحفية، بل عهد إنساني لكل رواية.

تدوين: هل هناك قصة معينة داخل الكتاب تركت فيكِ أثرًا لا يُمحى؟

نصر: كل مرة أواجه فيها مشاهد الموت والفراق والوداع، يبقى المشهد الذي ترك فيَّ الأثر الأكبر هو ذلك اليوم الذي ذهبت فيه لاستخراج شهادة وفاة لإخوتي، وفي اللحظة نفسها كان المكتب يُصدر شهادة ميلاد لطفل جديد. عندها كتبت:

"بين شهادة وفاة وشهادة ميلاد، ماذا أقول؟

في بلادي، نجا من مات ومات من نجا.

أم أقول: مجنونة هذه المدينة، بلاد الحب والحياة، نخلق من اللاشيء كل شيء، ومن اللاحياة حياة.

من كمثلها بلادي؟ غزة... أيقونة الحب، من بين الإبادة نتزوج وننجب،

يموت طفل فيولد ألف طفل، ويموت بطل فيولد مئات الأشبال.

هذه البلاد لن تموت، ولن يموت فيها الحب".

تدوين: هل تعتبرين الكتاب أدبًا توثيقيًا أم أدبًا مقاومًا يحمل رسالة إنسانية؟

نصر: هو أدب توثيقي مقاوم في آنٍ واحد. التوثيق هو فعل مقاومة بحد ذاته، لأننا نرفض أن تُمحى ذاكرتنا. والإنسانية هي سلاحنا الأقوى في وجه كل ما هو وحشي.

تدوين: ما الدور الذي يمكن أن تلعبه المرأة الكاتبة في حفظ الذاكرة الفلسطينية؟

نصر: المرأة في فلسطين ليست شاهدة فقط، بل حافظة الذاكرة. هي التي تكتب وتُرضع أبناءها الحكاية ذاتها. الكاتبة الفلسطينية مسؤولة عن نقل الرواية بأمانة، لأننا نواجه احتلالًا يسعى لمحو القصة قبل الأرض.

تدوين: كيف كان أسلوبك الأدبي في سرد التجارب؟ هل اعتمدتِ الواقعية البحتة أم لغة رمزية؟

نصر: مزجتُ الواقعية بالرمزية، لقد كنت أحتاج أن أكون صادقة حتى أقنع القارئ، وشاعرية حتى أُبقي الوجع محتملًا.

الواقع وحده قاسٍ، والرمز يمنحه معنى يتجاوز حدود اللحظة.

تدوين: ما الصعوبات التي واجهتكِ في إخراج النصوص وسط انقطاع الكهرباء، الحصار، وتشتت المشاعر؟

نصر: كنت أكتب أحيانًا على دفاتر الأطفال أو على هوامش قصاصات ما تبقى من الورق.

الكتابة في غزة مغامرة ضد المستحيل ولم يكن التحدي في إيجاد الوقت، بل في الاحتفاظ بالروح وسط الركام.

تدوين: الكتاب طُبع في الأردن ويسافر في المعارض دونك، ماذا تشعرين وأنت ترين كلماتك تجوب العالم وأنتِ لا تستطيعين الخروج؟

نصر: أشعر بأن الكتاب صار جناحي الذي يعبر عني حين لا أستطيع. يؤلمني أن أراه في مدن لم أزرها، لكن يعزّيني أنه حرّ أكثر مني.

يكفيني أنه يخرج ليروي عنّا لمن لا يسمع صوتنا.

تدوين: كيف استقبل القراء العرب الكتاب؟ وهل وصلك أي تفاعل مؤثر من الخارج؟

نصر: الدهشة كانت أكبر من التوقع. وصلتني رسائل من قراء في تونس والمغرب والأردن يقولون إنهم بكوا وكأنهم فقدوا أحبتهم معنا. هذا التفاعل جعلني أؤمن أن الوجع الفلسطيني صار وجعًا إنسانيًا مشتركًا.

تدوين: هل تلقيت دعمًا من مؤسسات ثقافية أو مبادرات نسوية عربية لنشر الكتاب؟

نصر: لا، لم يكن هناك دعم مؤسسي، لكن كان هناك دعم إنساني حقيقي من أصدقاء وآمنوا بالفكرة وساعدوني على النشر. النساء دائمًا يخلقن شبكات دعم صامتة، لكنها صادقة.

تدوين: ما الرسالة التي تودين أن تصل إلى القارئ العربي أو الأجنبي من خلال هذا العمل؟

نصر: أن يرى الإنسان الفلسطيني خارج صورة الضحية النمطية. نحن نحلم، نحب، نكتب، ونحاول أن نحيا حياة كريمة كباقي شعوب الأرض الحرّة.

تترك آية أبو نصر أثرًا هادئًا، عميقًا، ومليئًا بالصدق، حين سُئلت عن حلمها القادم، لم تتحدث عن السفر أو الجوائز أو المنصات، بل قالت: أريد فقط أن أرى غزة تبتسم من جديد، وأن أكتب يومًا عن الفرح كما كتبت عن الألم."

لتبقى كلماتها تسافر كما لا تستطيع هي أن تسافر، في حكاية حياة لا تُختصر بالموت، بل تُروى بالحب والذاكرة والبقاء.